الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
طلعت حرب: إقالة لا استقالة !

طلعت حرب: إقالة لا استقالة !

حتى آخر لحظة كان طلعت حرب.. يأمل فى عبور وتجاوز الأزمة المالية الرهيبة التى كان يجتازها بنك مصر فى خريف  سنة 1939.



كان طلعت حرب يظن فى ذلك الوقت أن سر التدافع الرهيب من آلاف المودعين لسحب أموالهم من البنك هو خوفهم وهلعهم منذ أن نشبت الحرب العالمية الثانية فى  أول سبتمبر سنة 1939.

وزادت دهشة طلعت حرب عندما علم أن صندوق التوفير الحكومى سارع هو أيضا لسحب أمواله كاملة بينما لم يسحب مليمًا واحدًا من البنك الأهلى الذى كان يرأسه «سير إداورد كوك» الإنجليزى  الجنسية!!

وفى محاولة لإيجاد حل، ذهب طلعت حرب لمقابلة «سير إدوارد كوك» للحصول على قرص لمواجهة  الظروف الصعبة التى يمر بها البنك، لكن «السير إدوارد كوك» رفض ذلك الطلب بإصرار  شديد».

وقرر طلعت حرب أن يلجأ إلى الحكومة، وكان ظنه أن الحكومة ستقف بجواره فى هذه الأزمة، وكان طلعت حرب واهمًا فى ظنه وتأكد له هذا الوهم  عندما ذهب لمقابلة «حسين سرى باشا» وزير المالية وقتها وكان من أكثر الشخصيات حبا وولاء للإنجليز!! وكان يأمل أن يضغط الوزير المصرى على مستر كوك ليستجيب لطلب إقراضه !!

••

إن اللقاء الذى تم بين طلعت حرب وحسين سرى وزير المالية كان على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة، ولقد حرص  الكاتب الصحفى الأستاذ «محمد على رفاعي» فى كتابه «رجال ومواقف» وكان من أقرب الناس إلى «طلعت حرب» أن يروى تفاصيل ما جرى بالضبط، حيث يصف ما جرى بأنه «حلقة» من سلسلة مؤامرة استهدفت القضاء على طلعت حرب وعلى البنك معًَا!!

ويضيف قائلا: ومع الأسف كانت وزارة المالية فى الحكومة القائمة يومذاك شريكة فى هذه المؤامرة الاستعمارية، ذلك أنها أوعزت إلى صندوق توفير البريد الحكومى بسحب أمواله من البنك دون البنوك الأخرى ثم سحبت الحكومة أيضا جميع ودائعها من البنك، فوقف «طلعت حرب» عاجزًا  أمام هذا الحصار الذى ضيق عليه فشدد عليه الخناق، فلم يجد بدًا من طلب الاقتراض  من البنك الأهلى المصرى مقدما ضمانات للقرض تعد  من أقوى ما يمكن تقديمه فى مثل هذه الحالة، وفى مثل ذلك الأوان، وهو محفظته التى تضم سندات من الدين الموحد والممتاز وأوراقًا مالية هامة منها أو أوراق شركات البنك !

فرفض محافظ البنك الأهلى المصرى الإنجليزى الجنسية بشدة وكبرياء وكان رفضه هذا عملاً سلبيًا غير مشرف مخالف  لأبسط قواعد ومبادئ العرف المصرفى ولم يستغرب هذا الرفض  من الرجل فهو ينفذ سياسة استعمارية مسيطرة على سياسته المالية وهى سياسة سداها ولحمتها القضاء على كل عل عمل مصرى ناهض وناجح!

أما الذى يُستغرب حقا فهو أن تقف الحكومة القائمة يومها ووزير ماليتها موقفا أنكى وأشد من موقف الرجل الإنجليزي، فقد رفض الوزير وقف سحب ودائع وأموال صندوق توفير البريد أو ضمان الحكومة لودائع الأهالى ولمدخراتهم  لدى البنك !

لقد حمل الرجل العظيم نفسه وذهب إلى وزير المالية «حسين سرى باشا»  فقال له : 

 إننا نرجو من الحكومة إلا واحدا من ثلاثة أمور: إما أن تصدر بيانا ينشر فى الصحف بضمانها لودائع الناس لدى البنك، أو أن تحمل البنك الأهلى على أن يقرضنا مقابل «المحفظة»كضمان للبنك! أو أن تأمر بوقف سحب ودائع صندوق توفير البريد !

قال سرى باشا: بشرط واحد !

فسأله طلعت باشا بلهفة: وما هو ؟!

قال «سري» باشا: أن تترك البنك !!!

قال طلعت باشا على الفور: من الآن، مادام فى تركى حياة البنك، فلأذهب أنا وليعش البنك !!

ثم قال «سري» باشا بلهجة التقريع : 

مصانع المحلة الكبري، أى ضرورة ملحة لجأت إلى إقامتها وتنفق على تشييدها هذا المال الطائل ؟!

فقال طلعت باشا متهكما وساخرا ومؤدبا: 

تندد الآن بمصانع المحلة وقد كنت تعمل مستشارا هندسيا لها بستمائة جنيه فى السنة ؟! لماذا قبلت العمل بها مادامت فى نظرك قد قامت فى غير ضرورة ؟!

ثم وقف «طلعت حرب» وتهيأ للانصراف بعد أن زاد فى تقريع الوزير «سرى باشا» قائلا : 

-يا «حسين باشا» أنت لا تزال صغيرا وعندما تتقدم بك السن وتكبر وتكبر مصانع المحلة ستعرف قيمتها !!

وأدار ظهره لمحدثه السقيم وانصرف دون أن يجيبه !!»

••

غادر طلعت حرب مكتب وزير المالية ««حسين سرى باشا» وذهب مباشرة إلى مكتبه فى البنك ودعا أعضاء مجلس الإدارة إلى اجتماع عاجل ومهم، فهرع الأعضاء وهم لا يعلمون من الأمر شيئا، وإذا بهم يفاجأون به يقدم إليهم استقالته، بعدما روى لهم ما جرى للبنك منذ بدء أزمة سحب المدخرات ثم محاولته إنقاذ الموقف مع وزير المالية، فذهبت المحاولة فى الهواء !

 فحاولوا أن يثنوه عن عزمه فأبى وغادر الاجتماع، وفى أعينهم دموع ناطقة بالحسرة والأسى على تنازل الملك عن عرشه هكذا ببساطة تامة مؤثرا حياة البنك على حياته ووصل  الرجل إلى داره راضيا عن نفسه وعما صنع !!

وجاء نص استقالة «طلعت حرب باشا» كما يلي:

«حضرات رئيس وأعضاء مجلس إدارة بنك مصر 

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فتعلمون حضراتكم ما أراد الله أن يمتحننى به من مرض أقعدنى عن مواصلة العمل معكم زمنا وترك أثره الدائم بما جعل معاودته عبرة إن لم تكن مستحيلة، وتعلمون مبلغ حرصى على ألا يقوم على أعمال  بنك مصر ومنشآته إلا كل من توفرت له ظروف القيام بها على الدرجة الأكمل مما لا أعتقد أننى صالح له الآن.

وتعلمون أخيرا كيف أننى تحاملت على نفسى وأنشأت من الضعف قوة مدة عامين كنت أباشر فى أثنائهما أعمالى فى البنك ومنشآته بما تعلمون من جهد، ولكننى أشعر الآن بأننى أصبحت بحال قرر الأطباء فيها ضرورة أن أتخلى عن العمل تماما للعناية بصحتى : 

وإننى لهذا أرجو من حضرات أعضاء مجلس الإدارة قبول استقالتى من عضوية المجلس وما يتبعها من مسئولياتى وتبعاته، راجيا المولى أن يسدد خطاهم فيما يعود على البلاد والبنك  بالنجاح. 

 وانتهز هذه الفرصة لأشكركم من قلبى على ما قمتم به من جليل المعاونة فى القيام بالتبعات التى كان من حظى أن حملناها معا، وما أخلصتم من ود وتعاون سيبقى أثرها فى نفسى مدى الحياة.

كذلك أرجو أن تبلغوا جميع أبنائى من موظفى بنك مصر أسفى لفراقهم ولهجرانى المعيشة بينهم، وتقديرى العظيم لجهودهم التى وصلت بالبنك إلى ما وصل إليه.

وختاما أرجو أن تتقبلوا أسمى تحياتي.

«محمد طلعت حرب»

وجاء رد بنك مصر على استقالة طلعت حرب على النحو التالى بالضبط : 

 حضرة صاحب السعادة «محمد طلعت حرب» باشا 

 تحية وسلاما، فقد اطلع المجلس منعقدا على كتابكم الذى به تستقيلون من عضوية مجلس إدارة البنك وما يتبعها مراعاة لحالتكم الصحية التى تستوجب العناية، وكلنا كان يحب لو أن الظروف جرت بغير هذا  حتى لا يحرم البنك وتحرم البلاد جهودكم التى  ثم ألزمها التوفيق من عشرين عاما  قد تم أثناءها سفينة  الاقتصاد الوطنية كأمهر ما تكون القيادة، وخلقتكم فى البلاد روحا اقتصادية كان ميئوسا من وجودها لولا ثقتكم بالله وبأبناء وطنكم التى شاء الله أن تتحقق بما يفوق كل حسبان. 

يحزننا حقا أن نحرم من معاونتكم، وأن تحرم البلاد من ثمرة جهودكم، وأن يحرم شباب مصر من مثل حى يزكى فيه جذوة الإقدام ورغبة التغلب على المصاعب على أن ما تستوجبه صحتكم الغالية من الراحة ليس معناه أنكم خرجتم من ميدان العمل المفيد فإن ما بنيتم للبلاد من مجد، وما أقمتم عليه من الدليل على وجود القوى الكامنة فى هذه الأمة سيبقى على الدهر تمثالا حيا تخلد به ذكرى أعمالكم المجيدة وينسج على منواله كما يرجى له من نجاح، وأننأ إذا نقبل آسفين  أن تتركوا  مكانكم بيننا سنبقى دائما على العهد نستوحى مثلكم فى أعمالنا راجين أن يوقفنا الله لأن نتم بها ما بدأتم، ونزخرف  ما شيدتم وأن يكون منا – مجتمعين – ما يسد بعض الفراغ الذى يوجبه تخليكم عن العمل.

ويرجو أعضاء  المجلس وجميع أبنائكم من موظفى البنك ومنشآته أن تتقبلوا أحسن تمنياتهم لكم بطيب الإقامة وسرعة استرداد العافية، راجين دائما أن تسمح الظروف  المقبلة باجتماع شمل عائلة بنك مصر مع زعيمها وقد منّ الله عليه بالصحة الكاملة. 

 وتقبلوا يا صاحب السعادة تحياتنا القلبية 

رئيس مجلس الإدارة 

 أحمد مدحت يكن 

 عضو مجلس الإدارة المنتدب 

 «فؤاد سلطان» 

 القاهرة فى 19 سبتمبر سنة 1939.

وللحكاية بقية.