سبع جنات

منير مطاوع
1
«جنات»
رعشة شديدة..
السماء تهوى
والأرض تتزلزل
وأنا فى مهبّ ريح تأخذنى إلى حيث لا أعلم.
كأننى على موعد مع النهاية.
أو كما لو كنت، حتى، ألقى النهاية الآن.. بلا موعد.
هل هكذا تكون النهاية؟
هل ينتهى كل شىء على غير الصورة التى تمنيناها، ونتمناها على الدوام؟
هل الإحباط هو كل ما سنخرج به من هذه الدنيا؟
ساورنى إحساس غامض بأن ما أصاب «سلطان» هو إعلان صريح موجّه لى من القدر، بأن كل شىء راح وانقضى.
ولن تبقى لى إلا الذكريات.
لماذا يا حبيبى؟..
ماذا فعلت حتى تقع فى هذه الغيبوبة الغامضة؟
من زمان وأنت تؤكد لى أنك توقـّفت عن كل عاداتك المدمّرة، ونزواتك الطائشة.. وجنونك الذى أحبّه وتحبّه.
فهل توقـّفت فعلا؟..
وهل لمجنون مثلك أن يتمكّن من نزع نفسه عن جنونه؟..
ماذا يبقى له بعد ذلك؟..
لا أصدّق أنك تخلّيت عن جنونك.. لا تقدر.. أنا عارفة.. متأكّدة..
وطبعا هو الذى قادك إلى الغيبوبة.
لم أصدّق عندما قرأت الخبر فى الجريدة.. تصوّرت أن هناك خطأ فى الاسم.. لا يمكن لـ«سلطان سعيد» أن يسمح للغيبوبة بالاقتراب منه!
ولمّا تأكّدت، حاولت أن أوهم نفسى بأن ما تأكّدت منه غير صحيح.
غير معقول.. غير مؤكّد.
رفضت أن أصدّق.. وربّما لهذا رفضت أن أحضر إلى المستشفى..
أنكرت الواقعة.. اعتبرتها لم تقع.. لكن الرعشة لازمتنى..
الإحساس بأن السماء تهوى فوق رأسى. والأرض تتزلزل تحت قدمّى، غلبنى. انهزمت. وفى المستشفى، حاولت أن أغالط عينى، فلم أرك وقد سحبتك الغيبوبة إلى.. لا أعلم إلى أين!
لكن عينى تجاوزتا مغالطتى، وركّزتا نظراتهما عليك، على هذا الجسد المسجّى السابح فى سماء لا نراها، تتماس طاقتها مع مشاعرنا فنستشعرها وندخل فضاءها، وننجذب إلى سحرها وسرّها وسرمديتها.
أمّا أنت، فعدت لحالك الأولى.. حالك التى عاينتها أنا وأحببتك من أجلها، حال البراءة والصفاء والحلم والخيال والنقاء.
ها أنت تعود إلى أصولك، لكنك تغيب عن وجودك، فهل أفرح أم أسخط على قدرى وقدرك؟.. اللعنة!
تعاودنى الآن ذكريات عمرى وعمرك، عمرنا معا.
لا أنسى لحظة مطبوعة فى صميم كيانى، لحظة اكتشافك لى، واكتشافى لك.. أقف مذهولة أمام غيبوبتك، وأروح فى غيبوبتى..
ويدور شريط طويل، يستعرضه كيانى، رغم الغيبوبة.
المشهد الأول:
فى فراشى، نائمة أنا، وادعة، حالمة، فراشة صغيرة فى بستان الأحلام.
كم كان عمرى وقتها؟ ..16 ..17 غالبا 18
عمر الهوى والمراهقة والتمرّد والاكتشاف والـ .. ماذا أسمى ما جرى؟
لا أدرى.
نعود للمشهد:
يظهر على الشاشة شاب صغير.. يدخل غرفة نومى بخطى متلصّصة، يتردّد قليلا، وبعد لحظة، يتسلـّل إلى الفراش ويقترب منى، وأنا نائمة، يصدمه حالى، أتمدّد بالعرض.. ذراع مفرودة على امتدادها تماما، وأخرى تائهة الاتجاه.. والغطاء لا يقوم بواجبه، فأبدو عارية من أسفل إلا من طرف رقيق من الغطاء، يعرّى أكثر مما يدارى.
لأول مرة فى حياتك تشاهد خفايا ما تحت الرداء.. تسيطر عليك طبيعتك المتأمّلة لكل شىء، فتترك لعينيك فرصة السياحة فى المنظر، معالم الأنوثة متاحة لك.. ومكشوفة، وأنا نائمة، وأمى تجلس مع أمك فى ونس كل يوم، عندكم.. فى شقتكم التى نسكن نحن فوقها تماما.
ماذا أتى بك إلى هنا؟..
أمى بعثت بك لتجلب لها شيئا ما.
لم تكن تعلم أنها بعثت بك لتدخل حياتى إلى الأبد.
طال التأمل، وتحرّكت أشياء أخرى، وجدت نفسك تقرّب وجهك من وجهى، تشمّ رائحتى، وتلمس ما يمكنك لمسه منى، وأنا نائمة..
وتتحرّك غرائزك فتقودك إلى ما لا أستطيع ذكره.. ولا تمضى لحظة جديدة حتى أستفيق.. وأنزعج. كما لو كان كابوسا.. أحاول أن أصرخ.
تضع كفّك على فمى.
أبعد كفّك.. وأعاود المحاولة.. تغلق فمى بطريقة أخرى.. تلصق شفتيك بشفتى وتغتصب قبلة، أحاول المقاومة.. و.. و.. أهدأ قليلا، ثم.. أستسلم، وأندمج معك فى أول قبلة فى حياتى، بعدما استعدت وعيى، وعرفت أنك أنت.. أنت.
قبل هذه الواقعة، لم أكن أفكّر فيك أو فى أى شاب بالتحديد، كانت أحلامى هائمة، مموّهة، خالية من التحديد، كان فارس أحلامى خياليا.. كنت أشعر أن أمامى بعض الوقت قبل أن أحدّد هويّة فارسى.
الواقعة.. اختصرت لى مسافة الزمن، وضعتنى على خريطة الحب، أصبح لى عنوان.. وأصبح لى فارس، وأصبح لى مستقبل.. أحببتك.
كنت أعرف أنك موهوب فى الرسم، وكنت أنتظر الفرصة، لأطلب منك أن ترسم لوحة لى.
لكننى لم أفكّر فيك كحبيب.. لماذا؟.. سألت نفسى بعد ما جرى، ولم أصل إلى ردّ واضح.
فى الغالب - وهذا تفسير لم أطلعك عليه قبل الآن - أننى تصوّرت، وتوهّمت أن لك فتاة أحلام.. من زميلاتك فى كلية الفنون الجميلة.. فنانة مثلك.
بعد هذه الواقعة الغرامية غير العادية، التى لم تستغرق سوى دقائق قليلة، فهمتك وفهمتنى، ودبّرنا مؤامرتنا الصغيرة الأولى، تعود لأمى بما طلبته، وبعد قليل تخرج، تأتى إليّ، وتقول إنك ذاهب للقاء صديق لك فى «السيدة».
نجحت المؤامرة.. ونجحنا فى الفوز بأطول وقت ممكن لنكون أقرب ما نكون لبعضنا البعض.
الصدفة هى التى كشفتنا وعرّتنا واختصرت المسافات، فاجتمع الحبّ العفيف مع الجنس الرقيق، الناعم، اللذيذ.. وتحقـّقت أمنيتى بأن ترسم لى لوحة بفرشاتك المميزة.
قلت لى بعد ذلك بسنين، إننى علـّمتك أول درس فى فن الحبّ.
شعرت بفخر، مع أنى لم أفهم مقصدك.. وقتها، فهمت بعدها بكثير.
قلت لى إن اسمى وجسمى وروحى وكيانى اندمجت جميعا معك وفيك.
قلت لى إن الأقدار هى التى اختارتنا لبعضنا، أنت وأنا لم نختر بعضنا بعضًا.
قلت لى إنك تحبّ أمى وتعتبرها تماما كأمك.
وكان حبّنا من نوع آخر مختلف عما نعرفه من حكايات وروايات وأفلام وأغانٍ ومسرحيات ومسلسلات.
حبّ تلقائى، طبيعى، برىء.. حبّ حقيقى يا «سلطان».
هل تسمعنى يا حبيبى؟..
أنا هنا معك، ليتنى أستطيع أن أغيب مثلك وتستغرقنى الغيبوبة، لأكون معك.. أنا وأنت فقط فى غيبوبة واحدة.
لماذا تركتنى وحدى ورحت فى هذه الغيبوبة وحدك؟!
ماذا أفعل الآن؟..
تذكّرت مشهدا آخر:
بعد 4 سنوات من المشهد الأول، تخرّجت أنت وعملت رساما فى مجلة «الوعد» التى كنت تتدرّب فيها أثناء الدراسة. فضّلت الصحافة على العمل الأكاديمى، قلت إنك فنان حرّ.. وكانت الكلية تريدك معيدا.. وأنا أصبحت مشرفة التربية الرياضية بمدرسة «المنيل» للبنات.
أردت أن تزورنى فى المدرسة، ولم يكن ذلك ممكنا. فذهبت أنا إليك فى المجلة، جلست معك ومع الرسامين والصحفيين والصحفيات، لاحظت أن نسبة النساء والبنات كبيرة فى مجلتكم.
ولمحت أنت شعورى بالغيرة، قلت لى إننى أجمل وأكثر جاذبية من كل نساء الدنيا.
ومع ذلك لم تتقدّم لخطبتى.
كنا نعيش حياة كاملة ونمارس الحبّ والعشق والحنان فى شقتك.. وكنت أطبخ لك وأقوم بكل أعمال البيت من وقت لآخر، ثم أعود لأعيش مع أهلى.
لكنك لم تتقدّم لخطبتى.
قلت لى إنك تخاف من الزواج.. ومرة أخرى قلت إن الزواج غير مهم، ما دمنا فى حالة حبّ.. ومرة ثالثة عبّرت
عن خوفك من أن يقتل الزواج بشكلياته، حبّنا.
- يعنى هى الورقة اللى حتربطنا يا «جنّات»؟..
ردّدت هذه العبارة مرّات لا حصر لها، ورفضت كل محاولاتى لإعلان زواجنا رسميا.
حبّى لك كان وما زال أقوى من أى ورقة.
لكن ماذا كنت أفعل وقتها، وأهلى يطاردوننى بالعرسان والخطّاب؟..
جئت لك يوما فى المجلة، لأصحبك معى، وننزل سويا نجلس فى مكان، لعلى أقنعك وأضعك فى قلب مشكلتى.
يومها جرّبت أن أهددك بأننى لن أكون لك.
لكن الفنان الرسّام مشغول بأفكاره ولوحاته.. والحبّ يملأ قلبه، وحبيبته تملأ حياته.
وهو يعيش الحياة بطريقته الخاصة، حياة بوهيمية، لا انتظام فيها ولا ارتباطات ولا مسئوليات.. حياة الفوضى اللذيذة.
ضاق بى أهلى، أبى وأمى وإخوتى كلهم يعرفون علاقتى بك.. وتعلـّقى بك، وحبّى لك.. ويعرفون أنك تحبنى، وانتظروا وصبروا إلى أن استقرّ حال عملك، قالوا لى إنهم ينتظرون تقدّمك لخطبتى.
لكنك لم تتقدّم.. وطال انتظارهم وانتظارى.. خمس سنوات يا «سلطان».
تركونى ألتقى بك وقتما أريد. وعندما تسلّمت عملى، قلت لنفسى إن الخطوة التالية هى الزواج من حبيب القلب.
مات أبى دون أن يرانى عروسا كما كان يتمنى.
وماتت أمّى كذلك.
ويئس إخوتى من حالى، فأصبحوا يتجاهلون الموضوع.. ثم تطّور الأمر فأصبحوا يتجاهلون وجودى.
لا حديث ولا زيارات، ولا شىء على الإطلاق.
حتى تلميذاتى وزميلاتى لم يعدن يحدثننى عن الحبّ والزواج.
.. تقدّم لى ُخطّاب كثر، رفضتهم جميعا.
وبلغنى أن بعض زميلاتى بالمدرسة كنّ يتحدّثن عنى من وراء ظهرى، البعض يؤكد أن «جنّات» عندها مشكلة، هى سبب عدم زواجها. وأخريات يقلن إن مهنتها طردت العرسان. فمن يتزوّج امرأة لها عضلات؟!
ولا أحد يعرف السرّ.
لا أحد يعرف أننى لم أحبّ أحدا قبلك ولا بعدك.
ولا حياة لى بدونك. حتى لو لم نتزوّج.. وهكذا مضت حياتى معك، زواج بدون زواج!
أتذكّر أيام دراستنا الجامعية، أنا فى معهد التربية الرياضية فى «الجزيرة» وأنت بالقرب منى، فى كلية الفنون الجميلة فى «الزمالك».
وطبعا أنا آتى إليك، وأمضى أوقاتا طويلة معك، وأحيانا نسهر ليالى جميلة فى الكلية مع شلة زملائك وزميلاتك.
عندما علم منّى زميل لك، وكنا قد أصبحنا أصدقاء، أننى سأرتبط معك بالزواج فى وقت لاحق، حذّرنى منك.
قال لى «مجد الطوبجى» أو «سارتر» كما كنتم تطلقون عليه سخرية من حبه للفلسفة الوجودية:
- اسمعى كلامى يا «جنّات».. «سلطان» ده صاحبى من زمان وأنا خابزه وعاجنه أكثر منك.. دانا مسميه «السلطان السعيد».. مش «سلطان سعيد»!. عارفة ليه؟
ضحكت ضحكة بلهاء، ولم أفهم ما يقصده «مجد».. وقلت متسائلة باستخفاف:
- ليه يا «مجد»؟..
- مش عارفة يا عبيطة؟..
- ماتقول بقى وبلاش مطمطة كلام.
- لأنه سلطان زمانه.. مع البنات والستات، وحتى الموديلات هنا فى الكلية.. ده مش بتاع جواز يا بنت الحلال، ونصيحتى- وابقى افتكريها- سيبك منه، وشوفى لك شاب ابن حلال يستّتك.
لم أستمع لنصيحة «مجد».. وكان على حق، يعرفك أكثر منى.
عشت سنوات تائهة فى حبّك.. تائهة فى المسافة بين الحبّ والزواج.
أحبّك.. وأحبّ أهلى.. ولا مانع عندى فى أن نعيش معا بلا زواج رسمى.
فأنا مثلك مؤمنة بأن الورقة ليست دليلا ولا ضمانة.
لكن الأهل والمجتمع والناس لهم رأى آخر.
عشت ممزّقة رغم هنائى بحبّك لى وحبّى لك. ولم أتمكّن من البقاء معك فى بيت واحد لوقت طويل.
خفت من سطوة الآخرين.
خفت من قوة غامضة، تفاجئنا فى لحظة مباغتة وتحطـّم كل شىء.
وكان ذلك سببا فى ارتباك علاقتنا، كنت أنا ومخاوفى السبب.
أعرف ذلك الآن.. أعترف لك به الآن، فلم أقو على الاعتراف وقتها.
خلال دراستك كنت ألاحظ وأسمع.. وأشعر بحدس الأنثى، أن كلام «سارتر» صحيح.
- ده سلطان زمانه.. مع البنات والستات، وحتى الموديلات هنا فى الكلية.. ده مش بتاع جواز يا بنت الحلال.
حبيّ لك منعنى من مواجهتك بمخاوفى.. خفت أن أكون كمن يقطع فرع الشجرة الذى يجلس عليه.. أو يفتح ثغرة فى قارب الحبّ، فيغرقه، ويغرق معه.
خفت أن أفقدك.. أفقد حبّك لى.. أضيّع بكلمة منى تاريخنا معا.
وتحمّلت سنوات من اللوعة والعذاب، والقلق والأرق. لكننى لا أنكر استمتاعى بك وبصحبتك وحبّك ومودّتك وحنانك وشقاوتك وفحولتك.. وجنونك.
آه من جنونك يا «سلطان»!
تعـّذبت به كثيرا.. وتمتّعت أكثر.
ولولاه لما وقع بيننا الحبّ.
ومن جنونك أنك ربما تحبّ إنسانة واحدة، لكنك تعاشر كثيرات.. كل النساء مباحات لك، كلّما أمكن.
ربّما كنت أنا سبب جنونك هذا.. وربّما طبيعتك كفنان.. وربّما عالم كلية الفنون الجميلة المثير.. والعلاقات الحرة والموديلات والأساتذة الذين علّموك أن الوجه الذى ترسمه بحاجة إلى الحبّ أولا.. قلت لى إن أستاذك فى قسم التصوير الزيتى «حسن الصوفى» كان يكرّر مقولته لك بالذات وهو يلاحظ تميّز ريشتك، أن المفتاح الوحيد للوصول إلى أعماق الشخصية هو الحبّ.
وأن اللوحة الخالية من الحبّ، تكون باردة. وأن الفارق بين الفن والصنعة هو الروح. وأن الروح فى «البورتريه» تأتى من اقترابك من روح الشخصية التى ترسمها.
هل لكل هذه التعاليم، كان عشقك للنساء، واهتمامك الزائد برسمهن فى لوحات وبورتريهات؟!
وهل وقعت فى حبّ كل من أجلستها أمامك، ونقلت «روحها» على لوحتك؟
كم واحدة من كل هؤلاء مارست معها الحبّ؟
وكم واحدة أوقعتها فى حبّك؟.. وكم واحدة توهّمت أو تطلّعت لأن تكون زوجتك؟
وكم منهن قبلن الاكتفاء بدور الملهمة أو العشيقة؟!
دوامات الأسئلة التى لم أجرؤ على مواجهتك بها كادت تسحقنى، أصابنى فى فترة، نوع من الشرود الذهنى، والنحول البدنى وانعكس على ممارستى لعملى، وفقدت فرصة ترقية وظيفية، لهذا السبب غالبا، بجانب أسباب أخرى ربما.
ومع ذلك أبقيت على علاقتنا المعلّقة فى الهواء.
وعندما أصبح لى بيت.. شقة مستقلة خاصة بى، بعيدا عن عيون الأهل، وكل العيون، كنت تأتى لتقيم عندى أياما وشهورا.
ثم تختفى.. أياما وشهورا.
وأسمع أنك مشغول بمشاريع لوحات، وأسمع أنك غارق لشوشتك فى علاقة حسّية مع امرأة ما.
وأسمع أنك لا تستطيع الارتباط بامرأة واحدة.. وأسمع أن عشقك للجنس يفوق عشقك لأى شىء آخر.. وأى إنسانة واحدة.
أمضى أياما وليالى موحشة مع نفسى، مع هواجسى ومخاوفى وخيباتى.
أفكّر أن أكون مثلك، عاشقة لممارسة الحبّ.. وليس للحبّ نفسه!
أسمع أنك تعلّمت من خبرتك معى، وهى أول خبرة لك، أن تحبّ الممارسة، تعشق الجسد، تعبد الجمال الأنثوى، وتصلّى فى محرابه، بطريقتك.
زياراتى لك فى الكلية طوال سنوات دراستك، عرّفتنى بكثيرين وكثيرات ممن حولك، تلامذة وأساتذة.. وكنت أعرف من لوحاتك ملامح نسائك الأخريات، وكانت أمامى فرص كثيرة لأن أنغمس فى لعبة مشابهة للعبتك.. مع زملاء لك أو حتى أساتذة، كانت العروض كثيرة والإغراءات مثيرة، والفرص عديدة.. والعملية سهلة، لكننى كنت أحبّك.
وكان حبّى لك يحمينى، ويكفينى.
ليس هذا فقط، بل ظننت فى نفسى أننى لا أصلح لغيرك، لا أعرف كيف أحبّ إنسانا سواك.. لا أجرؤ على أن أتعرّى سوى لك، لا أقوى على الشعور بعاطفة أنثوية صادقة نحو أى رجل غيرك.
مقاومتى لكل الضغوط والإغراءات حمتنى من السقوط فى بئر الضعف الإنسانى، قوّت شعورى بنفسى وإحساسى بالسمو وقدرتى على التماسك.
تغيّرت نظرتى لك بعد ذلك، لاحظت على نفسى، أننى أعاملك كطفل، فاقد للقدرة على الاستقرار والوقوف على قدميه، كنت قد قرأت رسالة دكتوراه فى علم النفس جاء فيها أن الرجل الذى يميل إلى الجمع بين الحبيبة والعشيقة.. (أو العشيقات، فى حالتك) هو إنسان يعانى من عدم التوازن النفسى وفقدان الشعور بالأمان، وأيضا الخوف من.. الاستقرار!
أعدّت الرسالة صديقة لى، تعرفها أنت، هى «سماء» أخت صديقك وزميلك فى المدرسة الثانوية وفى الكلية «سمير نور» - الذى أصبح الآن من كتاب مجلتكم المعروفين- وكانا مثلنا من سكان «عابدين».
«سماء» - كما تعلم - دخلت آداب عين شمس، وحصلت على الدكتوراه وكانت رسالتها عن «الأثر النفسى للعائلة فى ميول وسلوك المراهقين تجاه الجنس الآخر بعد سن الرشد».
ومع ذلك، فشلت أساليبى الخاصة، فى تحويلك إلى إنسان يشعر بالاستقرار والأمان، وبالتالى لا يحتاج إلى عشيقة (أو أكثر) بجانب الحبيبة (الزوجة مستقبلا).
وربما يعود فشلى إلى سبب لا يدَ لى فيه، هو أن الدواء جاء متأخرا جدا، بعد أن استفحل الداء وسيطر عليك؟!
دائما ما أحاول أن أقنع نفسى بأنك برىء من التهمة الموجهة إليك، الخيانة.
وأنك لا تقصد ولا تتعمّد خيانتى.
أنت فقط نشأت على هذه الشاكلة، ربما لظروفك العائلية، وربما لتجربتك العاطفية / الجنسية معى، وربما هيّج شعورك بالرغبة فى كل أنثى، كونك درست جماليات الجسد، وكنت ترسم الموديلات العاريات، واختلطت بهن، وأعرف أنك عاشرت إحداهن.
أحيانا كنت أغفر لك خطاياك مع الأخريات، وأعلّل ذلك بكل الأسباب السابقة.
وأقول لنفسى إن «سلطان» يحبنّى أنا فقط، أما الأخريات، فهن مجرد «لحسات» يتذوقها الفنّان الذى بداخله، و«طبّاخ السم بيدوقه»!
وأعيد على نفسى كلماتك التى لا أنساها عنى وعن روعتى ورقتى وجمالى، وجلالى، وحسن طلعتى، وتناسق تكوينى، وبريق عيونى، ورشاقة خصرى وفتوة بدنى واكتناز شفاهى، وطراوة صدرى، وبيضاوية وجهى، وحمرة خدودى، ورجرجة أردافى، ورقّة ملمسى ونداوة داخلى، ونعومة بطنى، ومرونة ساقى و.. و.. و..
كيف مضى بنا العمر بهذه السرعة المخيفة يا «سلطان»؟..
سنوات طويلة مرّت منذ واقعة حبّنا.. تصوّر؟!
لكنك - وياللغرابة - لم تتزوّج.. لا منّى ولا من غيرى من نسائك!
.. حافظت على عهدك معى وحبّك لى.
ولم أتزوّج أنا طبعا.
تأتى لتعيش معى فترة، وأذهب لأعيش معك فترة.
تختفى تماما فترات.. تسافر للخارج، أو تذهب لتمضية الشتاء فى مرسم «الأقصر».
أو تترك شقتك وتعيش فى مرسمك.
وطبعا عرفت بعد وقت، أنك استسلمت لنداء الرغبة والشهوة، وعشت مع «هدى فخرى» فى بيتها، وكانت الحجة أنك ترسم لها لوحة بورتريه كبيرة.
وقتها خطر لى أن أهاجم بيت «فاتنة الزمالك» الثريّة.. أقتحمه، وأواجهها، هذا حبيبى أنا.. لا تقربيه، ولا تخطفيه منى، هو لا يحبّك.. ولن يحبّك، يحبّنى أنا فقط..
أنت تستغلينه، تستمتعين بشبابه وصحته وفنه وهو أصغر منك.. أصغر بفارق ملحوظ.
أيامها لم أكن أعرف النوم.. كان الأرق رفيق لياليّ.
كنت أذهب كالمذهولة إلى «الزمالك»، وأتجه نحو «فيللا فخرى» فى شارع «حسن صبرى».. أعرف حى «الزمالك» جيدا، من أيام الدراسة، عندما كنا نمسحه شارعا شارعا.. فاكر يا حبيبى..؟ فاكر أيامنا الحلوة يا «سلطانى»؟..
كنت أقول لك: أنت سلطانى، وتردّد أنت هامسا: وأنت جنّاتى!
وكنت أصدّق همسك.. وأتوهّم، كنت مغيّبة بالحبّ والعشق.. إلى أن جاءت الأحزان، وظهر لى أن لك جنّات أخرى غيرى، وجنّات.. وجنّات!
عددها عندى- والله أعلم - سبع جنّات!.. سبع عشيقات يا «سلطان»؟!
كانت أحزانى تمتص حيويتى وصحتى، لكن خبرتى كبطلة سباقات سباحة المسافات الطويلة السابقة، أفادتنى كثيرا.
تكثيف الطاقة. تقسيم الجهد. النفس الطويل. الإصرار. التحمّل. الجلد. التركيز على هدف الفوز.
كنت مدرّبة على كل هذه القدرات والمهارات المعنوية والعصبية.
عشت قصة حبّى لك، أتخيّل نفسى أخوض أطول سباق لسباحة المسافات الطويلة، ولأننى غالبا ما أفوز فى هذا النوع من السباقات، فإن لديّ إصرارا جبّارا على الفوز.. وهذا ربما سبب عدم خروجى من المضمار.. فمازلت أحبّك، ومازلت فى السباق، ومصمّمة على الفوز. •