الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

نجيب محفوظ .. بين شكوكو ومكتشف أمريكا!!

نجيب محفوظ .. بين شكوكو ومكتشف أمريكا!!
نجيب محفوظ .. بين شكوكو ومكتشف أمريكا!!


«أحلام فترة النقاهة» هى نوع من المواجهة الفنية والفكرية مع الذات.
نوع من المكاشفة، التعرف على العيوب والأمراض الاجتماعية والسياسية كمقدمة لمعالجتها.. ويبدو أن نجيب محفوظ أراد أن تكون رسالته الأخيرة لنا شاملة ومركزة ومشرقة، ومشرفة على المستقبل، لنتأمل معا مثلا الحلم رقم 61.
 
«وصلتنى دعوة عشاء فى بيت قريب عزيز، ولما اقتربت من الباب رأيت أفواجا من المدعوين يدخلون، فأدركت أن الدعوة عامة، ورأيت بين القادمين نخبة من جيل أساتذة وأخرى من جيل الزملاء. وتبادلنا التحية وبعض الكلام.. كان مما أجمعوا عليه أنهم يقيمون الآن فى قرية كريستوفر وقالوا الكثير عن جمالها وتفوقها على جميع القرى السياحية، ودخلنا وتفرقنا بين الموائد، وكانت جلستى أمام مائدة صغيرة عارية من كل شىء فلا مفرش ولا طبق ولا أدوات طعام، وقبل أن أفيق من دهشتى رأيت شكوكو قادما نحوى، قابضا على فخذة خروف محمرة، وسلمها لى يدا بيد وذهب وهو يضحك، صعقت واستأت، ولكنى لم أر بدا من قطع اللحم بأصابعى لأتناول طعامى غير أننى كنت أفكر طيلة الوقت فى كريستوفر...».
هل قرية كريستوفر هى أمريكا؟
وكريستوفر هو كولومبوس مكتشف أمريكا؟
وهل الإعجاب المتناهى بها من جانب الأساتذة والزملاء هو تخلٍ عن الشخصية المصرية من جانب أجيال من المثقفين والسياسيين والحكام لصالح التبعية الفكرية والسياسية للغرب وأمريكا خاصة؟
وهل «شكوكو» هو المصرى عندما يسخر من العالم، لأنه يمتلك «فخذة الخروف المحمرة» (الثروة القومية) لكنه لايمتلك «أدوات الطعام».. (التكنولوجيا الحديثة)..؟!
هل هى دعوة للاعتزاز بالشخصية الوطنية والتطلع إلى المعرفة والتكنولوجيا التى تنقصنا، مما يجعلنا نأكل بأصابعنا؟
أعتقد ذلك، فهذا هو نجيب محفوظ وهذه هى نظرته الشاملة موجزة وملخصة ومقطرة: الاعتداد والاعتزاز بالملامح الأصيلة للشخصية المصرية دون تبعية وانبهار وانبطاح للغرب أو غيره.
ومع هذا الاعتداد، لابد من نقد الأعراض المرضية والعيوب والنواقص ومظاهر الاختلال والتخلف والترهل فى شخصيتنا الثقافية.
ونلاحظ فى «الأحلام» أنها كسرت واحدا من المحرمات «التابوهات» الشائعة فى الرواية العربية هى عدم الإشارة بشكل مباشر لأسماء أعلام فى السياسة أو غيرها من مجالات الحياة، بدعوى أن الأدب يسمو على كل هذا.
ففى الحلم رقم 48 يظهر ولأول مرة فى «أحلام فترة النقاهة» اسم علم مشهور:
«أقبلت فوجدت فى الحجرة الحرافيش وسألت عن الغائب الوحيد فقالوا إنهم أرسلوا إلى الموسيقار سيد درويش فى طلب فرقة الباليه الجديدة..».
وتمضى الأحلام لتبلغ فيما نعرف منها حتى الآن، 239 حلما منشورة، وقد ضم عدد منها أسماء شخصيات شهيرة فى التاريخ المصرى الحديث، زعماء ثورات كسعد زغلول وعبد الناصر وعرابى ورجال سياسة كمصطفى النحاس ورؤساء كأنور السادات وكتاب كسعد الدين وهبة وحسين فوزى، وعلماء دين كالشيخ مصطفى عبدالرازق وفنانين وفنانات كالشيخ زكريا أحمد ومنيرة المهدية وليلى مراد وشكوكو وأم كلثوم وفتحية أحمد وعبدالحى حلمى ومحمد عبدالوهاب.
ولعلها المرة الأولى التى يورد فيها كاتب هذه الشخصيات الراحلة فى عمله الأدبى، فالمعهود أن هناك ما يشبه القانون السرى المتعارف عليه بين النقاد والكتاب الذى يحرم ظهور شخصيات حقيقية فى الأعمال الأدبية، لكن نجيب محفوظ وبعد خبرة العمر الطويل فى الإنتاج الأدبى يفاجئنا بتحطيم هذا «التابو».. فهل هى إحدى وصاياه لأدباء الأجيال التالية بأن يتحدوا التابوهات ويحطموا الأغلال الوهمية التى يقيدهم بها النقاد والتقاليد؟
أم أنها ضرورة فنية اقتضاها الحال بحكم الطبيعة الخاصة لهذه الأحلام التى تخلط الواقع بالخيال والحلم بالحقيقة؟.. الجواب عند أهل العلم من الباحثين والدارسين.
ونتوقف أيضا عند الحلم رقم 216
«وجاش صدرى وخفق قلبى، ولولا العجز لبشر ذلك بمولد رواية جديدة».
هل يريد أن يقول إنه لولا متاعب الصحة والسن لواصل الكتابة؟.. فنحن نعرف أنه لم يتوقف عن الكتابة إلا فى سنوات عمره الأخيرة وكان على مشارف التسعين وأنه بدأ كتابة «أحلام فترة النقاهة» فى عام 1998 تقريبا وبدأ فى نشرها فى 2000 وحتى عام 2006.
أى أنه واصل الكتابة حتى النهاية.
ويثور سؤال هو: لماذا واصل نجيب محفوظ الكتابة بعد فوزه بجائزة نوبل ووصوله إلى الشهرة العالمية وترجمة أعماله إلى لغات العالم العديدة؟
لماذا لم يترجل الفارس ويسترح بعد أن حقق كل ما حقق فى عام 1988، خاصة أنه كان قد أنجز عددا كبيرا من الروايات والمجموعات القصصية والنصوص المسرحية التى تفوق كما ونوعا ما كتبه مبدعون مصريون وعرب، لماذا لم يخلد للراحة والاستمتاع بما بقى من العمر، فى التنزه والاسترخاء والاستمتاع بالنجاح والشهرة والمال الذى توافر له بعد نوبل؟
كان كاتبنا الرائد فى السابعة والسبعين عندما جاءته نوبل متأخرة.. ومع أنها عطلته لفترة كان فيها موضع احتفال ولقاءات وأحاديث للصحافة المصرية والعربية والعالمية، إلا أنه لم يتوقف.. لم يكن يشعر أن طاقته الإبداعية قد نفدت.. لم يجد أن الشهرة والمال عائق عن المواصلة، كان يشعر أن حياته تفقد معناها وتتوقف عندما يتوقف قلمه. ليس هذا فقط بل إنه أنجز بعضا من أهم أعماله بعد الفوز بجائزة نوبل: أصداء السيرة الذاتية، وأحلام فترة النقاهة.
هذا التواصل الإبداعى يعكس امتلاء الكاتب وتدفقه وغزارة نتاجه، كما يعكس التزامه بمسئولية تحملها بنفسه وحملها لنفسه منذ البداية.. منذ اللحظة التى قرر فيها أن يكون روائيا، وحسب ما أورده بعض مواقع الشبكة العنكبوتية الإنترنت، فقد تم العثور على نص لرواية نجيب محفوظ الأولى مكتوبة بخط يده فى عام 1927 أى عندما كان فى السادسة عشرة من عمره، وإذا ثبتت صحة نسبة هذه المخطوطة إليه، فمعنى ذلك أنه واصل العملية الإبداعية من سن الـ 16 أو 17 وحتى وفاته عن عمر يناهز الـ 95 عاما أى ما يقارب 80 عاما من الإبداع.
هل كان يريد أن يوصل رسالته كاملة مكتملة، فهو لم يكن من ذلك النوع  من الكتاب الذين تأخذهم الدنيا بإغراءاتها من الشهرة والنجاح والمال فتغرقهم فى الملذات والكسل.
كانت عبقرية نجيب محفوظ فيما أعتقد، تنبع من إصراره وانضباطه وإخلاصه لفنه ولمهمته وتواصله مع الناس والحياة وموقفه الفكرى الفلسفى الصوفى العلمى المتجدد والمتسع والمنفتح على تيارات الحياة ونفوس البشر والمثير دائما للأسئلة الجوهرية.
كانت عبقريته تحميه من الوقوع فى هوة التنظير الفلسفى وتقديم أعمال تحمل موقفا مسبقا من كل شىء. كان يعرف أنه ليس فيلسوفا، ولا داعية، ولا قائدا سياسيا، ولا مبشرا بفكرة أيديولوجية أو بنظرية فى الحياة. كان يعى مهمته ويتقنها ويجدد، كأديب.. كضمير، ولهذا عاش فى ضمير أمته.
***
مع أن هذه هى المقالة الأخيرة فى القراءة الجديدة لـ «أحلام فترة النقاهة» إلا أننى لا أعتقد أنها نهاية المطاف فى حديثنا وتأملاتنا حول هذا العبقرى الذى يستحق منا أكثر مما نال من اهتمام وتقدير، ليس بكثرة الحديث عنه أو تمجيده أو إقامة التماثيل وتنظيم الجوائز والمتاحف وغير ذلك فقط، ولكن بدراسة منجزه الأدبى والفكرى وبتحويل ما يمكن منه إلى أعمال تسهم فى النهوض بأحوالنا فى دوائر الثقافة والإبداع والحريات والكرامة الإنسانية.
فالمجد الحقيقى الذى يناله أمثاله من الرواد والمبدعين هو فى تحقيق شىء أو أشياء مما دعا إليه وعبر عنه ونادى به. والحق أننا على المستوى الرسمى وغير الرسمى لم نقم بشىء ذى قيمة فى هذا الصدد.. ومع أن رئيس اتحاد الكتاب المصريين هو واحد ممن تحلقوا حول نجيب محفوظ ونالوا حظا من الشهرة بسبب تحلقهم هذا، فإننا لا نراه عبر أو أنجز أو حتى دعا الاتحاد إلى عمل من شأنه تكريم فكر وفن وأدب نجيب محفوظ.
ومع أن وزير الثقافة الحالى هو من ألف كتبا ومقالات عن إبداع محفوظ، فلم نر منه بعد أن تقلد الوزارة عملا ذا قيمة فى هذا النطاق، وحتى المتحف المقرر إقامته منذ سنوات لم ير النور بعد.
ومؤسسة «الأهرام» التى عاشت عقودا تنشر فى صحفها ومجلاتها روايات ومقالات نجيب محفوظ لم تعد تذكره أو تتذكره!
وتوقف بعض حوارييه والمستفيدين من الالتفاف حوله لعقود طويلة عن المطالبة بتحقيق ما يلزم تحقيقه إحياء لفن عميد الرواية العربية واكتفوا بالفوائد التى تحققت لهم على المستوى الشخصى من لصق نفسهم بالرجل.
لم نقرأ لأحدهم وهم يملأون الصحف والفضائيات والندوات والاجتماعات والمجالس واللجان والمؤتمرات بكتاباتهم وكلماتهم والأحاديث معهم، ما يشى بشىء من الوفاء لنجيب محفوظ.
ولم نر مثلا أن وزارة التربية والتعليم اختارت شيئا من رواياته وقصصه ضمن مناهج دراسة النصوص الأدبية فى المدارس.
ولا أريد أن أقول إن هناك مؤسسة مصرية اسمها «أكاديمية الفنون» لم نسمع أنها أنشأت معهدا أو قسما لدراسة أدب نجيب محفوظ، وأتذكر أننى فى أول زيارة لى إلى فيينا وجدت معهدا موسيقيا رفيع المستوى وعالمى التأثير، مخصصا لدراسة وتعلم وبحث واستيعاب أعمال فنانهم المعجزة «موتسارت».
وفى بلاد الله تتشكل جمعيات وهيئات أهلية عالية القيمة وشديدة الجدية تحمل رسالة الحفاظ على تراث كاتب معين أو فنان أو عالم، جمعيات لـ«شكسبير» وأخرى لـ«ديكنز» وغيرهما كثير فى بريطانيا ومثلها فى أمريكا وألمانيا.. ترعى تراثه وتحميه وتناقشه وتعقد لذلك المؤتمرات وتنظم حلقات البحث وتصدر الدوريات وتقيم المعارض وتشرف على المتاحف.
أين نحن من كل هذا؟
وفى بلاد الله توضع صور المبدعين والمفكرين والفنانين على طوابع البريد وأوراق العملة تكريما وتذكيرا واعتزازا بالتميز والتفوق الفكرى والفنى لهذا البلد.. فأين نحن من كل هذا؟ •