السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

صبرى موسى والكتابة على الحافة الحرجة

صبرى موسى والكتابة على الحافة الحرجة
صبرى موسى والكتابة على الحافة الحرجة


فى ثمانينيات القرن الماضى التقيت الروائى والكاتب الكبير صبرى موسى، كان قد عهد إليّ بالرد على بعض رسائل القراء فى باب «نادى القلوب الوحيدة»، الباب الذى ظل يحل مشاكل القراء العاطفية لمدة عقد كامل من «1980- 1990»، وكان يحرره صبرى موسى، والكاتبة الكبيرة زينب صادق، ويزينه الفنان الراحل تاد برسومه الجميلة.

أعطانى صبرى موسى فرصة التعرف على دقات القلوب.. وأن أرهف السمع لمشاكلها، كان النادى يفتح أبوابه ليس لمشاكل القراء فقط، ولكن لأشعارهم أيضا، فكنا نختار أجمل قصائد جيلى من الشعراء والشاعرات لتنشر فى ورقة شجر كبيرة على الجانب الغربى من النادى، ومن صفحات المجلة، ومن أعقد المشكلات إلى أيسرها فى باب «نادى القلوب الوحيدة» كنت أتعرف على رؤى الكاتب والإنسان صبرى موسى فقرأت روايته «حادث النصف متر» ثم «فساد الأمكنة»، وتعلقت بالأفلام السينمائية التى كتب لها السيناريو حيث تتبدى بلاغة صبرى موسى فى الإبحار إلى أعماق الشخصيات، فكتب برهافة شديدة سيناريو فيلم «البوسطجى» عن قصة ليحيى حقى من مجموعته القصصية «دماء وطين» كما كتب سيناريو فيلم «قنديل أم هاشم» عن رواية يحيى حقى أيضا، كما كتب صبرى موسى سيناريو فيلم روايته القصيرة «حادث النصف متر»، وسيناريو فيلم «الشيماء» عن قصة لعلى أحمد باكثير، بالإضافة لإسهامه فى كتابة سيناريوهات بعض الأفلام السينمائية الأخرى مثل: «قاهر الظلام»، عن حياة عميد الأدب العربى طه حسين، و«رحلة داخل امرأة».

الكتابة على الحافة الحرجة!

وأهم ما يميز إبداع صبرى موسى هو أن فنه المكتوب أو الذى أبرزته شاشة السينما يكشف عن حرصه على اكتشاف نزعات النفس الإنسانية، ومعرفة دواخلها من خلال قصصه القصيرة التى تجلت فى مجموعاته القصصية: «القميص» عام 1958، و«وجها لظهر» 1970، و«حكايات صبرى موسى» 1963، و«مشروع قتل جارة» 1971».
انتهج صبرى موسى فن الكتابة على الحافة الحرجة حين تختلط الدروب وتختلف المسالك أمام شخصياته ويصبح الصراع محتدما فى نفوسهم فيختارون الطريق الصعب أو طريق الشوك أو الحافة الحرجة، ففى روايته «حادث النصف متر» يتعرض لتشريح المجتمع من خلال بطلى روايته، شاب وفتاة تلفحهما رياح الثورة الجنسية فيكون تمردهما العاطفى ولقاؤهما الحر الحسى عارم الشهوة هو السجن الحقيقى لها، حيث نما الشك وانكسرت العلاقة، حيث نمت ثمار سوداء زاهية على شجرة الحزن التى ظللت روحيهما، ثمار ثقيلة ناضجة تدلت على قلبيهما لتسمهما بالعجز، وكتابة نهاية مؤلمة لقصة حبهما.
وفى روايته «فساد الأمكنة» يرسم صبرى موسى مأساة «نيكولا» بطله ذو الأصول الشرقية والمتزوج من غربية الذى يرفض الرحيل معها ويصر على البقاء فى صحرائه مع البدو وجبل «الدرهيب» وتبقى معه ابنته «إيليا» التى وضع الملك بذرته فى رحمها فيصارع «نيكولا» الأب إحساسه الشرقى تجاه ما حدث ويعتقد أنه هو الذى ضاجع ابنته ويحمل الطفل وهى نائمة ليكون طعما للذئاب فى الصحراء، ويدفع ابنته فى مسيرة جنائزية إلى سراديب مهجورة فى الصحراء ويتحول هو إلى صخرة فى الجبل مثل الجد الأكبر «كوكا لوانكا».
إن صبرى موسى وهو يضع يده على المنابع الأولى لمأساة الإنسان وتقلبه بين أهوائه وقيمه السامية يقدم لنا فى أدبه نماذج أدبية مرسومة برهافة وبراعة تضيف إلى تاريخ الرواية العربية.
لقد أورثته الصحافة مهنة البحث عن المتاعب تعبا وشوقا لاقتحام المجهول فمكنته من معانقة الوجود والبحث عن القيم الخالدة المتمثلة فى نصرة الحق والخير والجمال، صبرى موسى الذى أتقن البحث عن المتاعب فأصبح فى كتابته الأدبية حاملا للهوى تعبا.
وكاتبنا الذى قام بثلاث رحلات مهمة ومؤثرة بدأها فى مرحلة الستينيات وما بعدها من القرن العشرين وهى: رحلة إلى البحيرات المصرية، ورحلة إلى الصحراء الغربية والواحات، ورحلة إلى الصحراء الشرقية وجبال البحر الأحمر قد استلهم هذه الرحلات فى رواياته وقصصه القصيرة، ومن أبرزها رحلته إلى جبل «الدرهيب» بالصحراء الشرقية قرب حدود السودان عام 1963، حيث أثمرت الرحلة روايته «فساد الأمكنة» عام 1970، وأثمرت رحلته إلى أمريكا كتابته لروايته «السيد من حقل السبانخ»، من روايات الخيال العلمى فكتب عن تأثير الوسائل التكنولوجية على حياة الإنسان المعاصر.
حصل صبرى موسى على جائزتى الدولة للسيناريو والحوار عام 1968 عن فيلم «البوسطجى» وعلى جائزة الدولة التشجيعية فى الرواية عن رواية «فساد الأمكنة» عام 1974، وعلى وسام الجمهورية للعلوم والفنون من الطبقة الأولى عن أعماله القصصية والروائية عام 1975، وكذلك على جائزة التفوق فى الآداب عام 1990، وتوجها بجائزة الدولة التقديرية عام 2003.