عام مضى على (عزلة) مبدع المائة عـام من العـزلـة
حسن عبد ربه المصري
منذ رحل جبراييل جارسيا ماركيز عن عالمنا يوم 17 أبريل من العام الماضي، لم تتوقف الكتابة عنه ولا عما تركه وراءه من إرث صحفى وروائى عظيم.. بعضهم أعاد قراءة رواية (مائة عام من العزلة) التى قدمته للنقاد العالميين عام 1967، وبعضهم تناول حياته منذ ولد فى قريته ماكوندو - جمهورية كولومبيا (أمريكا اللاتينية) عام 1927 حتى وفاته، واهتم أكاديميون بإبداعاته فى حقلى الصحافة والرواية !! وبعضهم لفت نظره المحطات الكبرى فى حياته من كولومبيا إلى المكسيك إلى فرنسا إلى كوبا فالأرجنتين ثم روسيا ودول شرق أوروبا والكثير من مدن الولايات المتحدة الشهيرة..
شدنى للغاية ضمن هذه السرديات التى يستحقها صاحبنا علاقاته بـ «رجالات السياسة والحكام» فى وطنه الأصلى وفى كوبا، وفى غيرهما من دول أمريكا الجنوبية (.. إذ كيف يتسنى أن يقوم أديب عالمى حاصل على جائزة نوبل فى الأدب عام 1982 بدور الوساطة بين زعماء بعض العصابات والحكومة الكولومبية، وبين بعض رؤساء دول الجوار والمعتقلين من المثقفين وأصحاب الرأى) كما أكد واحد من المحاضرين ضمن فعاليات إحدى أمسيات لندن الثقافية..
كولومبيا التى تشتهر بأنها تنتج حوالى 60 % من تجارة الزمرد على مستوى العالم وتنتشر بها تجارة الهيروين والكوكايين (تهرب العصابات نسبة 6% من إنتاجهما إلى الولايات المتحدة) والبن إلى جانب قدر لا بأس به من البترول.. يتنقل فيها الأثرياء داخل سيارات مصفحة ويعيشون تحت حراسة شخصية على امتداد اليوم والليلة تلافيا لمحاولات اختطافهم على يد عصابات محترفة مقابل دية باهظة..
جارسيا ظل وفياً طوال حياته للكثير من الارتباطات والقناعات التى ارتبط بها منذ بدأ وعيه يتفتح على الدنيا من حوله.. للاستيقاظ مبكراً كل يوم ولقريته التى ولد بها والتى بنى بها بيتاً ظل يتردد عليه حتى قبل وفاته بأشهر قليلة رغم امتلاكه لعدد كبير من البيوت فى مدن أوروبية وأمريكية، ولزوجته ميرثيديس التى يؤكد البعض أنها حفيدة مهاجر مصرى!! ولابنيه منها رودوريجو (يعيش فى لوس انجلوس) وجونثالو (يعيش فى مدينة مكسيكو) ولعمله الإبداعى - الصحفى والأدبى - وأخيراً حبه أن يكون قريبا من السلطان وليس جالساً إلى جواره على كرسى الحكم..
مع بداية تسعينيات القرن الماضي، أثقلت هموم الوطن كاهل صاحبنا..
فالحرب الدائرة بين رجال العصابات وأجهزة الدولة الأمنية تتواصل بلا أمل فى نهاية قريبة، والمدنيون من ضحاياها يتساقطون برصاص الطرفين وقد تمزقهم الألغام الأرضية التى يزرعها كلاهما أو يؤخذون كرهائن للمساومة عليهم، حتى أصبحت الغالبية من مواطنيه غير آمنة فى حياتها.. والمدهش أن كل جانب يدعى أنه متعاطف مع المدنيين العزل وأنه يعمل على حمايتهم من (تسلط وإجرام الآخر غير الحريص على حقوق الإنسان)..
وتذكر أحداث العنف (الكبرى) التى ما زالت عالقة بذاكرته من منتصف عام 1948 والتى راح ضحيتها ما بين 200 ألف و 300 ألف مواطن كولومبى معظمهم من الفلاحين والرعاة والمعدمين، التى فتح استمرارها حوالى عشرين عاما الباب لتوالد مجموعات متعارضة من الجماعات الثورية التى دعمها نظام فيدل كاسترو الذى قام فى كوبا..
اتسع نفوذ هذه الجماعات لأنها كانت تدافع عن المطالب العادلة للشعب الكولومبى من ناحية وتنادى فى نفس الوقت بتخليص البلاد من هيمنة أجهزة الأمن الأمريكية التى كانت تعمل فى الخفاء على تشجيع عصابات الاتجار فى المخدرات !! فما كان من هذه العصابات إلا أن استعانت بعدد من رجال الجيش الأمريكى - الذين تركوا الخدمة - لإنشاء ميليشيات عسكرية مدربة لحماية تجارتهم والتصدى للجماعات الثورية الساعية للإصلاح..
وكانت النتيجة.. أن زاد معدل سفك دماء الأبرياء، وزادت المفاسد على مستوى الدولة وتعددت الميليشيات الخاصة ووضعت أرباح الإتجار فى الكوكايين والهيروين فى خدمة عدد من السياسيين المستعدين دائماً لبيع ضمائرهم..
بعد تفكير عميق ومحاورات مع بعض النخب والسياسيين بادر صاحبنا أثناء زيارته للبيت الأبيض بدعوة من الرئيس الأمريكى بيل كلينتون بطرح مبادرة لتحسين العلاقات بين واشنطن وبوجوتا.. حصلت بموجبها قوات الشرطة والأجهزة الأمنية فى كولومبيا على مساعدات مالية قدرها 250 مليون دولار، عززت بعد بضعة أشهر بـ 500 مليون دولار أخرى لتسليح كتيبة كولومبية جديدة تكون مسئولة فقط عن مطاردة تجار المخدرات..
واستغل جارسيا هذا الاتفاق لإقناع باسترنا رئيس كولومبيا بأن يسعى لتشكيل مجلس إقليمى يضم الدول ذات الحدود المشتركة مثل فنزويلا والبرازيل وبيرو وإكوادور، للوقوف معا ضد عصابات المخدرات خاصة بعد أن تحولت إلى تجارة عابرة للحدود فى ضوء الزيادة المتضاعفة لإنتاجها فى ظل الحماية التى توفرها الميليشيات للزراع ووسائل النقل والوسطاء باستغلال أراضى كولومبيا الجبلية شديدة الوعورة..
لم يكتف جارسيا بذلك، بل عمد إلى فضح جانب كبير من الفساد الكولومبى الذى يقوم على تواطؤ بين تكتلات تجارة المخدرات وبعض قيادات الجيش ذات العلاقة الوثيقة بـ CIA بالكتابة شبه اليومية فى الصحف، واتهم واشنطن أنها تعمل على تدمير مجتمعات أمريكا اللاتينية عن طريق (تسهيل عمل عصابات الإتجار فى المخدرات تحت ستار أنها تحاربها)..
وبات صاحبانا على قناعة أن التخريب الذى تقوم به السياسات الأمريكية فى أمريكا اللاتينية لا يقتصر على وطنه كولومبيا.. فعمد إلى التنسيق مع أنظمة حكم قريبة كارهة لسياسات البيت الأبيض ومع جماعات ثورية معادية لأنظمة حكم بلدانها الخاضعة لمشيئة واشنطن.. وتمكن من وضع حد لحروب أهلية فى سلفادور و نيكاراجوا ومن الإفراج عن رهائن تم اختطافهم على يد ميليشيات ثورية أو إجرامية..
وتأكيدا لهذا المعنى سافر جارسيا إلى كوبا عام 1975 وفى نيته أن يؤلف كتابا عن ثورتها التى هزت أركانا كثيرة من العالم ووفرت نموذجا (مثاليا) للعديد من الثوريين الاشتراكيين.. ولكنه بدلاً من ذلك انشغل بكتابة عدد هائل من المقالات التى حللت الثورة كشف من خلالها مدى عمق نضجه السياسى وصبره على تتبع المسيرة واهتمامه بالمواقف الإنسانية التى ارتبط بها إلى حد كبير، ما جعله يصير صديقاً شخصياً لفيدل كاسترو.. الأمر الذى جعل الكثيرين يطلقون عليه (نديم الشمولية ) لكن الحوادث سرعان ما كشفت أن صاحبنا لم ينجح فقط فى استصدار عفو عن الشاعر التنويرى الكوبى المعتقل (هيربيرتو بادييا ) بل أن يسمح له الزعيم الصديق بمغادرة البلاد إلى حيث يشاء..
فى نفس الوقت لم تمنعه دفاعاته المستميتة عن الحريات أن يمنحه صديقة الرئيس الفرنسى الراحل فرانسوا ميتران (وسام جوقة الشرف) قبل أيام قليلة من سفره إلى استوكهولم لتسلم جائزة نوبل فى الأدب..
باختصار..
كان يريد أن يؤسس لمجتمع (اكثر عدالة) على حد قوله واستشهد على فكرته الواعية هذه بما جاء على لسان أبطال رواياته (عاصفة الأوراق ) عام 1946 و(ليس لدى الكولونيل ما يكتبه) عام 1956 و(مائة عام من العزلة) عام 1966 و(خريف البطريرك) التى كتبها عام 1959 ولكنها لم تنشر إلا عام 1975..
وبرغم ما حققه صاحبنا من نجاحات على مستوى الكتابة الصحفية التى لم يتوقف عنها إلا لفترات محدودة والانتاج الأدبى الغزير وواسطة عقده (مائة عام من العزلة) التى ترجمت إلى أكثر من 25 لغة وبيع منها حوالى 30 مليون نسخة، فلم يسلم من مناكفة وسائل الإعلام فى سنوات عمره الأخيرة لأنه أخفى عنها من ناحية مرضه الغامض الذى ألم به نهاية عام 1998 وسبب له انهيارا فى قواه الحيوية، ودخل على أثره المستشفى أكثر من مرة فى العاصمة بوجوتا ولأنه رفض من ناحية أخرى إتاحة الفرصة لأقطابها أن يناقشوا معه ما جاء فى آخر كتابين أرخا لسنوات مهمة من حياته قبل وفاته (جابو.. صحفيا) و «جابو.. رسائل وذكريات» ..•