الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
الكتابة الآن مهنة من لا مهنة له!

الكتابة الآن مهنة من لا مهنة له!

من لم يقرأ مقالات الأستاذة الرائعة «سناء البيسى» فقد فاته الكثير من متعة القراءة وفن الكتابة الراقية فى كل موضوع تكتب فيه!!



وأعترف أننى واحد من الذين وقعوا فى غرام كتاباتها، سواء كانت مقالات تشغل صفحة كاملة من أهرام يوم السبت وأحتفظ بها إلى أن تصدر فى كتاب مستقل!

دائما ما كان يشغلنى سؤال محير: لماذا يحب القراء مقالات فلان حتى لو كانت صفحة كاملة، ولايطيقون مقالا من عدة سطور لفلان؟!.. وجدت إجابة السؤال عند الأستاذة «سناء البيسى» والإجابة تهم كل من أمسك ورقة وقلما وكتب كلمتين أو بوست فتصور نفسه الكاتب الجهبذ أو الكاتبة الجهبوذة!!.. مقال الأستاذة سناء عنوانه «الكتابة نسب» وهو أول مقالات كتابها البديع والجميل «مصر  يا أولاد» تقول فيه: «فى زماننا لم يعد فارق بين وظيفة الكاتب والوظائف الأخرى، بل أصبحنا نجد الفارق جليا واضحا فى المهنة ذاتها».. بين الكتاب والكتبة، قلم الكتّاب متصل بوريد القلب وقلم الكتبة متصل بوريد المصلحة!! الكتّاب يكتبون ما تمليه عليهم ضمائرهم، والكتبة يكتبون ما يُملى عليهم!! الكتابة انفصلت عن القراءة وتراجعت الموهبة وغدت الثقافة علاقات عامة وموبايلات مسجلا عليها تليفونات أهم الشخصيات، وبالتالى لا بد أن نعيد النظر فى متى يغدو الكاتب كاتبا على ضوء أن سوق الكتابة فى انقراض، وعلى رأى «توفيق الحكيم» فى هذا الزمان أصبحت الأقدام أهم من الأقلام!!.. وبالأمس دخل صاحبنا صالة التحرير رابطا «صباع رجله  فسألوه: سلامتك إيه اللى جرالك؟! فأجاب: صباعى انكسر!! فأتاه الرد المفحم: بطّل كتابة لأجل تريحه!!.. الكتابة الآن قد غدت مهنة من لا مهنة له، لكل مهنة شروط وشيوخ إلا الكتابة الآن أصبحت ما لها شيوخ ولا مرجع، سوق الكتابة جبر ودخلت الصورة تهزم الكلمة وتكدس الجرنال بربطة المطبعة على الرصيف ليباع بالوزن لمهمة القرطاس.. والغريب والطريف أن الصحافة الآن قد غدت باسبورا لإثبات الذات والشرعية فى المجتمع بعدما غزتها جميع الطوائف، فالدكتور والأستاذ والعالم والنائب والباشمهندس والمحلل النفسانى والسكرتير العلانى والمذيع الترتانى والخبير الغذائى والدوائى ومحلل الفتاوى والحكاوى والشكاوى كلهم، كلهم يعيش الواحد منهم ويموت ونفسه رايحة لحاجة واحدة لا غير للوصول للناس يقول لهم من خلالها أنا هنا.. مقالة فى جريدة أو جرنال عامود يذيله باسمه بحروف الطباعة يفتح الجرنال عليه ويصفق هيه؟؟؟!!

ومن هنا أسفت ودهشت للعالم الطبيب الكبير صاحب الأربعين عاما فى مجال الطب عندما لاحظت مكوثه قابعا فى حجرة السكرتيرة أكثر من مرة فى انتظار السماح له بكتابة عدة سطور على صفحات الجريدة تجعله محط الأنظار خارج دائرة المرض.. كاتب عمود أصبحت رتبة زى الباشوية والبكوية.. العامود الصحفى غدا بمثابة ميلاد جديد فى دوائر المجتمع من خلاله تكتسب الشهرة الحقيقية التى قال عنها الشاعر «حافظ إبراهيم» يوما:

لكل زمان مضى آية.. وآية هذا الزمان الصحف.. ومن هنا عذرت يوما الكاتب الكبير.. زكى نجيب محمود الذى لقيته بعد أن كان قد أمضى أكثر من أربعين عاما يطل علينا فيها بمقالاته ونظرياته وفلسفاته وجدت له عذرا عندما تبت على وجهه مظاهر الانتعاش والحبور لحظة نقلت إليه إعجاب «سعاد حسنى» بمقالته فى الأهرام !! ابتسم الفيلسوف كأننى منحته قالبا من الشيكولاته معلقا بسعادة بادية: سعاد بتقرالي؟!.. وأبدا لم يكن ورم الأبناط فى كتابة الأسماء أو شهرة الجرنال دافعا على إقبال القراء، وعلى سبيل المثال الكاتب يحيى حقى بوزنه الثقافى وقامته المعرفية الفارعة عندما عرضت عليه الصحف الكبيرة أن يكتب لها رفض بإباء وفضل الكتابة فى صحف دار التعاون قليلة التوزيع بمنطق أن القراء يذهبون للكاتب وليس للجرنال، ومن هنا استمتع قراء «التعاون» بأندر السطور التى جمعها الناقد فؤاد دوارة مشكورا فى أهم كتب أدب المقالة العربية على طول تاريخها.. ويظل يحيى حقى الكاتب الشامخ الذى لا يذكر اسمه إلا ومعه قنديل أم هاشم.. الأديب الصادق مع نفسه ومع القارئ، عندما وضع القلم جانبا قبل وفاته بكثير لشعوره بأن مداد العقل قد جف وأنه لن يستطيع أن يضيف جديدا.. توقف «يحيى حقى» بينما ظل آخرون يتحفوننا بكتابات فسيولوجية أى بإفرازات آدمية!!.. وتمضى الأستاذة «سناء البيسى» فى وصف حال الكتابة والكّتاب فتقول: «أقلام ارتدت هدوم غيرها، وهدوم غيرها واسعة عليها، وأخرى تتدارى فى مسوح رهبان والبعض يحبك العمة لكن من غير وضوء، ومن شاف الباب وتزاويقه ماشافوش من جوه نشف ريقه!!

أقلام لصوص أفكار بدعوى الاقتباس تنقش عن الغير بالمسطرة كبد الكتاب وجرس القصيدة وروح البحث وجسد المقال؛ وتخوفا من تهمة السرقة من أن تذاع فى برنامج أو على قهوة أو فى رواق جمعية أدبية أو فى باب نقد يؤتى بذكر صاحبه الخلق الحقيقى فى معرض السطور على الماشى أو فى زاوية هوامش ضمن كشف مراجع جهود البحث والتنقيب!!.. أقلام يكتب اسمها بحروف طباعة فى غلظة لافتات الانتخاب تظل راكزة باركة ع النظر والقلب حتى زوال الكرسى من تحتها، وهنا أتحداك أن تظل فى تلابيب الذاكرة قشرة لذكرى سطر أو كلمة أو حرف منها ترك أثرا. أو فكرة أفادت أحدا، أو رأيا ذُكر على جانب من الأهمية، أو أن أصحابها يوما قد أزاحوا بلفائف أطنان كتاباتهم الساكنة حبة رمل فى ملليمتر أرض، أو ردموا ثقبا أحدثته قدم نملة أو سدوا شقا انزلق داخله برص أو زرعوا فسيلة على ضفاف غيط برسيم!

أقلام جريئة وأقلام بريئة وأقلام مدنسة وأخرى طاهرة سامية البعض شامخ والبعض شايخ، أقلام صادقة تزرع الأرض زهر أزكى الرائحة، وأخرى مدعية تموه سطح الرمال المتحركة بورود بلاستك وتالتة زرعها أشواك وميتها جاية فى مصرف من بحور الدم «وأقلام ترمى الشباك» بنعومة الكوبرا توقع بفريستها وتسحبها مسلوبة الإرادة فوق ريش النعام وتخنقها بمنديل ناعم حرير تدفنها ملفوفة داخل راية التبجيل ووراها جنازة حارة بمزيكا المارشال.. وأقلام تقول رأيها فى النور تكتب بحروف من نور، وأخرى عاشقة للضلمة تنخر فى الجذور وتمتص رحيق الساق وتلبد فى الذرة، وأقلام لها أسنان تنهش الأعراض وتنخر فى جروح النفس وتمزق أشلاء الروح بأظافر الكلمات وتصلب ضحاياها وتقطع الأوصال بشبكات الاتصال، وأقلام لسانها مقطوع ونفسها مقطوع وهى ذات نفسها مقطوعة من شجرة مالهاش حد!!.. أقلام فى الفارغة تلت صفحات وفى الهايفة تعجن ملازم ورق تلقفها مطابع السادة تحصنها بغلاف مقوى وبصمة ذهبية لتخرجها بعد الطبع كوشيه فشر موسوعة البرينانيك ديكورا لمكتبة فلان بك وفلان باشا وصاحب المعالى فلان!! وأقلام تسهر عمرها منكبة تستقطر عصارة عمرها أفكارا على ورق لحمة».. ولم يكن ذلك هو كل ما كتبته سيدة الكتابة الراقية سناء البيسى بل بعضه فقط!

وللمقال وللحكاية بقية!!