الإثنين 9 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

شهيرة محرز: الأزياء والعمارة والطعام.. هوية وطن

شهيرة محرز: الأزياء والعمارة والطعام.. هوية وطن
شهيرة محرز: الأزياء والعمارة والطعام.. هوية وطن


هناك عدد ضخم من السيدات يضئن مصر وتاريخها بشخصياتهن الفريدة ومجهوداتهن الدءوبة فى مجالات الحياة المختلفة.. شهيرة محرز الباحثة والجامعة للتراث إحدى أيقونات هذا الوطن اللاتى يتلألأن فى سمائه، هى باحثة وجامعة للتراث لتأكيد هويتها وهويتنا المصرية والحفاظ عليها من مظاهر العولمة والتقليد للغرب، تسعى لتأصيل الأشياء بدءا من أزيائنا التراثية والعمارة وصولاً إلى الطبيخ الذى ترى أن دولا كثيرة تسجله ونحن نتجه للتقليد والتخلى عن مطبخنا المصرى لأعيان القطر المصرى.. فمن هى شهيرة محرز؟ وما الذى يدفعها لتوثيق تراثنا فى العمارة والأزياء والطبيخ؟

شهيرة محرز هى حالة من حالات الثراء والقيمة، هى فنانة حقيقية وإنسانة تملؤها الوطنية والعزة بمصريتها، بنت طبقة الأعيان والبرجوازية التى تربت فى عصر كانت المربية الفرنسية تشارك فى تربيتها أكثر من أمها، وتعلمت فى مدارس فرنسية وتقيم معها مربية فرنسية وممنوع التحدث باللغة العربية داخل المدرسة «وكانت الإهانة التى يوجهونها لهم داخل المدرسة إذا صدر من أحد الطلبة تصرف غير لائق يقولون له «لا تتعاملوا كعرب»!
مع بداية الثورة بدأت تثور وتتمرد وتؤكد:
• «أنا مصرية ولست فرنساوية»
بيتها المصرى الأصيل الذى تستشعر معه أنك فى بيت عربى مصرى من عصر العثمانيين أو المماليك أو حقبة محمد على، على الرغم من أنه فى حى الدقى الراقى إلا أنك تجد الشباك المشربية والكليم الصوف والصوانى النحاس والخشب العتيق حتى  وحدات الإضاءة من حقبة الحملة الفرنسية على مصر.
داخل هذا البيت الرائع التقيت بها وبوجهها البشوش وبجلابية فلاحى غاية فى الروعة.. قابلتنى بحيوية فتاة فى العشرين رغم أنها من جيل ثورة 1952 والمرأة نصف المجتمع.
• قلت لها: كيف لبنت الطبقة البرجوازية الإقطاعية أن تتكلم بعشق لثورة 1952 التى أممت أملاك الإقطاعيين؟
- فقالت لى: ليس حقيقيا أن طبقة البرجوازية كانت معادية للثورة، فأنا أذكر جيدا أن والدى أول ما قامت الثورة قال: الحمد لله أتت الثورة لتخلصنا من فساد الملك وبطش الإنجليز، وكان كثيرون مثل أبى، ربما تغير موقف البعض بعد قرار التأميم، وعن نفسى وكنت وقتها ابنة السادسة عشرة عاما ومتربية تربية فرنسية بدأت أثور، وأقول أنا مصرية ولست فرنسية، وكانت لغتى العربية معدومة، وهو ما حاولت إصلاحه فيما بعد حينما التحقت بالجامعة الأمريكية لأدرس الكيمياء، وأعجبت هناك بالدكتورة عفاف لطفى السيد وكانت تدرس لنا تاريخا ودكتور نويهى كان يعلمنا اللغة العربية، وبالجامعة الأمريكية قابلت أساتذة مصريين على مستوى أساتذتنا فى المدارس الفرنسية.
• لماذا اخترت الكيمياء وكيف تركتها إلى الجانب الآخر من الدراسات؟
- كما قلت لك كنت جيل الثورة وكنت أريد أن أدرس صيدلة أو كيمياء مثل الرجال، وبالفعل حصلت على ليسانس كيمياء وخلال دراستى للكيمياء بالجامعة الأمريكية كنا ندرس تاريخا ولغة عربية فأعجبت بحضارتنا من خلال الجامعة الأمريكية على يد الأساتذة المصريين العظماء، وقررت أن أكمل دراستى وأنقل فى مجال له علاقة بمصر، فاخترت الفن الإسلامى لأننى كنت أرسم كويس ودرست عمارة إسلامية، وإن كنت أرى الآن أننى كان لابد أن أدرس تاريخا معاصرا لأننى مهتمة بالسياسة، وعلمت نفسى اللغة العربية وقرأت المقريزى والجبرتى، وأثناء دراستى للفن الإسلامى سافر أخى إلى غزة فأهدانى فستانا من هناك أعجبنى بشدة، وأهلى كانوا مستنيرين ويذهبون بنا إلى محافظات مصر المختلفة ومتاحفها وفى إحدى زياراتنا للأقصر عن طريق المركب اشتريت من قرية إسنا جلابية «تلى» وكان أهل إسنا يقفون على الرصيف ونحن فى المركب ويعرضون علينا الجلاليب البدوية البديعة وإذا أعجبتنا يلفونها ويحدفونها، وكان سعرها وقتها بعشرة جنيهات، وهذا مبلغ كبير فى حينها، فقد كان راتب من يغسل الصحون فى بيتنا جنيها واحدا فى الشهر، أى أن الجنيه كان يمكن أن يفتح بيتا.
بعد ذلك أحد المعارف أتى لى بجلابية من سيوة، وبدأت أقتنى جلاليب من أغلب قرى مصر، فكل محافظة فى مصر لها زى وجلباب معين، قرية بورتوس غير قرية سلامنت غير غزالة غير أبيار غير البحيرة غير الشرقية، كل قرية أو محافظة لها جلابية والرائع أن الست التى تلبس أحلى جلابية ليس شرطا أن تكون الأغنى، لكنها الأمهر فكل سيدة تستطيع أن تحوش وتشترى قطعة قطيفة وتطرزها بيدها لنفسها بالخرز والخيط وتنافس بجلبابها جلباب زوجة العمدة التى ستعطى لسيدة أجرة لكى تشغل لها جلبابها، وأكيد أنها لن تشتغله بحب كما لو كانت ستشغله لنفسها فكنت تشعرين بعدالة إلهية.
• كيف كانت فكرة تقديم الجلابية للمصريات بالقاهرة؟
- الفكرة قامت على الذهاب إلى هذه القرى وعمل جلاليب لدى نفس السيدات اللاتى يحكن الجلاليب لقريتهن وبيعها هنا فى القاهرة، وكنت حريصة على أن تحاك الجلابية فى مكانها وبطريقتهن، فقط اهتممت بالجودة فكنت أحضر لهن شرايط لا يبهت لونها وخرزا ذا جودة أفضل، وأنا عاصرت فى الخمسينيات والستينيات فى قريتنا ستات يرتدين الجلابية، لكن للأسف حين بدأت أجمع تراث الجلابية لتوثيقه وأرشفته كانت بدأت السيدات يتخلين عن ملابسهن المميزة لهن، وفى البداية التقيت مع السيدة نعمت كامل وكانت تعمل جلاليب فى قريتها سلامنت بالشرقية، واجتمعنا فى أهدافنا وبدأنا نبحث عن باقى القرى لتوثيق وتجميع تراث الجلابية به، ونعمت كانت لها وجهة نظر صحيحة فتقول نبعد عن المناطق القريبة من السكك الحديدية لكى يكونوا بعيدين عن التغير السريع، ووجدنا صعوبة شديدة فى تجميع وتوثيق الأزياء فى القرى المصرية لأننى بدأت أهتم بجمع هذه الملابس فى بداية السبعينيات، وللأسف فى ذلك الوقت كانوا يفرغون المجتمع من هويته وإحلالها بقيم أخرى دخيلة، فأصبح لفظ «بلدى» يقال للتقليل وإهانة الشىء فى حين أن كلمة «بلدى» لابد أن تقال بفخر جلابية بلدى، بلدى تعنى الأصالة تعنى الجذور والتاريخ والقيمة، لكن للأسف كان لازم تشجيع من الدولة، والدولة وقتها كانت تقوم بالعكس وقضت على الحرف اليدوية.
وتضيف قائلة: إن من يلبس الجلابية فى رمضان فقط يقلل من قيمتها فهى الزى الخاص بنا فكيف نحصره فى فترة معينة من السنة!!
•  ........؟
- أصمم الجلابية إلى الآن لنشر قيمة، فلدى بعد حضارى من تقديم  الجلابية وجعلها لكل المناسبات وكل الأوقات، فالجلابية لكل قرية تحكى تاريخا وفنا وحرفا، فهناك من يعمل بالخيط وهناك بالصوف وأخرى بالصدف، وكلها غاية فى الإبداع، فالمستشرقون فى أواخر القرن التاسع عشر حين كانوا يمشون فى القاهرة الفاطمية والمملوكية التى تركها الأعيان «المدينة القديمة» كانوا يقولون ما هذه الأمة التى لا تغلط كل.. شىء فيها مذواق من الأدوات اللى بيشتغلوا بيها للعمارة للملاية اللف «الحبرة».
•  .......؟
- لا أتابع الموضة، ممكن أنظر عليها كل فترة، بصراحة أنا عايزة أعمل هدوم لها هوية، فأنا ضد الموضة، فهى نمط استهلاكى يقوم على فلسفة «انسف حمامك القديم»، ولماذا أنسف حمامى القديم إذا كان حمام رخام يراعى ظروفى ومناسبا لإمكانياتى، وأشعر أن الموضة معمولة للدول الغنية فهى نمط استهلاكى يجبرك على الشراء أو الاستهلاك التعسفى، والزى التقليدى حماية للبلاد التى لا تستطيع أن تدخل فى دائرة الاستهلاك.
•  ......؟
- فى سمة تجارية تطغى على الناس، بمعنى البسى شنطة مكتوب عليها «L.V» علشان يتقال إنك لابسة شنطة من لوى فيتون، لكن هنرجع ونقول إن الشعب المصرى عنده تميز وعنده إحساس ويرق إلى من يذكره بشىء مضى مثل حنينه إلى سماع الموسيقى العربية والشعب المصرى لا تستطيعين أن تفرضى عليه شيئا والذى يساعد فى ذلك التدريب على الذوق الحلو والفن الصادق.
•  ......؟
- هذا حقيقى، فعلا هناك بعد سياسى للعولمة أولا محو هويتنا، لأنه بدون هوية بتكونى ضايعة، الهوية تصلب طولك وظهرك، فالهوية تعرفك أنت مين وفين أكتر من أى شىء ولا يجعلنى أنجرف إلى أى تيار تحت أى مسمى، يعنى حين يقولون الخلافة والعاصمة الإسلامية سأقول لأ أنا عايزة القاهرة عاصمتى، لأنى فخورة بهويتى كمصرية، ومن يجرى خلف عاصمة الخلافة هو شخص تم تفريغه من هويته، لذلك يشعر بالضياع، ويمكن أن يتم ملء أفكاره بأى شىء، ومن هنا جاء حبى للتراث، فالتراث له معانٍ ومضمون.
•  ......؟
- أنا لست مهتمة فقط بالعمارة، لكنى كنت أعد رسالة الدكتوراه فى العمارة، لكنى وجدت أن التبحر فيها سيجعلنى أتكلم مع خمسة أو ستة أفراد فى العالم، ثم إننى كنت أبحث عن مجال أعمل به ويدر عليّ دخلا أعيش منه، والعمل بالتدريس الجامعى وأنا خريجة الجامعة الأمريكية كان يحتم على العمل بالجامعة نفسها، وأنا كنت أرفض سياسات الجامعة ولم تكن الجامعة الأمريكية ترحب بعمل المصريين بها، ومواقفى داخل الجامعة ورفضى التمييز ضد المصريين فقد كان الأستاذ الأجنبى راتبه 3000 جنيه، وكان الأستاذ المصرى لا يتجاوز 600 جنيه، وحين عملت لفترة بالتدريس رفضت تدخل رئيس القسم فى النتيجة فكان يريد منى أن أقوم بتغيير النتيجة لصالح طلبة عرفت فيما بعد أنهم يتم تحضيرهم للعمل «CIA» والعلم ليس هو الهدف الأساسى.
•  ......؟
- للأسف الشديد المدن الجديدة ليس لها هوية، وأجد أن الكومباوند الفاخر الذى يحيط بقاهرتنا ما هو إلا عشوائيات للأغنياء، تدخلين فتجدين زخارف مش عارفة جاية منين وكتل خرسانية مزينة بكتل بشعة وفيللات مبالغ فيها وبعيدة عن الفن، للأسف الشديد كليات الهندسة فقدت دورها ولم تجد تدريس العمارة، وهذا ما يفسر التشوه البصرى الذى نراه، نحن الذين علمنا العالم المعمار، لو تأملنا معمار الفراعنة وسهولته فى معبد سقارة وحتشبسوت سنجدها نماذج تفيد المعماريين فى القرن الواحد والعشرين، مبانينا كلها بالطوب الأحمر، وخرسانة تقوم بتوصيل الحرارة، لابد من استخدام الفراغ، للأسف مافيش مقاييس معمارية صحيحة فى مصر.
•  ......؟
- هدم الفيلل القديمة مصيبة، حقيقى هذه الفيلل ليست معمارنا وخارجة عن تراثنا، فهى فى الغالب معمار غربى، لكنه يرمز لفترة معينة من تاريخنا، وعلينا أن نسلم كل مدينة لأولادنا كما هى مدينة إنسانية، حتى إذا كانت هذه الفيلل ترمز إلى طبقة معينة، ولكن هذا هو التاريخ.
•  ......؟
- المعمارى حسن فتحى قيمة كبيرة وقامة وأستاذ وأثناء دراستى ظللت أبحث عنه لمدة سنتين حتى أتمكن من الالتقاء به فلم أقابله صدفة، فأنا كنت أبحث عن هويتى، وقالت لى أم صديقة لى السيدة نوارة العزم أنه صديق والدها وقابلتنى به وكان لسه واصل من اليونان، لازم كل شخص يبحث عن معلم، عن كتاب، عن شىء يؤصله وحسن فتحى ساعدنى كثيرا وأفادنى وأنا أكملت، فطبيعة عملنا تحتاج بحثا ودأبا وسعيا مستمرا.
•  ......؟
- اهتممت بتوثيق الطبيخ لأنه جزء من الهوية، الإسبان والفرنسيون سجلوا أكلهم، وأصبح جزءا من التراث العالمى ونحن للأسف لا نجد هذا فى مصر، فما أهتم به جمع وتوثيق أكل الأعيان، فللأسف البسطاء هم الذين احتفظوا لنا بالأكل المصرى مثل الفول والطعمية، الكرنب، الباذنجان، بصارة لأنه مفيد ورخيص ومتاح، وهذا ليس كل تراثنا فى الغذاء فكان لدينا أكل الأعيان زى «باتشابوريك» «الشركسية» «سمك لمونية»، هذه الأكلات كانت أكل العزومات وتخص طبقة الأعيان وللأسف تركها الأعيان وذهبوا إلى السوشى ومحلات الأكل السريع فأصبحت الهوية مخترقة حتى فى الأكل!.•