الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

توديع مكتبة.. وأيام

توديع مكتبة.. وأيام
توديع مكتبة.. وأيام


شغلنى أخيرا، مصير المكتبة - مكتبتى الخاصة - من بعدى.
ربما بالضبط كما ينشغل الفنى المقتدر، مع تقدم العمر، بمصير الثروة التى كرسها عبر السنوات، والتى تتجسد فى عقار ومنقول وغير منقول وأموال، وكيف تتوزع ولمن تئول من بعده.
فالمولعون بالكتب واقتنائها والاحتفال بها، يحسون حيالها بنفس الشعور الذى يحس به أصحاب الثروات، الثروات بجد.
وأسباب عديدة، تلك التى أثارت لدى التصميم، على الخلاص من المكتبة، بطريقة تمكن الآخرين من الراغبين فى الاستفادة منها.

لاسيما أن الابن الذى وقع فى نفس الغرام، أصبح له مكتبته الخاصة، التى تتضاعف مع الأيام.
وربما فى ذيل هذه الأسباب الدافعة، المصير الذى رأيت كيف آلت إليه مكتبات بعض أصدقائى - وبعضها أضعاف ما لدى - فحين أستفسر عن مصيرها، بعد وقت من غيابهم عن الحياة - وكانت قرة أعينهم - أحزن لما فعلته بها يد الضياع والبلى وتراب الإهمال.
ومن الطبيعى أن الذين تشكل مكتباتهم، إرثا عزيزا، ليسوا على درجة واحدة فى حجم ونوعية هذا الإرث.
ويبدو أن مرتبتى تقع فى آخر السلم.
وكنت أتصورها كبيرة الحجم، لأنها تشغل معظم أجزاء البيت، وبعد أن أحصيتها وصنفتها، استعدادا لنقلها إلى يد أو أياد أخرى، وجدت أنها فى حدود الستة آلاف كتاب.
ربما لأننى كنت أتخلص على فترات، من الكتب التى لم أكن بحاجة إليها، ويحتاج إليها أكثر، من حولى، وبغير هذا التخفف لكنت أعيش فى مكتبة.
والمثل الأقرب لمكتبات من الدرجة الممتازة، التى جرى الحديث حولها فى الأيام الأخيرة، مكتبتان توفى صاحباهما أخيرا، وقد عرض عليهما فى حياتهما مبالغ ضخمة، ورفض كلاهما.
أقصد الكاتب الكبير حسين أحمد أمين والصحفى الباحث خالد السرجانى - رحمهما الله.
والانشغال بمصير المكتبة الخاصة، وبالذات فى خريف العمر، ليس محل اهتمام أو انشغال كل أصحابها.
ولكنى أرى أنه انشغال محمود.
• مكتبة يحيى حقى
ولا أنسى المثل الذى ضربه الأديب العظيم يحيى حقى، فهو منذ وقت مبكر من شيخوخته، وربما قبل عشرين سنة من وفاته، خطط لاستفادة غيره من هذه الثروة.
ولابد أن رجلا متعدد المواهب، دقيق الانتقاء، مثله، قد بنى مكتبه بتأن وذوق وتميز، ومنذ الربع الأول من القرن الماضى.
وأذكر له عبارة فى ثنايا ذكرياته، أن الخطابات التى كانت تصله لو «احتفظت بها لأغتنيت من بيع طوابعها».
ولم يبخل هذا الإنسان العظيم، بكل هذه الثروة، وأهداها إلى جامعة المنيا، على أمل أن تكون عونا، لطلاب وأساتذة الجامعة الوليدة آنذاك، للتزود بما تفيض به من أنوار ومعارف.
ترك للجامعة كل مكتبته، ولم يحتفظ بغير المعاجم وديوان المتنبى.
وآخر من عرفنا، منذ أسابيع من الذين حددوا مصير ثروتهم من الكتب، وآلاف الخطابات - كثير منها من أدباء المهجر وبلاد العرب - الباحث والكاتب الصحفى المخضرم وديع فلسطين، وقد تخطى التسعين - مد الله فى عمره - حيث عرضت عليه إحدى تلميذاته من لبنان، شراءها منه، ووعدت أن تخصص لها قسما خاصا فى مركز ثقافى أنشأته كمؤسسة خيرية هناك.
وقد وجدها فرصة لائقة، لتكون كتبه الخمسة عشر ألفا، موضع عناية ومصدر فائدة، بدلا من تركها عبئا ثقيلا، لا تعرف ابنته كيف تتصرف فى هذه الغابة التى لا تعرف عنها شيئا.
ولا أساوى بين ثروتى الضئيلة، وهذه الأمثلة، ولكن الذى يجمعنى بهم، هو رغبتى فى أن تكون وسيلة لفائدة عامة، ولا تلقى على قارعة الطريق نهبا للرياح والأتربة والإهمال.
• إلى القرية
وبدا لى بعد تفكير ومقارنة بين بدائل، أننى أميل إلى إرسالها إلى قريتى، وهى إحدى قرى محافظة قنا، فقد ننجح أن تكون مفيدة، للذين يصعب عليهم توفير ما يريدون قراءته من كتب.
رغم أن كثيرين ممن حولى، وبالذات من الذين آمل أن يتولوا المساهمة فى إقامتها وتطويرها من الأهل والأقارب، لم يكونوا متحمسين للفكرة.
فهم لايؤمنون أن هناك، كثيرين أو قليلين تشغلهم قراءة الكتب وقطع بعضهم أنه لن يدخلها أحد.
وواحدة من بينهم لم تخف اتهامها لى، أننى أريد أن «أفضى شقتى» وأرمى هذا الهم على أكتافهم - سامحها الله.
وفى نهاية المطاف، توكلت على الله، وأنفذت العزم، وبعد جهد وصلت الكتب إلى قرية الحراجية مركز قوص محافظة قنا، قائلا لأقاربى: إننا مطالبون ألا نتوقف عن المحاولة، والبحث عن كل الوسائل، التى تنشر الثقافة والوعى وتنمى الدوافع إلى التعليم وتكوين الشخصية حتى لو دخل المكتبة شخص واحد.
فلابد أن يأتى يوم، تثمر فيه جهودنا، وهى لابد قائمة فى أكثر من مكان.
وقلت لهم أن هذه المكتبة أشبه بصدقة جارية، وتخليدا لذكرى الوالد، الذى عاد من الأزهر، فى أوائل الثلاثينيات من القرن الماضى، بعد أربع سنوات قضاها فى الأزهر، تشرب فيها الروح التى أثارها الشيخ محمد عبده، وحملها بعض تلاميذه، إلى القادمين من أنحاء مصر، ومنهم ذلك الشاب القادم من الحراجية.
وأشعل فى اعتقادى ما يشبه الثورة الهادئة بين أبناء قريته، ومن بينها بناء مسجد، كان يطمح أن يقدم صحيح الدين كما كان يراه الشيخ عبده وتلاميذه.
وهو المسجد الذى يضم اليوم فى إحدى حجراته نواة المكتبة، التى نطمح أن يوسع الشباب المتحمس مهامها ووسائلها ويزودها بالأجهزة والوسائل العصرية.
وقبل أن نغلقها فى كراتين لشحنها، انغمست وقتا غير قليل، فى تقليب وتصنيف وفرز هذا الجرن من الكتب، الذى يتوزع فى جميع أرجاء البيت، ومعظمه فى دولابين كبيرين فى البلكونة كل منهما أشبه بمغارة، مما يعطيك فكرة أن المكتبة أصبحت أشبه بمخزن.
ومعظم مكتبات البيوت عندنا، على هذه الشاكلة، مما يجعل استخدامها والاستفادة منها، فى غاية الصعوبة.
ونفض الغبار عن أكوام هذه الكتب، وقراءة عناوينها، والتوقف عند أسماء مؤلفيها ومراجعة فهارسها، كان فرصة غير متوقعة، قدمت شريطا مركزا، استعاد ماضيا لم يندثر، واستحضر عصرا أو عصورا؛ وتبدت وجوه أصدقاء أعزاء، غيبهم الموت والفرقة، ورفاق طريق، وأبطال وقديسين، وأشرار وخيبات وبوارق أمل، وتجارب لم تكتمل، ووطن مثخن بالجراح.
• دولاب أمى
وإذا كان الولع بالكتاب والشغف به، يبدأ منذ الصغر، فقد تذكرت بهذه - المناسبة- وكيف أنسى- أن أمى تنازلت لى عن دولابها، وأنا فى ثالثة إعدادى- وربما يكون هو الدولاب الوحيد فى البيت- لأضع فيه كتبى، أضع فيه مجلات المختار والهلال وأيام طه حسين وقطوف عبدالعزيز البشرى وعبرات المنفلوطى.
وبعد سنوات قليلة تركت القرية إلى الدنيا الواسعة، ومعى مفتاح الدولاب، الذى كان يمتلئ بالكتب مع الأيام.
والمدهش أننى عرفت أخيرًا أن الإخوة والأخوات وأبناءهم الذين كبروا وتركوا البلد أيضًا، لايزالون محافظين على الدولاب وبعض محتوياته.
وأنا مشغول بعملية الترتيب، هل أستغرب أن أكثر الكتب أمامى، هى التى لم أقرأها، بل إن بعضها لم يفض غلافها.
ويبدو أن المرء فى أيام الشباب، يتصور أن العمر ممتد أمامه، ليقرأ ما لديه.
وأن الخلاص من هذا الوهم ليس سهلاً.
والذى يحدث أنه ينسى حتى ما لديه من الكتب.
كنت منذ وقت قريب فى حاجة إلى أى مرجع يتداول دور لورانس العرب والثورة العربية، التى قادت إلى سايكس بيكو، لفهم بداية الحدث الذى تطل آثاره اليوم من جديد.
ولم يخطر ببالى أن لدى كل هذا العدد من المراجع عن هذه المسألة.
• الألف كتاب
والنظرة العامة لهذه الكتب المتنوعة والمتعددة المصادر، تكشف عن الدور الكبير والمؤثر، الذى قامت به بعض الهيئات والمؤسسات واللجان والإدارات ودور النشر، حكومية وأهلية، بل وأفراد بأعينهم، فى بناء الثقافة والشخصية والوجدان العام.
بدا لى مشروع الألف كتاب الأول، الذى كانت بدايته فى سنوات الأربعينيات، وتوقف فى أوائل الخمسينيات، مشروعًا نموذجيًا فى خطته وتنفيذه.
هل يتطوع باحث، بدراسة هذا المشروع، لنعرف من صاحب فكرته، الذين سهموا فى ظهوره إلى النور، وما هى قائمة الألف كتاب، ولماذا توقف.
ومن الحق أن هناك مشروعات فى مصر والعالم العربى، تابعت نفس الفكرة وبنجاح، ولكن تبقى رائحة هذا المشروع، نفاذة العطر.
أذكر أننى بحثت طويلاً عن ترجمة الدكتور عبدالعزيز الأهوانى لمجلد من قصة دون كيشوت العالمية، والتى صدرت فى الألف كتاب، وحين عثرت عليها، ما أدق وأجمل الترجمة.
ولا أعرف ما إذا كان الدكتور الأهوانى قد ترجم بقية القصة، هل يعرف أحد؟
وعلى شاكلة الألف كتاب، أذكر مطبوعات لجنة التأليف والترجمة والنشر، وكتابى، وجماعة النهضة القومية، ودور نشر يسارية صغيرة الحجم عميقة التأثير، وهذه مجرد أمثلة، أضيف إليها مطبوعات الإمبراطوريات العالمية وتمثلها فرانكلين الأمريكية والتقدم السوفيتية.
ويحتل المترجمون منزلة خاصة، فى كتاب النهضة وجانبها الثقافى.
ملأت عدة صفحات بأسماء مترجمين ومراجعين أسهموا فى مشروع الألف كتاب، وغيره، ليسوا جميعهم من المعروفين، وجميعهم يستحق عظيم التقدير.
هل تعرف لويس إسكندر الذى ترجم «اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية» وهو واحد من أمهات الكتب العالمية.
ولا أستطيع أن أمنع نفسى من الإشادة بهؤلاء الأبرار، الذين تطوعوا دون تكليف بترجمة ما أعجبهم من كتب، ورأوا أنه يستحق أن يقرأها أبناء وطنهم، الذين لا يعرفون لغة أجنبية.
وبعضهم ترجم أكثر من كتاب، ولا أعرف كيف وجد هؤلاء الوقت للتفرغ لهذه الترجمة، منهم مثلاً طه حسين ولويس عوض وأحمد زكى ومحمد عوض محمد وزكى نجيب محمود ومحمود محمود وحسن عثمان وغنيمى هلال وشفيق أسعد فريد ومصطفى ماهر ومحمد مندور وفؤاد زكريا «ترجم أكثر من عشرة كتب».
ويمكن أن نملأ صفحات بأسماء هذا الفريق النبيل.
ولا يستطيع المقام الحديث عن المترجمين العرب، وهو ملىء بالنجوم الزاهرة.
• المعلمون
وربما تكون مراجعة المكتبة، فى هذه المرحلة، قد كشفت لى عن أكثر الأسماء تأثيرًا، ونشرا للمواقف والتوجهات فى الفضاء العام.
وبعد جيل الرواد، الذى فى قلبه طه حسين وسلامة موسى والعقاد، أضع من الأجيال التالية أحمد بهاء الدين ولويس عوض وزكى نجيب محمود ومحمد مندور وفؤاد زكريا، الذى أوحى لى بهذا، أنهم الوحيدون، الذين كنت أحرص على كل ما خطته أقلامهم.
ومن المؤكد أن هناك كثيرين غيرهم وبعدهم، ولكن أخاطر بالقول إنهم الأكثر تأثيرًا على المستوى العام.
والأكثر تأثيرًا ونفوذًا وفاعلية، هم غير الذين يحبهم المرء ويأنس إليهم، دون أن يعرفهم، ومن بينهم بالنسبة لى فتحى رضوان ومحمد عفيفى ومصطفى سويف.
أما الكتب التى تتناول الصراع العربى الإسرائيلى، وتلك التى تتناول النظرية الاشتراكية والبناء الاشتراكى، فقد توقفت أمامها بمزيج من الرهبة والخشوع.
فهما القضيتان اللتان هيمنتا على السياسة والحياة والتاريخ للأفراد والجماعات.
أمسكت بكتاب «الجوهر الرجعى للصهيونية» وهو كتاب علمى كتبه باحث سوفيتى متخصص، وكان مرجعًا موثوقًا به.
وتساءلت وأنا أقلب صفحاته، هل يمكن أن يكون ذلك الباحث الأمين، لو كان على قيد الحياة لايزال متمسكًا بالأفكار التى عرضها بإيمان، بعد أن جرت فى النهر كل هذه المياه.
ومن كان يتصور أن يصل حال القضية الفلسطينية، إلى ما آلت إليه اليوم.
ونفس الكلام يقال عن المجتمعات الاشتراكية، التى انتهت تجربتها إلى عدم النجاح.
ومع ذلك فإن ملف القضيتين لايزال مفتوحًا.
• مجلة أمين الخولى
ووجدتنى أحرص ما أكون على مجموعة من الكتب والنشرات، بعضها بليت أوراقه، ولكنها بدت لى كالوثائق التاريخية، من بينها الأعداد الأولى من مجلة الغد اليسارية، والعدد الأول وربما الأخير من كتابات مصرية الصادرة فى 1956، وترجمة نجيب محفوظ لكتاب مصر القديمة، والأرض والفلاح لإبراهيم عامر، والطبعة الأولى من كتاب «فى بناء البشر» لحامد عمار، والتعبير الموسيقى لفؤاد زكريا، وفن الشعر لمحمد مندور، وكتيب صغير من ستين صفحة للمهندس على فتحى، أصدره سنة 75 ينبه فيه بقوة إلى ضرورة علاج الآثار الجانبية للسد العالى، وبعض أعداد مجلة الأدب لأمين الخولى، وبعض أعداد مجلة فصول لزكى عبدالقادر والشهر لسعد وهبة والنداء الجديد لسعيد النجار وأنباء موسكو والعصر الحديث، اللتين كانتا تعبران عن رأى الاتحاد السوفيتى فى القضايا العالمية.
وتمسكت ببعض كتب لمجرد جملة بقيت فى ذاكرتى عبر السنين، فحين وجدت كتاب «معارك أدبية» للدكتور مندور، قلبته بحثًا عن كلمة له عن طه حسين يقول فيها:
«وعندما كان ينطلق فى محاضرته بأسلوبه الموسيقى المنغم، كنت أشعر بكثير من الإشفاق وأود إن استطعت مساندته، على نحو ما يطمع الطفل فى مساندة أبيه القوى القادر، وفى نهاية كل محاضرة كنت أستشعر فى نفسى معنى عميقًا للثقة بها والاطمئنان إلى قدرتها، على نحو يثبت معه الحنان ويستقيم اللسان فى غير توقف ولا تعمد، وكان هذا هو أول وأهم درس أخلاقى من طه حسين.
ومن أجل هذه السطور لم أفرط فى الكتاب.
ومفكرات عديدة، معظم صفحاتها بيضاء، باستثناء صفحات قليلة فى بدايتها تمتلئ بعبارات ومأثورات وكلمات رأيت فى حينه أنها تستحق التسجيل.
وأبقيت عليها، منها مفكرة تضم سطرًا واحدًا عن تشرشل يقول «تأتى المشكلة من تراكم الهفوات» لا أذكر أين قرأته وفى أى سياق.
واحتفظت بالمفكرة من أجله.
وبعد أسابيع من الاستغراق فى حصر الثروة، ووضعها فى كراتين، وإرسالها إلى القرية البعيدة.
ولم تكن هذه الخطوة إلا بداية تحقيق حلم فى تأسيس مكتبة تجذب الشباب وغيرهم من الراغبين فى التعلم وزيادة معارفهم.
وخلا البيت من صديق غال، واتسعت أرجاء المكان، وعمرت الشقة بالهواء، وفى نفس الأسبوع، وأثناء سيرى فى شارع رمسيس، وقفت أمام باعة الكتب القديمة، وبعفوية ودون تفكير، اشتريت كتاب «فى التناقض» لـ ماو تسى تونج بمقدمة معاصرة للمفكر السورى سلاكة كيلة، وقصتى «جبال الكحل» و«مرافئ الروح» ليحيى مختار، اللتين أرسلتهما للبلد، بماذا تفسر هذا؟!•