الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
«طلعت حرب» بقلم خليفته «عفيفى باشا»!

«طلعت حرب» بقلم خليفته «عفيفى باشا»!

فى نفس اليوم الذى تم فيه قبول استقالة «طلعت حرب» من رئاسة بنك مصر، اختارت الجمعية العمومية لبنك مصر «حافظ عفيفى باشا» بديلا لـ«طلعت حرب»!



 

كان اختيار «حافظ عفيفى» مفاجأة تامة للمصريين فى ذلك الوقت، فالرجل لم يكن يخفى إعجابه الشديد بالإنجليز، بل إنه قام بتأليف كتاب عنوانه «الإنجليز فى بلادهم»، وكان من رأيه الذى عبّر عنه فى حوار مع الأستاذ «كامل الشناوى» ضرورة الارتباط بالإنجليز إلى أقصى حد، ودافع عن معاهدة سنة 1936.

 

ويؤكد الباحث الأمريكى «إريك دافيز»: كان الدكتور «حافظ عفيفى باشا» يقف فى مركز المؤامرة التى كانت تهدف إلى الإطاحة بـ «طلعت حرب»، وكان معروفًا بحبه للإنجليز، وأنه بريطانى أكثر من البريطانيين أنفسهم.. وعين سفيرًا لمصر فى إنجلترا فى الفترة ما بين عامى 1930 و1934، ثم مرة أخرى فى الفترة ما بين عامى 1936 و1938.

 

وعن علاقة حافظ عفيفى بـ «طلعت حرب» يقول:

 

«وفى عام 1934 عين «طلعت حرب» الدكتور عفيفى مديرًا لشركة مصر للتأمين الحديثة التأسيس، وفى عام 1938 تمكن «طلعت حرب» من إغراء «عفيفى» بالاستقالة من منصبه كسفير لمصر فى إنجلترا ليتولى من جديد منصبه كمدير لشركة مصر للتأمين، مع الاشتراك فى عضوية مجالس إدارات أربع من شركات بنك مصر الأخرى!

 

والأرجح أن «طلعت حرب» شخصيًا أملاً منه فى ضمان استمرار بنك مصر قد اختار شخصًا يتمتع بالاحترام فى دوائر رجال الأعمال المحليين والأجانب على حد سواء.

 

وتدريجيًا استبدل «حافظ عفيفى» الرئيس الجديد للبنك كل المديرين الذين عملوا مع «طلعت حرب» والذين كانوا قد وضعوا تصورًا للدور الأصلى لبنك مصر فى توفير رءوس الأموال للمشروعات الصناعية والتجارية الجديدة».

 

** لكن ما يثير الدهشة هو ما بدر من «حافظ عفيفى باشا» نفسه بعد وفاة «طلعت حرب» فى 21 أغسطس سنة 1941 عندما طلع على الناس والقراء بمقال فى مجلة «المصور» عنوانه «الفقيد الغالى» جاء فيه:

 

«طلبتم إلىّ أن أكتب للمصور كلمة قصيرة عن صديقى «طلعت حرب باشا» وأود فى هذا المقام أن أترك لغيرى من الكتاب والمؤرخين ماضيه الحافل وأن أتناول الكلام عن أثر مجهوداته فى المسائل الاقتصادية والمالية.

 

لقد أذعت بالراديو محاضرة قبل وفاة الفقيد بأيام قلائل قلت فيها إن إنشاء بنك مصر كان بداية ثورة اجتماعية واقتصادية خطيرة رفع علمها «طلعت حرب باشا» فى سنة 1920.

 

والواقع أن إنشاء بنك فى بلد كمصر برأس مال مصرى يديره رؤساء مصريون ويتولى العمل فيه موظفون مصريون كان عملا جريئا يحتاج تنفيذه إلى إقدام شخصية بارزة كشخصية «طلعت حرب»، فلقد عاشت مصر قرونًا عديدة وهى لا تفكر إلا فى الزراعة، كما اعتاد المصريون على ألا يستثمروا أموالهم إلا فى شراء الأطيان، أما الصناعة والتجارة وجميع أنواع الاستثمار الأخرى، فقد حبس المصريون أموالهم عنها وتركوها وقفا على الأجانب وحدهم، وكانوا يفضلون غلة الأطيان القليلة المأمونة على ربح الصناعة الكبير المحتمل.

 

أسس «طلعت حرب باشا» بنك مصر برأس مال صغير أول الأمر، ثم وصل إلى مليون جنيه بعد سنوات قليلة، ثم أسس شركات عديدة أخرى برءوس أموال كبيرة واستطاع فى زمن يسير أن يدفع بالكثيرين من المصريين إلى المساهمة بملايين الجنيهات فى هذه الأعمال التجارية والصناعية.

 

كما استطاع فى مدة وجيزة أن يعد آلاف الشبان لتولى الأعمال الفنية والمالية والإدارية التى تتطلبها هذه المشروعات الكبيرة.

 

تأسس بنك مصر بهذا المبلغ الذى اتخذ بعض الناس من تفاهته مادة للتهكم والسخرية وتثبيط الهمم، وأنشئ بنك مصر وليس بين أبناء مصر من يعرف عمل البنوك، ولكن «طلعت حرب» استعان ببنك مصر نفسه فجعله مدرسة يعلمهم فيها بنفسه ويشاركهم العمل بيده وفكره ويساهرهم عليه، وزاد فأجرى أعمال البنك باللغة العربية حتى أحس مواطنوه أن فى مصر عملا جديدا نافعا فأقبلوا عليه وهم لايزالون مترددين، ثم لم يلبث حتى وجده المصريون عملا قوميا جديرا بالإعجاب والتقدير، إذ ربى كثيرا من أبناء مصر على حياة جديدة لم تكن مألوفة، وإذ تفرع عن هذا العمل النافع أعمال أخرى نافعة.

 

وفى الحق أن إنشاء بنك فى بلد كبير كمصر وحالها كان على ما وصفت يعتبر من الجرأة بمكان ويدل دلالة ظاهرة على ما امتاز به هذا المصرى العظيم من نفس قوية وإرادة غلابة وهمة بعيدة.

 

وثمة محاولة جريئة أخرى أقدم عليها الفقيد العزيز دلت على بُعد نظره وهى المحاولة التى حقق بها مشروع صناعة الغزل والنسيج فى المحلة الكبرى وهو مشروع كان يحتاج هو الآخر إلى الجرأة والإقدام.

 

فقد ظلت مصر طوال معظم الخمسين سنة الأخيرة فى وضع شاذ متناقض، إذ بينما تنتج أفخر قطن لا مثيل له فى العالم وتتكلف له الكثير فى سبيل ترويجه وتصريفه خامًا إلى الخارج، كانت تستورد فى الوقت نفسه القطن الأجنبى فى صورة خيوط مغزولة وأقمشة منسوجة تزاحم به قطنها بلا منطق معقول، وكانت سياسة التعريفة الجمركية سياسة الباب المفتوح، فلم توضع على أساس اقتصادى سليم لتشجيع قيام الصناعات وحمايتها مثلا، بل كانت موضوعة كمصدر إيراد للدولة وكفى!

 

يضاف إلى ذلك تلك المنافسة الأجنبية العنيفة التى تحارب كل ما تصادفه من الصناعات المصرية الناشئة بأسلحة مشروعة وغير مشروعة، فضلا عما تلاقيه المنافسة الأجنبية فى بلادها - حكومة وشعبًا - من المعاونة المختلفة وما تمتاز به من طويل المران وواسع الخبرة وقوة المال.

 

هذا إلى الترويج بمختلف الدعايات للفكرة القائلة بأن مصر لا تصلح أن تكون بلدا صناعيا خاصة لصناعة الغزل والنسيج، إذ قيل فى يوم ما إن «جو مصر» لا يلائم هذه الصناعة، وأن ماء النيل لا يصلح لصباغة وتبييض الأقمشة.

 

ورغم كل أساليب تثبيط الهمم التى صادفها «طلعت حرب» فى سبيل هذا المشروع، فإنه أقدم على تنفيذه مؤمنًا بأن الله الذى جعل من أرض مصر أجود تربة لأجود قطن فى العالم قد جعل جوها صالحًا، وهيأ لها بقدرته كل العوامل الأخرى اللازمة لنجاح صناعة الغزل والنسيج فى وادى النيل، فاستقدم الخبراء العالميين لدرس هذا المشروع واستعان عليه بإيمانه وجرأته وإقدامه حتى نجح المشروع وأفاد البلاد فائدة عظيمة، بدأ أثرها المحسوس فى الحرب الحالية «العالمية الثانية» التى تعطلت فيها وسائل النقل البحرى وانقطع ورود البضائع الأجنبية وأحست مصر بالوفر العظيم الذى توافر لها من وراء قيام هذه الصناعة سواء فى الحصول على مطالبهم الضرورية من هذه المصنوعات، أو فى قلة أثمانها بالنسبة لما كانت عليه فى الحرب الماضية أو فى استهلاك جزء كبير من القطن المصرى، داخل البلاد أو فى استخدام عشرات الآلاف من الأيدى العاملة المصرية، أليست هذه ثورة اجتماعية خطيرة؟!

 

**

 

ويمضى «حافظ عفيفى باشا» فى مقاله «الفقيد الغالى» فيقول:

 

«رحم الله الفقيد العظيم رحمة واسعة لقاء ما قدمه لقومه وبلاده من خدمات جليلة. لم يشق الفقيد الراحل طريقه فى الحياة مستندا إلى مال موروث أو جاه تخلف من الآباء والأجداد، ولم يكن من الأسر الكبيرة التى يعتمد أبناؤها على نفوذها وسلطتها وزلفاها لدى أولياء الأمور، ولم يشق طريقه مستندا إلى غيره، وإنما شق طريقه مستندا إلى نفسه، امتاز الراحل بذاكرة تعتبر فذة، ففى كل مصرف قلم للتحريات يدرس أحوال المقترضين والمستدينين، ولكن ذاكرة «طلعت حرب» أغنت عن هذه الأقلام فى البنك والشركات والمؤسسات، إذ كانت بمثابة قاموس مبوب مرتب منظم استجمع فيها تاريخ كل أسرة وكل شخصية وحقيقة ثروتها وديونها وحاجاتها، وهذه الذاكرة الشاذة الممتازة العالمية، كانت تسعف وتعطى حكمها فى الحال.

 

وامتاز الراحل بأنه كان خيرًا أفاض على بعض البيوت الكبيرة بره وعطفه ونجدته فأنقذها من الخراب واستهدف البنك من أجلها استهدافا لم تقره القواعد الفنية والأصول المصرفية، ولكن الرجل كان اجتماعيًا ومن خريجى المدرسة القديمة ذات الوفاء والولاء والمروءة ولو كره الاقتصاديون والفنيون!

 

وامتاز الفقيد العظيم بجرأة لا مثيل لها وإقدام لا نظير له، وقلب قُدّ من حديد، وسنده فى ذلك إيمانه بالله وإيمانه بأن مهمته أن يفتتح وينشئ ويتوسع ومهمة الدولة والحكومة بعد ذلك أن تجد نفسها أمام الأمر الواقع فتؤيد أو تدعم أو تنقذ، ولذلك نثر شركاته ذات اليمين وذات اليسار، واجتاز الحدود شمالاً ومشرقًا وعبر البحر الأبيض إلى فرنسا فأنشأ فيها فرعًا وتوسع واندفع وراء الأمل ووراء المواجهة بالأمر الواقع فنجح فى نواحٍ ولم ينجح فى نواحٍ، ولكن لولا إقدامه ما كانت لنا هذه المنشآت ولا هذه الشركات».

 

وأخيرًا يقول «حافظ عفيفى باشا» فى نهاية مقاله:

 

«خلف لنا الفقيد ثروة أدبية ومادية ملأت البر والبحر والجو، وربطت بين مصر والشرق وبين مصر والإسلام، ولئن كانت هذه الثروة فى نظر البعض مرهقة ببعض الديون فمن واجب الورثة أن يصونوها ويدعموها ويبعثوها من جديد، وهذا ما فعلته الحكومة والبرلمان، فقضى الرجل نحبه واختاره الله لجواره وهو يرى بعينيه أن ميراثه العظيم لأمته ودولته قد صانه الله.

 

رحمه الله رحمة واسعة وألهمنا فيه الصبر والسلوان».

 

للحكاية بقية!