حيرة السينما العربية فى أفلام «مهرجان برلين العربى»
صباح الخير
ثمانية أيام قضيتها فى العاصمة الألمانية برلين، حللت فى نصفها ضيفا على مهرجان الفيلم العربى الذى عقدت دورته السادسة فى الفترة من 8 إلى 16 إبريل.. ما بين المهرجان الذى يعد الأول من نوعه فى ألمانيا، والمدينة التى تتفتح ترحيبا بقدوم الربيع مثل الزهور وأوراق الأشجار التى بدأت تنبت وتدب فيها الحياة من جديد بعد شهور الشتاء والظلام الطويلة، قضيت أيامى مثل لمح البصر، بين الشوارع والمكتبات وقاعات العرض والمعارض وعربات المترو والترام التى تجوب المدينة.
أبدأ مع المهرجان. منذ تسع سنوات تقريبا قام عدد من العرب المقيمين فى مدينة برلين بتأسيس جمعية أهلية ثقافية أصبح أبرز نشاطاتها مهرجانا سنويا للفيلم العربى يجمع بعضا من أفضل إنتاجات السينما العربية خلال عام، من الأفلام الروائية الطويلة والقصيرة والوثائقية والتجريبية.
فى دورته السادسة والأخيرة استطاع المهرجان أن يتجاوز تواضع البدايات وأن يحجز لنفسه مساحة على الساحة السينمائية فى مدينة تعج بالنشاطات الثقافية والفنية هذا الحضور تمثل أولا فى أعداد المشاهدين الذين توافدوا لمشاهدة الأفلام المعروضة، وفى نوعية دارى العرض اللتين استضافتا الأفلام، وهما دارا عرض متخصصتان فى الأفلام الفنية الراقية إحداهما، وهى «أرسنال» ملحقة بمبنى متحف السينما بالقرب من ميدان «بوستدامر» الشهير، الذى يوجد به قصر الـ«برليناله»، أو مهرجان برلين الدولى الشهير.
استضاف المهرجان هذا العام النجمة المصرية يسرا وخصص برنامجا استعاديا - رتروسبيكتيف - لسبعة من أفلامها تلخص مسيرتها الفنية الطويلة والثرية، ونظم جلسة حوار فنى معها أدارها كاتب هذه السطور، فى حضور جمهور المهرجان.
البرنامج الرئيسى للمهرجان، وهو لا يتضمن مسابقات أو جوائز بالمناسبة، ينقسم إلى ثلاثة برامج أو أقسام: الأول للأفلام الطويلة، روائية والثانى للأفلام القصيرة، والثالث للأفلام التجريبية والفيديو آرت.. كان للأفلام المصرية نصيب كبير بالمهرجان، فبجانب برنامج يسرا افتتح المهرجان بفيلم «ديكور» للمخرج أحمد عبد الله وبطولة حورية فرغلى وخالد أبو النجا وماجد الكدواني، وتضمن قسم الأفلام الروائية الطويلة ثلاثة أفلام أخرى هى «لا مؤاخذة» للمخرج عمر سلامة، و«فيلا 69» للمخرجة أيتن أمين و«أوضة الفيران» الذى قام بإخراجه ستة مخرجين شباب من الإسكندرية، أما قسم الأفلام القصيرة فتضمن فيلمين هما «130 كم إلى السماء» للمخرج خالد خلة، وفيلم «أو لا لا» إخراج إسلام أحمد السيد.
ضم المهرجان أيضا عددا من أفضل الأفلام العربية المنتجة حديثا، منها «باستاردو» للمخرج التونسى نجيب بلقاضي، «وداعا المغرب» للجزائرى نذير مقناش، «غدي» للبنانى أمين درة، ومن الأفلام الوثائقية «يوميات شهرزاد» للبنانية زينة دكاش، و«بيت التوت» لليمنية سارة إسحق.
بجانب الأفلام نظم المهرجان ندوة عن الإنتاج السينمائى المشترك بين ألمانيا والبلاد العربية، حضرها عدد من السينمائيين العرب والألمان بالإضافة إلى ممثلين لمؤسسة روبرت بوش الثقافية التى خصصت أحد برامجها لدعم الأفلام العربية من خلال جوائز تحمل اسم المؤسسة وتمنح للسينمائيين الشباب بهدف إتمام أعمالهم التى قاموا بتصويرها بالفعل، وهو ما يطلق عليه «منحة ما بعد الإنتاج».
• وداعا المغرب.. من الجزائر
من أجمل الأفلام التى شاهدتها فى المهرجان «وداعا المغرب». مخرج الفيلم نذير مقناش جزائرى كما ذكرت، ولكن عنوان الفيلم يحمل اسم المغرب، حيث تدور أحداثه، وحيث تم تصويره أيضا.
السبب وراء ذلك ليس فقط رغبة المخرج الجزائرى فى صنع فيلم عن المغرب، ولكن ببساطة لأنه ممنوع من دخول الجزائر أو عرض أفلامه فيها منذ أن قدم فيلمه «ديليسبالوما» عام 2007 الذى تناول فيه انتشار الرشوة والفساد فى الجزائر، حيث هاجت الدنيا وماجت، كعادة العالم العربى الذى يخفى رأسه فى الرمل بينما ظهره مكشوف وعارٍ، وقد تم اعتبار الفيلم مسيئا لسمعة الجزائر ومسئوليها الشرفاء. ومن يومها لم يدخل نذير مقناش إلى بلده، وقرر أن يعيش ويصنع أفلامه فى الخارج. و«وداعا المغرب» هو أول فيلم صنعه فى المنفى واستغرق عمله خمس سنوات، وتم تصويره بين طنجة والدار البيضاء فى المغرب ومدينة ليون فى فرنسا.
الفيلم إنتاج فرنسى بلجيكى مشترك وبدأ عرضه فى فرنسا فى فبراير الماضى كما شارك فى عدد من المهرجانات الدولية وحصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة فى «مهرجان الدوحة ترايبيكا» الأخير. وهو من بطولة البلجيكية الجنسية الإسبانية المغربية الأصل لبنى أزبال.. وهى واحدة من أفضل وألمع الممثلات ذوات الأصول العربية، وهى تتألق فى كل فيلم تظهر فيه، مثل «البعيد» للمخرج الفرنسى أندرى تشيني، «منافي» للفرنسى تونى جاتليف، «الجنة الآن» للفلسطينى هانى أبوأسعد، «حرائق» للكندى دونى فيلينوف، الذى حصلت عنه على عدة جوائز دولية، «روك القصبة» للمغربية ليلى مراكشي، و«تحيا الجزائر» الذى صنعه نذير مقناش أيضا عام 2004.
«وداعا المغرب» تم منعه من العرض فى الجزائر أيضا بحجة أنه يصور الشذوذ لأن اثنين من شخصياته مثليان جنسيًا.
الفيلم يدور حول دنيا عبدالله، تلعب دورها لبنى أزبال، وهى امرأة مطلقة وأم لطفل تعيش فى مدينة طنجة مع عشيقها الصربي، تتعرض لمقاطعة ورفض عائلتها التى تجد هذه العلاقة فاضحة، وصديق الطفولة والسائق علي، الذى لعب دوره المخرج المغربى فوزى بن سعيدي، والذى يحبها منذ الطفولة.
تعمل دنيا على إدارة ورشة بناء مع صديقها، وعدد من العمال السنغاليين، وأثناء التنقيب يتم اكتشاف جدران أثرية تعود إلى القرن الرابع الميلادي، فتستغل دنيا الفرصة للمتاجرة بالقطعة الأثرية أملا فى جمع المال الكافى من أجل مغادرة المغرب مع ابنها وعشيقها.
الفيلم يدور فى قالب بوليسى تشويقى من النوع الذى يطلق عليه «فيلم نوار» أو «الفيلم الأسود»، يتسم بشخصياته الغريبة ومشاعره الباردة وجوه المتشائم وأسلوبه الفنى المركب. وأجمل ما فيه هو إيقاعه المحكم السريع، ولغته السينمائية المقتصدة، حيث لا لقطة زائدة ولا جملة حوار مجانية ولا فعل أو رد فعل لا يسهم فى دفع الدراما إلى الأمام.
تلمع لبنى أزابال وتستحوذ على كل مشهد تظهر فيه، وهى تظهر فى معظم مشاهد الفيلم. المرأة فى «الفيلم نوار» غالبا ما تكون قوية، مثيرة، خطيرة، من ذلك النوع الذى يطلق عليها «الغاوية» أو «الفتاكة» femme fatale ولكن المرأة فى هذه النوعية نادرا ما تكون البطلة الأولى المسيطرة على مسار الأحداث، كما نرى فى «وداعا المغرب» الذى يبدو فيه الرجال كأشباح باهتة مقارنة بالمرأة القوية المسيطرة التى تؤديها أزابال.
• باستاردو.. الثورة اللقيطة
الثورات العربية التى بدأت من تونس لم تنته بعد على الأرض، أما فى السينما فهى ربما لم تبدأ بعد، فكل ما صنع من أفلام يتناول هذه الثورات مجرد خربشات بدائية ومن المؤكد أن هذه الثورات بحلوها ومرها سوف تصبح المادة الخام للفنون والسينما لعشرات السنوات القادمة.
المخرج التونسى نجيب بلقاضى يحاول فى فيلمه «باستاردو» تقديم رواية ورؤية رمزية للثورة التونسية من خلال قصة حى شعبى تلعب فيه الشخصيات نماذج من علاقات السلطة تشبه إلى حد ما علاقات السلطة فى المجتمع التونسى عقب الثورة.
محسن هو شاب بسيط ضعيف النظر يناديه الجميع باسم «باستاردو» أو اللقيط، نظرا لأنه غير معروف الأب. محسن كان مثار سخرية الجميع طوال حياته، ولكن عندما تحل عليه ثروة كبيرة من تجارة الهواتف المحمولة يبدأ الصراع الدامى بينه وبين عصابة الفتوات التى تسيطر على الحى.
أجمل ما فى «باستاردو» ليس لعبة الرموز السياسية ولكن الصور البصرية الأخاذة والصادمة التى يرسمها نجيب بلقاضى والتى تذكرنا بروائع من الفن السيريالى مثل «كلب أندلسي» لسلفادور دالى ولويس بونويل، أو «تحت الأرض» لأمير كوستاريتشا، وغيرها.
بلقاضى ينجح أيضا فى خلق شخصيات عجيبة لا تنسي، مليئة بالعنف والقبح والإنسانية فى الوقت نفسه. •