السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
الملك فاروق يسحب أمواله من بنك مصر!

الملك فاروق يسحب أمواله من بنك مصر!

كان آخر ما يتوقعه «طلعت حرب» أن يتم إجباره على تقديم استقالته من كل مناصبه فى بنك مصر، وذلك لإنقاذ البنك من الأزمة المالية الطاحنة التى يمر بها!!!



لم يكن بنك مصر وحده هو الذى يعانى ماليًا بل كانت كل البنوك سواء فى مصر أو العالم تتعرض لنفس الأزمة بسبب نذر الحرب العالمية الثانية التى كانت تدق على الأبواب، ودخل العالم بسببها فى أكبر وأطول كارثة اقتصادية فى خريف سنة 1939 

الغريب فى الأمر أن «طلعت حرب» قبل عام من نشوب الحرب بكل تداعياتها الاقتصادية الكارثية على مصر والعالم كتب محذرًا ومنبهًا وكتب فى تقرير بنك مصر عن سنة 1938 يقول بالحرف الواحد:

«شهد العالم - فى عام 1938 - غيومًا لبدًا، وأحيط بالظلمات ركامًا بعضها فوق بعض، ونفخ الناس فيه رياح عاصفة من كل جانب أثارت النغمة وراء كل رأى وفكر واستنتاج، فلا خطوط الطريق واضحة سليمة ولا الجو كان هادئًا صافيًا، ولا البحر كان آمنًا ولا الأفق كان ينبئ عما وراءه، فالمقاييس والضوابط - على العهد بها - مختلة معتلة والنظريات مقلوبة والمنطق معكوس والنفوس تتقلب على جمر الشك والتردد، والعالم مأخوذ بهذه الحالة المعتلة المربكة كأن شبحا مخيفا يتعقبه، يريد أن يمسك به ليجرده من إنسانيته ويعود به إلى القرون الأولى، وإنا لا ندرى أشر أريد بمن فى الأرض، أم أراد بهم ربهم رشدًا».

ومضى طلعت حرب يقول، لقد فزعت النفوس إلا من الهوى والصدور إلا من الأنانية والأفئدة إلا من المطامع، وكل أولئك نوازع شر لا يستقيم معها أمر ولا يتضح نهج ولا يبين سبيل». هكذا كانت نبوءة طلعت حرب بما هو قادم من أزمة اقتصادية وسياسية قبل الهنا بسنة كما يقولون!

•••

فى ذلك الوقت تولى «على ماهر باشا» رئاسة الوزارة فى 18 أغسطس سنة 1939 خلفًا لوزارة «محمد محمود باشا»، وتشاء الصدفة أن يكون «على ماهر باشا» هو ألد عدو لطلعت حرب!!

هناك أكثر من تفسير لهذه العداوة الرهيبة، هناك تفسير الباحث الأمريكى «إريك دافيز» الذى يقول: «انخرط بنك مصر فى سياسة عرض مناصب فى مجلس إدارته أو فى مجالس إدارات شركاته على الوزراء السابقين، وثبت أن هذه السياسة كانت تؤدى فى بعض الأحيان إلى نتائج عكسية، فما كان من الممكن استرخاء كل الوزراء»

ويقال أن الخصام الذى تطور بين «على ماهر باشا» وطلعت حرب كان نتيجة لعدم عرض منصب فى مجلس إدارة بنك مصر على «على ماهر باشا» بعد عمله وزيرًا للمالية فى وزارة محمد محمود باشا عامى 1928 و1929.

ومع تقدم سن طلعت حرب وتدهور صحته أصبح البنك هدفًا لعدد من المؤامرات ورغم أن كثيرين كانوا يطمعون فى موقع طلعت حرب كمدير للبنك، فإنه فيما يبدو ولم يكن يشعر بكثير من الخوف من فقدان موقعه الخاص أو من الانهيار الاقتصادى، حيث كان يشعر أن الحكومة المصرية لا يمكن أن تسمح بأن تتعرض مجموعة شركات بنك مصر لمحنة مالية قاسية.

وتفسير آخر يقدمه الكاتب الكبير الأستاذ «محمد التابعى» فيقول:

كان طلعت حرب قد قدم قرضًا للمرحوم - مصطفى النحاس - بعد إقالته من رئاسة الحكومة - فى عام 1931 ونقم عليه المرحوم «على ماهر» وانتهز فرصة قيام الحرب العالمية الثانية فى أوائل سبتمبر سنة 1939 - وكان يومئذ رئيسا للوزراء - انتهز الفرصة وأثار عليه الملك فاروق الذى كان يثق به ويعده  رجل أبيه  الملك فؤاد، وأشار عليه بأن يسحب أمواله الخاصة الملكية من بنك مصر ثم عمل على نشر هذا الخبر فى كافة الأندية والمجتمعات.

وساد الذعر وتزاحم عملاء بنك مصر على سحب ودائعهم من البنك وهبطت أسهم بنك مصر وأسهم الشركات العديدة التى كان قد أنشأها، ولم يستطع «بنك مصر» أن يدفع للمودعين جميع أموالهم التى كانت مودعة عنده لأنه كان استثمرها فى إقامة صناعات عديدة!

وهنا اضطر أن يطلب سلفة كبير من البنك الأهلى الذى كان يومئذ تحت سيطرة الإنجليز، ولم يكن الإنجليز راضين طبعا عن إقامة صناعة مصرية، ومن ثم رفضوا طلب البنك، وتوسط على ماهر فى الأمر واشترط أن يستقيل طلعت حرب باشا من كل منصب يتولاه فى بنك مصر فى مقابل أن تضمن الحكومة المصرية أى قرض يقدمه البنك الأهلى لبنك مصر واستقال طلعت حرب رحمه الله فى عام 1940.

•••

ما جرى فى دهاليز وكواليس المحنة التى عاشها طلعت حرب الكثير من التفاصيل المحزنة بعض هذه التفاصيل رصدها د. محمد حسين هيكل باشا فى مذكراته والذى كان وزيرا للمعارف فى حكومة - محمد محمود باشا - ولم يشارك فى حكومة «على ماهر باشا» حيث يقول:

كان ذلك يوم 18 أغسطس وانعقد مجلس الوزراء الجديد بعد ذلك بثلاثة أيام فكان من بين قراراته إحالة «سليم بك حسن» إلى المعاش ، لكن أمرًا أجل خطرًا كان أكثر لفتا للنظر وأثار دهشة الناس وتعليقات الصحف، فقد استدعى «حسين سرى باشا» وزير المالية محمد طلعت حرب باشا مدير بنك مصر وتحدث إليه فى مركز البنك، وشركاته، وفى دقة هذا المركز توجب على الحكومة أن تتدخل لمصلحة المساهمين وأصحاب الودائع!

وطلب إليه أن يتنحى إدارة البنك، وترامى إلى الناس هذا النبأ ففتحوا عيونهم واسعة من الدهشة، فطلعت حرب هو مؤسس البنك منذ عشرين سنة، وهو الذى أنشأ شركات البنك واحدة بعد أخرى، وبعث فى البلاد نهضة صناعية لم تعهدها من قبل، وهو لهذا السبب موضع  تقدير الشعب وإكبار وإجلاله، أفيعامل رجل خدم بلاده أجل خدمة على هذا النحو المهين وهو الجدير بكل إكرام وتقدير! وتولى طلعت حرب لهذه المفاجأة ما تولى الناس جميعا، لقد كان بنك مصر يعانى هذه الفترة أزمة تعانيها المنشآت المالية جميعا بسبب الأزمة المالية الطاحنة التى حلت بالعالم واستمرت عدة سنوات، لكن الرجل لم يكن يحسب أن الأمر سيصل بالحكومة إلى أن تعامله هذه المعاملة!

هو فى نظر الشعب المصرى أكبر من وزير وأكبر من رئيس وزارة، لأنه هو الذى أقام المؤسسة المصرفية الكبرى والشركات التابعة لها بإقدامه فهو الذى خلق هذه المنشآت ولم يخلقه هو إلا الله، وهو لم يتهم يوما فى إدارته للبنك ولم ترق إلى نزاهته شبهة، وبعض الدعاية من جانب الحكومة للبنك كفيل بأن يعاونه على تخطى هذا المركز الذى لم يبلغ من الدقة ما يريد وزير المالية أن يصوره، لكن وزير المالية حاسم فيما طلبه! وللحكومة فى البنك ودائع ضخمة إذا هى فكرت فى نقله إلى بنك غيره، عرضت سمعة البنك للخطر، أى عرضت كيان البنك للخطر، والبنك هو «طلعت حرب» هو سمعته، وهو حياته، وهو تاريخه الباقى كى تستطيع الأيام محوه، ما بقى البنك قائما، ووزير المالية حاسم قاطع فى طلبه أن يتنحى منشئ البنك عن إدارته، وهو يضرب له موعد ثلاثة أيام ليتلقى جوابه، وهذا الموعد آنذاك نهائى معناه أن ينزل طلعت حرب على الحكم أو أن تقف الحكومة من البنك موقف الخصم!

ويمضى د. محمد حسين هيكل فى شهادته قائلا:

ما عسى تكون الخواطر التى مرت بنفس طلعت خلال ثلاثة الأيام التى ينتهى فى آخرها هذا الإنذار النهائى وكيف يقضى الرجل هذه الأيام الثلاثة وهو يفكر فى النزول عن عرش مصرفه بعد أن أقام قواعده، وبعد أن أمضى فيه وفى شركاته عشرين عاما كان أثناؤها مقصد العشرات والمئات والألوف من المصريين شبانا وشيبا، رجالا ونساء، أغنياء وفقراء وكان أثناؤها صاحب الكلمة المسموعة والرأى النافذ!

لقد ذهبت إليه بمنزله قبل ذلك بأسابيع إجابة لرجاء من أحمد ماهر باشا وزير المالية أحدثه فى وسيلة يقترحها لدعم البنك، فكبر عليه أن يسمع أن البنك فى حاجة إلى دعم وأخبرنى أن كل شىء يسير فيه على أقوم طريق، أما وهو اليوم إزاء هذا الإنذار من وزير المالية الجديد فلا مفر له من أن يتخذ قرارا إما بالتخلى عن إدارة البنك، وإما بالتعرض لوقوف الحكومة من البنك موقف الخصومة! وأثر الرجل أن يتخلى عن إدارة البنك إبقاء على تاريخه، فأبلغ وزير المالية رأيه قبل انقضاء الموعد المحدد له، واختارت الوزارة الدكتور حافظ عفيفى باشا مديرا للبنك مكانه.

وللحكاية بقية.