الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أسرار الموت والعشق وصاحبة الجلالة

أسرار الموت والعشق  وصاحبة الجلالة
أسرار الموت والعشق وصاحبة الجلالة


«قبض الريح.. أيام وراحت»، عنوان فرض نفسه على الكاتب الصحفى هشام يحيى، مثلما فرضت حكايات الكتاب نفسها عليه، التى لم يكن يتخيل أو يتوقع أن يكتبها، إذ بدأها برثاء وشكر لابنه البار وتلميذه النجيب «وليد كامل»، الذى صرعه المرض اللعين السرطان فى أقل من عشرة أيام، يقول فى مقدمته:

«أيوه يا وليد أنت شرفتنى.. ورفعت راسى.. وأكدت قدرتى على اكتشاف المواهب الصحفية، وأعتقد كل اللى كانوا غاضبين من انحيازى ليك من أول يوم خدتك من إيدك ودخلتك جورنال «عين»، عرفوا سر انحيازى ليك».
كان فى جعبة المؤلف العديد من الأفكار لكتب عدة يؤجلها إلى حين، ولم يفصح عنها إلا لـ«وليد»، لكن المقادير جاءت بما لا تشتهى الأنفس، ولا تهواه القلوب:
«رغم إنى مسامحك مقدمًا.. بس بينا عتاب.. ليه تحطنى فى الموقف ده.. مين اللى المفروض كان يكتب عن التاني؟ مين كان ممكن ينصفنى لما أموت غيرك. مين أمين على أسرارى وحكاياتى غيرك؟ مين عارف مبرراتى فى كل موقف اتخذته فى حياتى غيرك؟ بدل ما أشرف على فرحك ويوم زفافك وأقف استقبل المهنئين.. أشرف على سرادق العزاء فيك؟».
«شبرا»، وجريدة «عين»، هما المكانان اللذان انطلقت منهما حكايات هذا الكتاب، الذى يحكى فيه الكاتب عن تلميذه، بينما كانت النهاية منقسمة بين «القاهرة» و«أبوظبي»، حيث تلقّى اتصالين هاتفيين فى أثناء وجوده فى دولة الإمارات، التى يعمل فيها مدير تحرير لإحدى الجرائد الشهيرة هناك، فى الاتصال الأول يأتيه الصوت:
«.. وليد تعبان قوى ومرمى على الأرض فى الطوارئ فى معهد ناصر، ومش عايزين يدخلوه العناية المركز»، ليستيقظ من نومه ويجلس على الكرسى ممسكًا بهاتفه الذى يرن من جديد، فيخشى الرد عليه بيد مرتعشة، ثم يفعل، ليأتيه الصوت باكيًا «وليد مات».
صدمة.. يسرع بعدها الكاتب هشام يحيى بالسفر إلى مصر، ليقيم سرادق عزاء يليق بوليد، ثم يعود بعدها إلى الإمارات، لينغمس فى حزن شديد، يضطره إلى اجترار ذكرياته مع وليد بشكل ضاغط ومؤلم، لم يجد متنفسًا ولا مهربًا منه سوى تلك الحكايات التى كتبها على صفحته على موقع «فيس بوك»، وبعد الحكاية الأولي، وجد التعليقات تنهال عليه مطالبة إياه بالمتابعة، فأسلوبه المميز فى الكتابة، وموهبته فى الحكي، إلى جانب استخدامه اللغة العامية، التى يكتب بها حكاياته مثلما يحكيها، كانت عوامل جذب لا تقاوم، دفعت البعض ممن لم يكونوا يعرفون شيئا عن «وليد»، إلى متابعة الحكايات بتسلسلها، مطالبين الكاتب هشام يحيى بالإسراع فى تكملة باقى الحكايات، ليجد نفسه أمام مشروع كتاب مكتمل، تبلور بعد وصول الحكايات إلى 25 حكاية.
وبعد صدور الكتاب، حار النقاد حيرة الناشر نفسها فى تصنيفه، إن كان رواية أم مجموعة من القصص القصيرة، أم سيرة ذاتية، فهو يجمع من سماتها معًا، ويختص دونها بأمور مغايرة، فهو مجموعة حكايات يرويها المؤلف الذى يظهر بين شخصيات الكتاب، مقدمًا حكايات من أرض الواقع، فالشخصيات جميعًا حقيقية، نقلها المؤلف إلى الورق.
كان وليد الشخصية المحورية الأولى فى الكتاب، الذى تحدث عنه المؤلف منذ لحظة التقائه به عبر أحد أقارب وليد وأحد أصدقاء الكاتب فى الوقت نفسه، ليكتشف «هشام يحيي» فى وليد قدرًا وفيرًا من الثقافة والاطلاع، قلّما يتوافر فى أحد أبناء جيله، ليعرض عليه بعدها العمل معه فى جريدة «عين»، ومن ثم ينطلق وليد فى عالم الصحافة، محققًا انفرادات وتحقيقات وحوارات، أثارت الجدل حينًا والإعجاب أحيانًا أخرى.
امتدت العلاقة بين الكاتب ووليد لما يقرب من عشرة أعوام، ظل الكاتب يتابعه فيها بالتوجيه والنصح والإشادة وأحيانًا بالتوبيخ، فهو كان يرى فيه الابن والتلميذ، الذى يثبت له يومًا بعد يوم، حسن اختياره له وأنه كان على حق حين تولاه بالرعاية فى بلاط صاحبة الجلالة، ولما اطمأن إلى أنه يمكنه أن يسلك طريقه المهنى بسلاسة، فإنه رغب أى هشام يحيى فى خوض تجربة مهنية أخري، لكن هناك فى دولة الإمارات، ليترك وليد فى مصر ويتابعه عبر وسائل الاتصال الحديثة خصوصا فيس بوك.. حتى تلقى الاتصال الصادم ذات مساء. 
الشخصية المحورية الثانية التى ترافق وتتقاسم مع وليد صفحات الكتاب، هى المؤلف نفسه، الصحفى هشام يحيي، الذى يستدرج القارئ إلى حكايات خاصة به، فى قفزات زمنية مفاجئة، لا تعتمد منهجًا محددًا، فهو ينتقل إلى أزمنة مختلف بين الأربعينيات والثمانينيات، يحكى فيها عن نفسه وعن والديه تارة:
«الشيخ فرغلى يا وليد شيخى فى الطريق.. فى الصوفية.. بينى وبينه عهد...».
وتارة عن أصدقائه، وأسرته، وأحيانًا عن الظرف السياسى أو الاجتماعى آنذاك:
«... مرة كنت قاعد مع عم موافى.. صديق عمر أبويا.. وحكى لى إنهم لما عرفوا بتفاصيل الهزيمة وانسحاب الجيش من سيناء.. خد بابا وقعدوا يلفوا فى شوارع شبرا الضلمة يعيطوا...».
 بل إنه اتسم بالجرأة فى الحكاية والمكاشفة عن نفسه، ليحكى عن قصص الحب والعشق التى مر بها فى صراحة ووضوح، يقول فى كتابه:
«... مرة وأنا خارج من عندها.. أمها ضبطتها فى حضنى على السلم وإحنا بنودع بعض.. سحبتها من شعرها..». 
ولأن صاحبة الجلالة هى ساحة عمل بطلى الكتاب، فإن المؤلف تطرق كثيرًا فى حكاياته إلى الحديث عن شخصيات صحفية شهيرة:
«لويس جريس ده قصة تانية خالص.. نموذج من الصحفيين والبشر عمرى ما قابلتهم.. تعرف إنه عمل معايا زى ما أنا باعمل معاك، تعرف إنه منحنى أسراره الخاصة.. وأدق تفاصيلها».
كما كشف هشام يحيى فى الحكاية الـ19 أسرارًا جديدة عن حياة المفكر الراحل فرج فودة، الذى اغتالته الجماعات الإرهابية عام 1992 :
«وليد ما قدرش يخبى دهشته وقاطعني: فرج فودة اللى اتقتل يا عم هشام؟ أيوه فرج فودة اللى اتقتل، كان عايز إيه؟ عايز الشقة مقر انتخابى....».
ويسترسل الكاتب فى حكاياته، التى نسج بعضها من مشاهد أحلامه، سواء حال اليقظة أو النوم، ويمزج بينها وبين المواقف التى حدثت بينه وبين وليد حقيقة بكل مرونة وسلاسة، ليختم حكاياته بجملة كتبها إبراهيم أصلان فى «مالك الحزين» ذكرت فى حوار بينه وبين وليد:
«موت الفقراء اغتيال».
ثم يستسلم لحالة من البكاء تجمعه بزوجته، فى مشهد يرفض فيه عقل كل منها تصديق أن وليد مات.
أثار كتاب «قبض الريح أيام وراحت»، منذ صدوره حالة من الجدل بين النقاد والصحفيين، وإن لم يخفوا إعجابهم بحكاياته، تلك الحالة انتقلت إلى المجتمع الإماراتى بمثقفيه ونقاده وصحفييه، الذين لم يخفوا إعجابهم بالكتاب، لكنهم لم يستطيعوا أن يتبرءوا من التحفظ على لغته العامية، ليرد عليهم هشام يحيي:
«مرّ على ما يقرب من 30 عاماً وأنا أفكر فى الكتابة الأدبية، ولكن أخشى الإقدام عليها، لأننى أشعر بأن الكل يكتب أفضل مني، إلى أن وجدت الحل فى كتاب (زهرة العمر) للكاتب الكبير توفيق الحكيم، الذى يوضح فيه أنه ظل لسنوات طويلة يبحث عن الأسلوب، وفى النهاية اكتشف أن الأسلوب بداخله هو نفسه». •