الأربعاء 16 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

عمــرنا الــذى ضــاع فــى المواصــلات

عمــرنا الــذى ضــاع  فــى المواصــلات
عمــرنا الــذى ضــاع فــى المواصــلات


   عن تلك الساعات واللحظات الخاصة التى نعيشها فى الطريق، دونت يومياتى ويوميات بعض من قابلتهم فى المواصلات، فى السطور القادمة.قررت أمى أن تغير أثاث مطبخنا، الذى تراكمت عليه آثار السنوات، ودلنى الأقارب على شركة أثاث شهيرة فى كورنيش حلوان، واقترحوا أن أستقل الميكروباص من ميدان عبدالمنعم رياض فى التحرير.
 
وهناك سألت عن الميكروباص المتجه لحلوان، فدلنى السائقون فى الموقف على زميلهم سيد، وبنظرة ثاقبة من سيد، قال لى: اطلعى قدام يا آنسة، ولو عايزة تدفعى ثمن الكرسى اللى جنبك، براحتك، عشان تبقى براحتك، لأن السكة طويلة، ومش عايزين مشاكل فى الطلعة دى.
وافقت على الفور ودون تفكير وصعدت للمقعد الأمامى، ووضعت حقيبتى، بجانبى، وأخذ هو يكمل النداء بصوت عال.. حلوان.. حلوان.
 
كانت الساعة تقترب من الرابعة عصرا، حين بدأ الميكروباص فى التحرك، بعد أن اضطررت لتكرار جملة «محجوز»، كلما حاول بعض الأشخاص الصعود الى المقعد المجاور، ودفعت 6 جنيهات مقابل المقعدين.
 
لم أستطع أن أتجنب متابعة حديث الفتاة ذات الصوت العالى التى كانت تجلس فى المقعد الذى ورائى، وهى تحدث صديقتها فى المحمول، وتحكى لها عن أدق تفاصيل قصة الحب التى تعيشها، والحوار الذى يدور ليلاً مع الحبيب، واعتراضه على عملها فى محل الملابس،«هو برضه ياآية اللى خلانى أسيب الكوافير، وكنت باكسب منه كتير، وفضلت قاعدة شهرين فى البيت، ودلوقت بيقول لى سيبى المحل، طيب يعنى هو الشغل بالساهل، أنا حاسة إنه معقد، وعايز يتحكم فيه وخلاص، وده اللى خلانى أسيبه السنة اللى فاتت، وانت اللى قولت لى أرجع له».
 
لم يشتت صوتها إلا رنة هاتف شخص آخر كان يجلس بجانبها بجوار الشباك، الذى اكتشفت بعد دقيقة واحدة من حديثه، أنه كهربائى، فقد كان يفاصل مع أحد زبائنه فى سعر التوصيلات، التى ستتكلفها الشقة، وعن أنواع الخامات التى سيستخدمها، وما إذا كان سيشتريها هو أم الزبون.
 
الكل يتحدث وكأن أحداً لا يسمعه، ويصر على التمادى فى الحديث دون أن يرجىء الحديث فى التفاصيل، حتى ينزل من تلك المواصلة الضيقة، التى لاتسمح بأى خصوصية.
 
مضت نصف ساعة تقريباً، وكأننا لا نتحرك، ووصلنا بالكاد إلى كورنيش جاردن سيتى، وهنا سأل السائق سائقاً آخر آتياً فى الطريق المعاكس، عن سبب توقف الحركة، فرد بشتيمة: ولاد الـ.. عاملين مظاهرة.
 
وبدأ الكثير من الركاب فى التحدث الى أهلهم، حتى لا يقلقوا على تأخرهم، ثم تعالت أصوات تحاول أن تطفىء غيظ الزحام من المقعد الخلفى، «يامسهل يارب، فكها من عندك بقى»، فقال أحد الركاب: حقهم ولازم نستحمل، فرد آخر: كفاية بقى البلد تعبت، عايزين نشوف شغلنا بقى.
 
وهنا التفت السائق الى الوراء قائلا: مش عايز كلام فى السياسة، عشان مش عايزين مشاكل، وإلا هاوقف العجل وأنزل الكل، ويبقى واحد يفتح بقه، وضغط على إذاعة أغانى إف إم، ونظر الى قائلاً: بتحبى القديم ولا الجديد، فقلت مؤثرة السلامة: كله حلو.
 
سمح لى صوت وردة فى أغنيتها «فى يوم وليلة» أن أطلق لنظرى العنان فى مياه النيل، فى محاولة للانفصال عن كل من حولى، للدرجة التى نسيت فيها لثوان قليلة إلى أين أنا متجهة ولماذا.
 
وبدأت الشمس فى الغروب حين عبرنا منطقة طرة الى المعصرة، فى الطريق الى حلوان، وانقلب طريق الكورنيش المليىء بالحياة، إلى طريق موحش مظلم، تملؤه المطبات، التى تصعد بالميكروباص وكأنه يطير، ثم ترطمه بالأرض، ليتألم كل الركاب، ليتسرب الخوف إلى قلبى، خاصة بعد نزول الكثير من الركاب، وبدأت أسأل السائق عن المكان، وأتظاهر أن أحدا من أهلى واقف بانتظارى قريباً، وأخذت أتمتم بآيات قرآنية، مع تصاعد دقات قلبى من الخوف.
 
كنت قد بدأت أشعر بالجوع والعطش، عندما وصلت إلى مكان شركة الأثاث، لكن كان أول أسئلتى إلى المهندسين هناك، هو كيف أعود إلى التحرير، دون ميكروباص، وكان الحل أن أستقل تاكسى، إلى محطة مترو الأنفاق.
 
وعندما عدت بالمترو ظلت النصيحة التى أرددها لكل من يقصد حلوان زائراً مثلى، هو أن يستقل مترو الأنفاق، دون تفكير.
 
∎ تغريدة من الميكروباص
 
«الميكروباص وقف والناس نزلت تزق، القاهرة، الجدعنة، الزحمة» كانت هذه هى الجملة التى كتبها إسماعيل، على صفحته على فيس بوك عبر هاتفه المحمول، بعد أن تابع رحلته فى الميكروباص، المتجه من رمسيس الى الحى الثامن بمدينة نصر، ليتابع تعليقات الأصدقاء التى توالت عبر هواتفهم، ليصف فيها كل واحد حاله هو الآخر وهو عائد إلى بيته.
 
يقول إسماعيل، 28 سنة، الذى يعمل فى شركة كمبيوتر فى شارع الفجالة، لم تكن هذه هى المرة الوحيدة التى أكتب فيها على فيس بوك، لأصف ما يحدث حولى فى المواصلات، لأننى تعلمت منذ أيام ثورة يناير، أن أنبه أصدقائى ومعارفى على أحوال الطريق، حتى يطمئنوا أو يأخذوا حذرهم، ولا توجد وسيلة أسرع من فيس بوك أو تويتر، للتواصل مع الجميع فى نفس الوقت.
 
لكن سيد عبدالعزيز، 37 سنة وأب لولدين، الذى يسكن فى إحدى قرى القليوبية، ويعمل فى شركة السكر بالحوامدية، ويستقل ميكروباص من القرية إلى شبرا، ثم يركب أتوبيس الشركة حتى الحوامدية، فيهرب من طول الطريق، بالنوم بمجرد ركوب الأتوبيس فى الصباح، خاصة إنه يعود من عمله بالشركة فى السادسة، ليذهب الى عمل آخر مسائى، ليمكنه أن يوفر مصروفات التعليم لولديه، وما يتبقى من وقت للعودة إلى منزله لا يكفى ليحصل على قسط من النوم، بل إنه أحيانا ما يبيت فى مكان العمل المسائى، خاصة فى أيام حظر التجول، المطبقة الآن من منتصف الليل حتى الصباح.
 
ولهذا فإن رحلة أتوبيس الشركة فى الصباح والعودة بعد انتهاء العمل، هى فرصة جيدة لسيد للحصول على قسط من الراحة والنوم، وإن كان على مقعد غير مريح.
 
∎ زحام لا يعرف مرضى السكر
 
اضطر وليد أبو السعود، 45 سنة، الى النزول من الميكروباص المتجه من التحرير لحلوان، عند منطقة مصر القديمة، رغم أنه بقى طويلا، ليجد مكانا مناسبا، لطول الطريق، بعد أن شعر بحاجته للتبول، فقد أمضى الميكروباص فى المسافة من التحرير إلى مصر القديمة أكثر من ساعتين. بسبب الزحام الشديد فى ذلك اليوم.
 
وليد، المريض بالسكر، يتمنى أن تكون هناك أتوبيسات مزودة بدورات مياه، على غرار السوبر جيت، الذى يستخدم فى التنقل بين المحافظات، لأن الوقت الذى يقضيه الراكب فى التنقل من منطقة لأخرى داخل القاهرة، يعادل المسافة التى يقضيها فى التنقل بين القاهرة وبعض محافظات الدلتا، أو محافظات الصعيد القريبة.
 
∎ شمعة فى عز الصبح
 
عملاً بالمثل الذى يقول: أشعل شمعة بدلاً من أن تلعن الظلام، فكرت مها سالم 32 سنة، أن تستثمر وقت بقائها فى السيارة مع زوجها، خلال رحلتهما اليومية من البيت للعمل وبالعكس، من منزلهما فى 6 أكتوبر، إلى عملهما فى وزارة الصحة فى شارع مجلس الشعب فى وسط القاهرة.
 
ثلاث ساعات على الأقل يقضيانها يوميا فى احتجاز إجبارى داخل السيارة، تصل الى خمس أحياناً، عند وقوع حوادث على المحور، وهى ليست بالقليلة، أو بسبب ازدحام لا يعرف سببه، بشكل أكيد، رغم محاولتهما تخمين الأسباب، خلال وقت الإحتجاز هذا.
 
لا حاجة لتناول الفطور فى البيت أو حتى تناول الشاى بالحليب، فيمكن أن يقوما بكل هذا فى السيارة، كما لا داعى لقضاء وقت طويل أمام المرآة لتمشيط الشعر أو ضبط طرحة الحجاب، أو حتى وضع الماكياج الخفيف الذى اعتادت عليه، فكل هذا يمكن إجراؤه فى السيارة.
 
هكذا قررت مها أن تستثمر وقت رحلة الصباح، فى تناول الإفطار وشرب الشاى، الذى تأخذه فى الماجين الحراريين، لها ولزوجها، الذى يأخذ رشفات كلما توقف الطريق.
 
وتوصلت مها الى أن بإمكانها أن تجرى جزءاً من واجباتها العائلية، خلال رحلة العودة، عبر هاتفها المحمول، للاطمئنان على الأهل والتواصل مع الأصدقاء، وما تبقى من وقت، تستثمره فى النقاش مع زوجها حول خطط الأيام التالية، ومواعيد زيارة الطبيب وغيرها، حتى إذا عادت الى البيت، يمكنها الإخلاد للنوم، مباشرة بعد إعداد طعام الغداء، والذى يمكن أن يتم تناوله، خلال رحلة العودة أيضاً، إذا اعتمدا على ساندوتشات ساخنة من أحد المحلات فى الطريق.
 
∎ المذاكرة فى مترو الأنفاق
 
طريقة مها فى استثمار وقت المواصلات تظهر بشكل لافت للجميع أيام الامتحانات، فى أغلب وسائل المواصلات المؤدية الى الجامعات والمعاهد، لا سيما مترو الأنفاق، وخاصة عربة السيدات، حيث تفترش مجموعات من الطالبات أرض العربات، فى شكل دوائر، ليراجعن معا بعض الأسئلة والأجزاء المهمة، التى يحملنها فى مذكرات تبدو متشابهة.
 
بعض الفتيات يفضلن أن يراجعن المذكرات وحدهن، فتجلس الواحدة منهن بمفردها، إن وجدت مقعداً، أو تقف بمفردها مركزة عينيها وتفكيرها فى المذكرات، غير ملتفتة الى الزحام والأصوات الصاخبة من حولها.
 
أما فى باقى أيام العام الدراسى، فتركز الكثير من الطالبات على نقل بعض المحاضرات من بعضهن، أو استكمال باقى الأبحاث أو التكليفات الأخرى، خاصة أن كانت المسافة كبيرة بين محطتى الجامعة وبيت الطالبة، أما إذا كانت المسافة لا تتعدى العشرين دقيقة أو أقل، فيفضلن أن يقضينها فى تبادل الأحاديث التى لا تنتهى.
 
∎ نصيحة أبلة إيناس
 
إذا سألك غريب، كم يدفع لسائق التاكسى، نظير المسافة من روكسى لرمسيس، فلن تستطيع أن تجزم له برقم معين مهما حاولت، فالرقم فى الأحوال العادية يتراوح مابين 22-25 جنيها، لكنك لا يمكن أن تتنبأ بالرقم الذى سيطلبه السائق فى الزحام، سواء كان التاكسى بعداد أو بغيره، ففى الزحام لا يعترف السائقون بالعداد، ويطلبون أكثر، خاصة إذا اجتمع الحر والزحمة معا، كما تقول أبلة إيناس، 63 سنة مدرسة الفلسفة بمدرسة مصر الجديدة الثانوية سابقاً.
 
لذلك فالنصيحة التى تتبعها أبلة إيناس هى أن تسأل السائق قبل أن تركب عن المقابل الذى سيأخذه، حتى لا تفاجأ بنظريات السائقين التى لا تنتهى، بحجة الزحمة.