مؤرخون ومعماريون واجتماعيون يقرأون: حركة بيوت العائلات المصرية
منى صلاح الدين
هل كانت المرة الأولى التى تفكر فيها عائلات مصرية الخروج من أحياء القاهرة التاريخية والحديثة إلى تجمعات بعيدة في شكل «كمبوند» بحثًا عن شكل آخر للبيوت ولعلاقات الجيران ولمفردات الحياة بأكملها؟.
ترى كيف تحركت بيوت المصريين وتشكل تخطيط شوارعها وتجمعات الناس والعائلات خلال القرون الأخيرة، وكيف ستتحرك هذه التجمعات فى المستقبل، وهل سيظل «الكمبوند» هو الشكل المفضل لسكن العائلات المصرية خلال العقود التالية، أم أنه «موضة» سرعان ما ستظهر موضة أخرى تخفيها؟
الإجابة عن هذه الأسئلة تحتاج إلى قراءات تاريخية وعمرانية واجتماعية.. قالها لنا الخبراء خلال السطور التالية.
حارات الصناع.. والسيطرة على سياسات الاقتصاد والإنتاج
المؤرخ الكبير د.عاصم الدسوقى، أستاذ التاريخ بجامعة حلوان، يرجع فكرة التجمعات السكنية التى ظهرت فى القاهرة فى شكل حارات لأصحاب المهنة الواحدة، إلى أن الحارة كانت مكانا للعمل والسكن خلال العصور الوسطى.
ضاربًا المثل بحارات النحاسين والصاغة والحدادين، المغربلين وغيرها، أو طائفة المهنة الواحدة، أو ترتبط الحارة بأسماء أصحاب الديانة الواحدة، مثل حارة اليهود وحارة النصارى، وحارة الروم فى منطقة الموسكى.
وتميزت هذه التجمعات بأن مكان العمل هو نفسه مكان السكن، الورش فى الطابق السفلى، والسكن فى الطابق الأعلى، وكل فئة تتجمع فى مكان واحدة ليشعروا بالأمان، وليسيطر عليهم شيخ المهنة أو شيخ الطائفة، من حيث الالتزام بقواعد وشروط المهنة، حتى لا يغلق أحدهم دكانه فى وقت معين ويظل يفتحه آخر فيزيد المعروض، وهو من يحدد حجم الإنتاج، فكان أصحاب الورش يلتزمون بإغلاق ورشهم فى نفس الوقت الذى يحدده شيخ المهنة.
ويلفت المؤرخ عاصم الدسوقى إلى أنه خلال فترة الاحتلال الفرنسى فى مصر«1798-1801» أمر نابليون بونابرت بفتح وإزالة أبواب الحارات، ليسهل تعقب قتلة الجنود الفرنسيين، الذين كانوا يستدرجونهم للحارات، أو يقتلونهم ويأخذون ما معهم من أسلحة، ويدخلونهم للحارة ويغلقون الباب وراءهم.
وبقيت الحارة مكانا للعمل والسكن حتى عام 1891، حين تم إلغاء طوائف المهن، واستبدال سوق العمل الحر بها، وكان الاحتلال البريطانى لمصر وراء هذا التغيير، لأنه جاء برؤوس أموال كبيرة وأراد أن يستثمرها، فألغى نظام الطائفة التى كانت تحدد كمية الإنتاج وعدد العاملين فى كل مجال وأوقات العمل، ومع سوق العمل الحر فتحت أبواب الحارات وتحطمت قيود العمل والإنتاج، وكل ما كان ضد سيولة رأس المال.
مدن العمال.. وهدف توفير الوقت والجهد لغياب المواصلات
فى عشرينيات القرن العشرين، ومع إنشاء بنك مصر بشركاته ومصانعه، فى كفر الدوار وكفر العلو ومصانع الغزل والنسج فى المحلة الكبرى، ومدينة العمال فى إمبابة فيما بعد، احتاجت المصانع إلى عمال كانوا يأتون إليها من القرى المجاورة مشيًا على الأقدام، قبل وجود شبكة المواصلات، فجاءت فكرة إقامة مدن يسكنها العمال بجوار المصانع، لتوفر لهم الوقت والجهد للعمل الإنتاجى، لكن هذا الوضع قلل من علاقات العمال بأهاليهم، الذين لم يكونوا يزورنهم إلا فى الأعياد والمناسبات.
«أبواب القاهرة الفاطمية.. من سكن الخائفين إلى سكن للأعيان»
ويقول الدسوقى إن القاهرة الفاطمية، أحاطها الفاطميون بأسوار وأبواب، لخوفهم من الاندماج فى مجتمع غريب عليهم، لكم بمرور الوقت فتحوا السكن فى المدينة للأعيان والتجار وصفوة المجتمع، ومعهم مجموعة من الحرافيش أو الطبقات الدنيا التى تخدم هؤلاء الصفوة، وبمرور الوقت تركت الطبقة الغنية القاهرة التاريخية بعد أن اكتظت بسكانها، فقصدت أماكن جديدة مثل الحلمية والعباسية وشبرا.
من أحياء القاهرة.. للكمبوند لتلبية رغبة الأغنياء فى التميز والحداثة والرفاهية
وفى أوائل القرن العشرين هاجرت الطبقة الغنية من أحياء الحلمية والعباسية وشبرا، إلى السكن فى أحياء الزمالك والدقى والمهندسين، ومصر الجديدة والمعادى وجاردن سيتى، طلبا للحداثة فى المبانى والعمارة وطريقة الحياة.
أما ما يسمى الآن بالكمبوند –فى رأى الدسوقي- فهو تجمع يسكنه أسر من طبقة اجتماعية بعينها «غنية أو متوسطة أو شباب» فى عزلة عن مجتمع المدينة والحياة الاجتماعية التى يعيشها سكان المدينة، ويرصد المؤرخ أن فكرة الكمبوند نشأت أيضًا فى البداية لتلبية رغبة الفئات الغنية فى السكن فى أماكن مميزة لا تغزوها الطبقات الأخرى، لكن أثبت الزمن أن أحدًا لا يستطيع أن يبقى مكانا للصفوة على حاله.
فبمرور الوقت وجدنا أنهم يهجرون الأماكن أو التجمعات أو القرى التى بدأت مميزة، ثم غزتها الطبقة المتوسطة، ليعيشوا فى تجمعات أخرى تشعرهم أنهم من الصفوة، على غرار ما سلكه سكان بعض القرى السياحية فى الساحل الشمالى، وفى كمبوندات بمناطق أخرى.
أسامة أنور عكاشة يرصد التحرك: من ليالى الحلمية.. لجاردن سيتي
ويتفق مع رؤية الدسوقى، المعمارى طارق والى، مدير مركز العمارة والتراث، موضحا أن حركة المجتمع تلك رصدها المؤلف أسامة أنور عكاشة فى مسلسله الخالد ليالى الحلمية، حين رصد حركة انتقال العائلات الغنية من الحلمية لجاردن سيتى، ليس هربا من الفقراء لكن رغبة فى الحداثة والتطلع للحياة الأوروبية فى طريقة السكن وتلبية المعمار لرفاهية السكان، «الفيلا بديلا للبيت، والعمارات العالية ذات المصاعد وغلايات التدفئة، وسلالم الخدم ومواسير القمامة، وغرف الخدم والغسيل».
ويوضح والى أن فكرة الكمبوند نشأت فى أمريكا وانتشرت فى فترة الرأسمالية العنيفة فى السبعينيات والثمانينيات، لتلبية رغبة الطبقة الغنية فى التميز، كما أن النظام الأمريكى يسمح لطبقات المتعلمين النابهين بالحصول على قروض تمكنهم من الحصول على وحدات سكنية فى هذه التجمعات المرتفعة المعيشة، لكن هذه الفكرة لم تنتشر فى أوروبا، لكنها انتشرت فى العالم العربى.
ويضرب المثل بالكمبوندات فى العالم العربى، بالمستعمرات الإسرائيلية، ومخيمات الفلسطنيين أو اللاجئين عموما، والتى تضم أناسا من فئة واحدة فى حالة مجتمعية معينة.
«فكرة إلى زوال.. ربما»
ويتوقع والى زوال فكرة الكمبوند المنتشرة فى مصر الآن مهما طال الوقت، مستندا على أنها «فكرة قائمة على التقطيع الاجتماعى، معزولة عن أماكن عملها، كما لا ترتبط هذه الكمبوندات بعوامل إنتاج أو عوامل اقتصادية، بما لا يجعلها أماكن للتنمية العمرانية، فالكمبوند هو مجرد مأوى أو سكن لفئة محددة، يأتى إليها سكانها من مقار عملهم البعيدة وساعات العمل الطويلة، ليخلدوا إلى النوم فقط، وسط حياة ساكنة هادئة «مميتة» فى عزلة اجتماعية ليس بها أى تنمية اقتصادية، فلا يوجد بها إلا أماكن للترفيه والتسلية، بعيدة عن التنمية الحقيقية للمكان والأرض، ولذا فإن وصف هذه الكمبوندات بأنها تنمية عمرانية غير دقيق»، هكذا يرى.
لكن الدكتورة سلوى عبدالباقى أستاذ الصحة النفسية بجامعة حلوان، ترى أنه «رغم سلبيات الكمبوند التى تشعر من يسكن فيها بالاغتراب والعزلة عن مشكلات وهموم المجتمع، لكن الكمبوند يوفر لساكنيه النظافة والخدمات التى لا توفرها الكثير من إدارات الأحياء، والتى وصل الفساد فيها لحد الركب».
ولذا تطالب سلوى أن يكون هناك نوع من التوازن، بحيث يتم الاهتمام بالقاهرة القديمة، حتى لو فرض على سكان أحيائها القديمة الالتزام بالنظافة، ودهان مساكنهم وصيانتها، كما هو موجود فى الأحياء الفقيرة فى أوروبا، فهناك أساليب كثيرة للصيانة والنظافة والتجميل، كزراعة أسطح المنازل فى الأحياء الفقيرة، لتضفى عليها بهجة وشكلًا جماليًا، خاصة عندما تتدلى النباتات من أعلى على واجهات البيوت على المبنى، حتى لا يشعر سكان هذه المناطق بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية.
نعم هناك مناطق يعيش فيها الفقراء وأخرى للأغنياء، لكن لا بد أن تجمعهما الصيانة والنظافة والتجمل.
وبعين الباحث النفسى يرى د. طلعت حكيم أستاذ علم النفس الإكلينيكى والعلاج النفسى بجامعة عين شمس، أشكالا مختلفة للكمبوند، كمبوند سكان المقابر، وكمبوند المناطق العشوائية، وكمبوند الأغنياء.
وهو يحب الحياة فى وسط الأحياء الشعبية التى يراها مازالت تتميز بالترابط الأسرى، وترابط العشرة بين الجيران الشارع أوالحارة، بما يعمل على السلام المجتمعى ويقلل مشاعر القلق والاكتئاب ويعلى من قيمة الانتماء للمكان وللوطن، بخلاف نمط العيش فى الكمبوند الذى تطغى عليه المادة، وتختفى فيه العلاقات الإنسانية.
أما أستاذ الاجتماع بجامعة القاهرة، د.أحمد زايد : فيؤكد أن أى مجتمع هو تجمع بين ثلاث طبقات «متوسطة وغنية وفقيرة»، على خلاف مجتمع الكمبوند الذى تعيش فيه طبقة واحدة على أطراف المدينة، بعيدًا عن طبيعة المجتمع المصرى التى تدمج بين أبنائه، مجتمع انعزالى، يخفى داخله، أشياء لا يعرفها أو يراها من يعيشون خارجه، مجتمع الكمبوند، الأقرب لمفهوم الشركة الذى تسود فيه القيم المادية والأنانية، وهو مجتمع بلا روح وغير متعاون.
ويتوقع عالم الاجتماع أن يأتى يوم يترك فيه سكان الكمبوند منازلهم ليعودوا إلى مجتمع المدينة مرة أخرى، فلا يزال هناك مجموعة كبيرة من الأغنياء يعيشون فى أحياء الأغنياء القديمة فى القاهرة، ويعرفون قيمتها ولا يفكرون فى تركها.