سبع جنات الحلقة 6

منير مطاوع وريشة هبة المعداوي
«هدي» لاتصدق أن «سلطان» فى غيبوبة.. تفتقده لأنه - عندها - هو من أعطاها معنى وجودها. وتفتقد مناقشاتهما الساخنة وسهراتهما الماجنة.
تستذكر تعارفهما بعد أزمتها مع زوجها الذى خانها بينما توقعت صديقاتها أن تكون هى الخائنة.. تقتفى أسباب الغيبوبة وكيفية الخلاص منها. لتعود إلينا.
«سلطان» لو علمت أن زيارتك تقتضى أن أروح فى الغيبوبة لرحت فيها من زمان.. يستذكر علاقتهما وتشجيعها له فى بداياته كفنان. وفرت له المرسم واشترت منه أول لوحة وكانت أول من رسم لها بورتريه بمقابل مادى. ومع ذلك يقول لها «لم أفكر فيك كامرأة جميلة ولا حتى كامرأة غنية».
«9»
«سمـــــــاء»
العالم ضيّق..
ووقتنا فيه، ضيّق
عالم وحشى
يفاجئك كل لحظة بلطمة
فهل خلقنا
مصدّات للطمات؟!
ورق الشجر يتساقط
الخريف جاء فى الربيع
النهر توقف مجراه
وفؤادى يقطر دما
جفّ نهر الحبّ..
ونهر الخوف يفيض
وأنا لا أعرف أينني
جفّ النهر
فسبحت فى رمال متحرّكة
ماذا جرى يا «سلطان»؟..
لماذا أنت هنا؟..
ليس هذا مكانك.. اذهب بعيدا
هل أنت فى غيبوبة فعلا؟..
أم هى لعبة إثارة عواطف الجنس الآخر؟..
لعبة الفوز بقلوب العذارى.. عذراء، وراء عذراء، وراء عذراء.
تلعب بعواطفهن.. ثم تتركهن تائهات فى متاهاتك اللا متناهية النهايات؟
أقول لك الحقيقة يا عزيزى..
لم أكن أنوى الحضور إلى هنا.
فأنا مقطوعة الصلة بك من زمان،
لكنى جئت؟..
لا أعرف من أين.. ولكنى أتيت؟..
كيف جئت؟.. كيف أبصرت طريقي؟..
لست أدري!
ربما هـّزنى أنك - كما بلغني- وقعت فى بئر الغيبوبة.
قل لى يا «سلطان».. ماذا أوقعك؟.. من أوقعتك؟
أرجو أن تكون تسمعنى الآن، فعندى لك كلام كثير، وقد انقطعت عنك من سنوات.
أحتفظ بمشاعر مضطربة نحوك.. لا أريد أن أقول إننى أكرهك، ولا أريد أن أقول إننى أحبّك.
كنت أحبّك.. وكرهتك، ثم قررت ألا أكرهك. ربما لأننى مازلت.. أحبّك.
كلام مرتبك ومضطرب.. صحيح. فأنا من زمان مرتبك ومضطرب.. فماذا تنتظر أن يصدر مني؟!
أصبتنى بعقدة لم أجد لها حلّا حتى الآن.
عندما تعارفنا، كنت بالنسبة لى مجرد واحد من أعزّ أصدقاء أخى «سمير».. كلّمنى عنك كثيرا.. فهو يحبّك، ومعجب بموهبتك الفنية ويرى أنك طليعى.
لم أكن أميل إليك، مع أنك كنت تأتى لبيتنا كثيرا وتذاكر مع «سمير» عندما كنا جيرانا فى حى «عابدين».
لم يكن يعجبنى أنك هيمان وسرحان، وفى دنيا غير الدنيا.. كنت أراك تائها.. ولم أكن أحبّ هذا التوهان، إلى أن شاهدت بعض لوحاتك المدرسية، واللوحة التى رسمتها لـ«سمير» بألوان الباستيل.. عندها، عرفت أن لك حقا فى التوهان.. وطلبت من أخى أن ينقل لك رغبتى فى أن ترسم لى لوحة مثلها.
ويبدو أنك لم تكن راغبا فى ذلك، لكنك وقعت فى حرج شديد، فـ«سمير»
بالنسبة لك أكثر من أخ.. ولا تستطيع أن تردّ له طلبا.
شعرت أنا بكل هذا..
وجدتك تعاملني، وترسمني، وكأننى واجب إجبارى.. ورطة.
وألمحت لك بشعوري، قلت إننى لا أريد أن أتعبك، أو أجعلك ترسمنى مكرها لمجرد أننى شقيقة صديق عمرك.
يومها فوجئت بك تقول إننى صعبة.. وعصيّة على الرسم!
وخفت أن يكون كلامك هذا إشارة إلى أننى لا أتمتع بالجمال الذى تشترطه فيمن ترسمها..
أعرف طبعا أننى لم أكن جميلة الجميلات.. لكن أعرف أيضا أننى لم أكن قبيحة.. يعنى معقولة، طويلة أكثر من اللازم، ونحيفة بالنسبة لطولى..
وليست لى مفاتن بارزة، وأرتدى نظارة، وأثرثر كثيرا. وأقرأ كثيرا.. وأتفلسف، وأكتب الشعر بطريقة لا تتبع أى مدرسة أو مذهب أو طريقة.
ولا أحب الهزل.. ولا إضاعة الوقت فى ما لا يفيد.
وكانت زميلاتى يضقن بجدّيتى الشديدة.. وكن عادة يسمين المتفوّقة «حقنة».. أما أنا فيطلقن عليّ «سرنجة».. للسخرية من طولى وتفوّقى فى الدراسة..
والغريب أننا- أنت وأنا- أصبحنا بعد فترة صديقين.. جمعنا الاهتمام بالقراءة والشعر.
وخلال صداقتنا اكتشفت أنك فعلا طليعى كما يقول «سمير».. فقد رأيت لوحاتك وأعمالك عندما كنت أزور أخي، زميلك فى الكلية، وحضرت ندوات شعر كثيرة عندكم، كنت تشارك فى تنظيمها، وكذلك عروض الأفلام الراقية ومسرحيات «المونودراما». ومن خلال ندواتكم تعرّفت على كثير من الشعراء والفنانين الكبار.
وعرفت أنك تعيش قصة حبّ طويلة مع «جنّات» بنت الجيران.
وبعد فترة عرفت أنك على علاقة بـ«ماشالله» الموديل.. وأن هذه العلاقة العجيبة لا تحول بينك وبين حبّك لـ«جنّات»!
وشاءت الظروف أن أتعرّف على «جنّات» فى حفلات وندوات الكلية.
وأعجبتنى شخصيتها، وصرنا من أعزّ الأصدقاء، حتى إننى فاتحتها ذات مرة عن معضلة حبّك لها ومعاشرتك لـ «ماشالله».. فى البداية حاولت هى إنكار علاقتك بالموديل التى تكبرك فى السن كثيرا.. لكن عندما تأكّدت أننى أعرف. تناقشنا كثيرا فى الأمر.
ولا أنكر أن التركيبة المعقدة لشخصيتك، استهوتنى على أكثر من مستوي، كشاعرة، وكدارسة لعلم النفس فى مرحلة تالية، وكأنثى.
كشاعرة، كانت صدمة كبيرة لي، أن يكون هناك اجتماع للحبّ والخيانة فى شخص واحد!.. وكمحللة نفسيّة، أعطيت الموضوع اهتماما كبيرا، وأنت تعرف أن رسالة الدكتوراه التى تقدمت بها وحصلت على تقدير ممتاز عنها.. كانت - فى الحقيقة- عنك.. وبوحى من حالتك.. التى تتبعتها ورصدت من خلالها علاقاتك المختلفة.
تصوّر يا «سلطان» أنك عقدّتنى لدرجة جعلتنى أحصل على الدكتوراه بتفوّق، عن عقدتك؟!
يا ترى ما هو مركزى فى سجلات حريمك أيها السلطان؟
وهل لا تزال تضعنى فى هذه السجلات أم شطبتنى بسبب حماقتي، وتهوّري؟
وشيء آخر.. تعرف أننى كنت متصوّرة أن مقاطعتى المفاجئة لك، ستجعلك تتهافت عليّ.. وتطاردني؟!.. وأحزننى كثيرا أنك لم تفعل.
أعرف أن حكايتك بدأت مع «جنّات» أول الحريم. و«ماشالله» الثانية.. وابنتها «لحظة».. كيف تأتّى لك الجمع بين امرأة وابنتها؟!
ثم هناك حكاية «هدى».. وربما يكون ترتيبى أنا «سماء».. الخامسة.. وبعدى جاءت «راجية».. وبعدها من؟.. آه.. «نادرة».
كنت تحب الاستماع إلى أشعارى.. وتقول إنها غير عادية، مجنونة.. وكان هذا الإعجاب يثير فيّ رغبة غريبة، وأسأل نفسي، هل يمكننى أن أقتحم عالم «سلطان»- بشعري- الذى يحبّه؟..
هل أستطيع- بشعري- أن أوقعه فى حبّي؟..
هل يمكنني- بشعري- أن أفك عقدته، وأعيده إلى سويّته، ثم أفوز به لنفسي؟.. وأتخلّص من باقى حريمه؟..
الشعر بالنسبة لى لم يكن هياما وعواطف مراهقات، إلا لفترة محدودة، تجاوزتها عندما وقعت فى غرام آخر هو القراءة.
قرأت عن الشعر الذى يغيّر الحياة، والشعر الذى يرفض.. والشعر الذى يطلق طاقات الإنسان الخفيّة المحبوسة، ويحرّر وجوده ووجدانه، ويأخذه إلى عالم الحقيقة الغائبة المغيّبة، المدفونة بداخلنا.
فأصبحت أكتب شعرا حقيقيا..
مضطرب.. يقولون عنه. وماذا فينا غير مضطرب؟.. أليس من الطبيعى أن نكون مضطربين، ونحن نعيش عالما مضطربا؟!
عندما أصبح لك مرسمك الخاص فى «خان الخليلي» عرفت طريقى إليك هناك، وكان مدخلى هو إعجابك بشعرى.. كنت تقول لى إن شعري، هو نوع من المعادل الموضوعى لاتجاهاتك التجديدية التى تتطلّع للتعبير عنها فى أعمالك التشكيلية.
كتبت قصيدة جديدة، وجريت لأطلعك عليها، وأقرأها لك فى مرسمك.
كنت متلهّفة إلى سماع رأيك.. ومناقشاتك التى تثير فيّ روح التحدى والمغامرة.
يومها قلت لى إنك ستخوض تجربة جديدة هى استلهام أجواء قصيدتى فى لوحة.
جلسنا سويّا نقرأ أبيات القصيدة بصوت مسموع.. فاكر؟!
بعدها اقترحت أنت أن ترسمنى فى أوضاع تتناسب مع أفكار وصور القصيدة.
قلت إنك تفضّل أن ترسم وجهى بدون النظارة.. وسألتنى:
= عندك مانع أرسمك سابحة فى السما، يا «سماء»؟
- ما أنا طول عمرى سابحة فى السما.. باسمى.. وطولى.. وشعرى.
= لكن السباحة هنا من غير «مايوه»!
فى تلك الليلة، كنت لي، وكنت لك.
عندما خلعت نظارتي، و.. ملابسي، لم أكن قادرة على رؤيتك، ولا رؤية كل ما حولى.. كنت سابحة فى عالم هيولى.. وكنت أنت تسبح فى عالمى.. قلت لى إنك تستكشف معالم فتنتى الخفية، وإننى أخفى جمالى وراء حدّتى وتشدّدى وثرثرتي، ونظارتى. وعندما أخلع كل هذه السواتر، تتلألأ لآلئى.. وتتفجّر ينابيعى.. وتندلق فتنتى على سطح اللوحة.
فهل نجحت أنا فى أن آخذك لعالمي، أم أنك أنت الذى غلبتك الرغبة والتجربة؟
حتى الآن وبعد كل هذه السنين، لا أعرف؟!
ولا أعرف إن كنت لاحظت وقتها استجابتى وتجاوبى الفورى معك.. ترى ماذا قلت لنفسك عنى يومها؟..
أسئلة كثيرة كنت أحبّ أن أجد لها إجابات، لكن علاقتنا لم تدم طويلا، توتـّرت بسرعة. فبعد ما جرى فى مرسمك. بدأت أتعامل معك، ليس كصديق، ولا حبيب، ولكن كزوج. عليه التزامات.. وبدأت أتدخّل فى أمور تخصّك.. وفرضت نفسى كمديرة علاقات عامة ودعاية لك..
واستخدمت صداقتك القديمة المتينة بأخى «سمير» فى محاولاتى الحمقاء المحمومة لمحاصرتك، وعزلك عن محيطك.. وحريمك.
كنت أريد أن أحقـّق خطتى خطوة، خطوة..
ولعبت بعض الظروف دورها فى مساعدتي، لفترة.. ثم لم يحدث شيء.
واصلت حبّك لـ «جنّات».. وعشقك للأخريات.. كل ما جدّ هو أننى دخلت فى حريمك.
آه.. سأضطر إلى قطع حديثى إليك.. جاءت «جنّات»!.
وإلى الإسبوع القادم •