الثلاثاء 22 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الخصوصية فى العالم الرقمى الجديد

الخصوصية  فى العالم الرقمى الجديد
الخصوصية فى العالم الرقمى الجديد


لم يعد بإمكاننا فى هذا العصر الفصل بين شخصياتنا الافتراضية الرقمية وتلك الحقيقية، حتى لمن لايزالون يفضلون تصفح محيطهم الرقمى مستخدمين هويات غير حقيقية أو مجهولة لم تعد على الأقل دوائرهم الاجتماعية والعملية تستسيغ أن تشاركهم التواصل الاجتماعى إلا من خلال حساباتهم الرقمية الحقيقية أو الثابتة، أما المعاملات البنكية الرقمية فلا تتقبل من الأصل مفهوم الهويات المستعارة.. وبزيادة الضغط العام على مفهوم الانفتاح على العالم الرقمى يتغير العديد من الأشياء من أهمها ماذا سيحل بخصوصياتنا حين تصبح القدرة على تتبع وقياس كل تحركاتنا الرقمية أمراً عادياً؟

تحدثنا فى مقال سابق عن البيانات الكبرى «Big Data» التى تتكون كمحصلة لكل تفاعلاتنا فى محيطنا الرقمى والتى تمتد من مشاركاتنا على مواقع التواصل وحتى أنماط مشترياتنا وتصفحاتنا المختلفة، وذكرنا أنه فى الأغلب تستخدم تلك البيانات لتقديم خدمات أكثر تميُّزاً لكل منا على حدة، ولكن هذا المفهوم البسيط يفترض أن تلك البيانات لا تستخدم إلا من قبل الجهات التى شاركناها معلوماتنا وبالطرق التى تخدمنا فقط، ولكن الواقع ليس دائماً بهذه البساطة أليس كذلك؟
فيلم «The Circle»
لكى نتعرف على مدى تعقيد هذا الأمر سوف نستعين بعملين سينمائيين تتمحور قصتهما عن موضوعنا، حيث يتخيل أحدهما صورة لمستقبل افتراضى قريب، ويسبر الآخر أغوار قصة واقعية حدثت بالفعل، وكان لها ومازالت تبعات جسيمة على الواقع العالمى. لنبدأ بالأول وهو فيلم «The Circle» وهو فيلم صدر مؤخراً فى 2017 ويحكى قصة شركة تكنولوجيا رقمية عملاقة من وجهة نظر متدربة جديدة لديهم ذات شخصية حالمة، حيث تتطور الأحداث لنجد أن تلك الشركة تصبو لأن تقنع العالم أجمع بأن يستخدم كاميراتهم الرقمية متناهية الصغر كى يبث الجميع حياتهم بشكل يكاد لا ينقطع عبر مواقعها، ثم نكتشف قدرات تلك الشركة المخيفة على معالجة كل تلك البيانات بشكل لحظى لاستنتاج معلومات لا حصر لها عن مستخدميهم وغير مستخدميهم (وهى قدرة تكنولوجية حقيقية وليست خيالية تمتلكها حالياً بشكل أو آخر بعض الحكومات وعمالقة التكنولوجيا) وبدون كشف أحداث الفيلم الدرامية لمن لم يتسنّ لهم مشاهدته، فإننا نتعرض للوجه القبيح لاستخدام كل الوسائل لتسخير تلك التكنولوجيا لخدمة أهداف الشركة الهادفة للربح والسيطرة.
فيلم «Snowden»
وعلى النقيض من النمط الحالم والمثالى الذى اتبعه الفيلم السابق لإنهاء حبكته، فإن الثانى ويدعى «Snowden»، فقد اتخذ شكلاً أكثر واقعية وقسوة لاستعراض أحداثه، وذلك لأنه يستند بالكامل على قصة حقيقة بطلها «Edward Snowden» خبير تكنولوجيا المعلومات الذى عمل لسنوات طوال مع المخابرات والحكومة الأمريكية. وقد أخرج هذا الفيلم «Oliver Stone» المخرج الذى دوماً ما أثار الكثير من الجدل بأفلامه التى لا تتهاون فى عرض مرارة الحقيقة بلا تخفيف.. وبالطبع فإن هذه القصة المشهورة هى المثال الأكبر لما يدعى فى الإعلام بالـ «Whistleblower»، وهو الشخص الذى لا يجد طريقة لإصلاح واقع غير قانونى تنتهجه إحدى المنظمات الحكومية أو الخاصة إلا من خلال نشر تلك الوقائع على الرأى العام مخاطراً بالطبع بجميع الملاحقات الجنائية والاتهامات بالخيانة واحتمال اضطراره للهروب الدائم لأعوام عديدة لاحقة. وهو ما فعله وتحمله بالفعل سنودن عندما نشر الآلاف من الوثائق السرية التى تُورط أجهزة المخابرات الأمريكية فى التجسس غير القانونى ليس فقط على الأعداء، بل أيضاً على الأصدقاء  فيما يمتد خارج نطاق الأمن القومى الأمريكى ليشكل مراقبة جماعية ضخمة تنسف مفاهيم الخصوصية الرئيسية التى تعتمد عليها جميع وسائل الاتصال المعتادة منها أو المستحدثة.
خصوصية الأرقام المتبادلة
ولسنا هنا بصدد مناقشة تفاصيل ما كشفه سنودن أو الفيلم الذى يحمل اسمه، ولكن سنكتفى بالإشارة لأن الاتحاد الأوروبى فى 2015 تحت ضوء تلك الأحداث، ومن خلال محكمة العدل الأوروبية أصدر قراراً باعتبار الاتفاقية التى تحكم خصوصية البيانات المتبادلة بينه وبين الولايات المتحدة لم تعد صالحة أو متوافقة مع معايير الاتحاد الأوروبى لأمن البيانات والمعلومات، وظل الموقف متأزماً حتى 2016حين تم الاتفاق على إطار تشريعى جديد باسم «Privacy Shield Framework» يجب أن تلتزم به جميع الشركات والجهات من الطرفين عند تبادل البيانات، ولكن على الرغم من أن القصص السابقة تلقى ظلالاً قاتمة على موضوعنا فإنها لا تشكل إلا أحد الأوجه التى يتسم العديد منها بالإشراق والإيجابية ومنها أن موقع الـ «Huffington Post» الإخبارى والسياسى (الذى اجتذب فى عام2013ما يناهز الثلاثمائة مليون مشاركة من قرائه) لطالما عانى من انخفاض مستوى وجودة التعليقات التى تولدها مقالاته وتحقيقاته، مما دفع المسئولين عن الموقع لإجراء تحليل إحصائى بهدف التعرف على العوامل المساهمة فى رفع جودة تلك التعليقات، وكان أهم ما نتج عن هذه الدراسة هو أن جودة التعليقات تزداد بوضوح عندما يستخدم القراء هوية رقمية واضحة أو حتى اسمًا، بالإضافة إلى صورة للتعريف عن أنفسهم بالمقارنة بالآخرين الذين ينشرون تعليقاتهم بشكل مجهول الهوية، مما حدا بالموقع لمنع تعليقات القراء إلا بعد تسجيل البيانات على الموقع، وهو ما أدى لموجة مبدئية من الانتقادات الإعلامية السلبية التى سرعان ما خبت لتترك محلها فارقاً ملموساً فى تحسن مشاركات قراء الهُفِنجتون بوست وتخلصهم من التعليقات المسيئة بشكل عام.
الخصوصية الرقمية!
هذه النقطة السابقة تؤكد ما يظهر بشكل متكرر مؤخراً فى الدراسات والتحليلات أن الوعى العام حول موضوع الخصوصية الرقمية تحول بشكل واضح خلال العقدين السابقين ليتمحور حول سيطرة الشخص على بياناته وما يود مشاركته مقابل المفاهيم الأولى للحرية المطلقة بلا قدرة على التعرف على أى هوية رقمية، وهو تحول يتسق مع المفاهيم العامة الحاكمة لطرق بناء المجتمعات التى تحافظ بما لا يدع مجالاً للشك على الخصوصيات جنباً إلى جنب مع البناء التشريعى الذى يُحَمّل كل عضو فى المجتمع مسئولية تصرفاته فى المحيط العام. وإذا توصلنا لهذا المفهوم يمكن لنا أن نتفهم لِمَ قام الاتحاد الأوروبى بالتحركات السابقة الذكر من أجل حماية خصوصية مواطنيه، حيث اقتناعهم بأن التشريعات المناسبة أولاً وأخيراً هى الحل الأمثل لفض الاشتباك بين ما هو عام وخاص فى العالم الرقمى كما هو بالفعل فى العالم الحقيقى.. نقطة أخيرة تستحق أن ننتهى بها تنطلق من حقيقة أن الأجيال الأصغر سناً لا تجد غضاضة أو سوءاً يذكر فى مشاركة المزيد عن حياتهم مع العالم الرقمى، ولذا يجب أن نتوقف عند التساؤل التالى الذى بدأ ينتشر مؤخراً: نحن لم نعرف عن أجدادنا إلا بعض الصور والحكايات، أما أحفادنا فسيعلمون عنا الكثير وربما أكثر مما نود حسب نشاطنا فى العالم الرقمى.. فهلا اخترنا إرثنا الرقمى لهم!•