الثلاثاء 18 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مغامرة «صباح الخير» التى أعادت توفيق الحكيم ونجيب محفوظ.. إلى الوجود!

مغامرة «صباح الخير» التى أعادت توفيق الحكيم        ونجيب محفوظ.. إلى الوجود!
مغامرة «صباح الخير» التى أعادت توفيق الحكيم ونجيب محفوظ.. إلى الوجود!


انفجر هذا السؤال العبثى فى رأسى بعدما اطلعت على قرار نقلته الرقابة إلينا فى «صباح الخير» فى صيف 1972، كان البلد يغلى والشعب يطالب «الرئيس الجديد» أنور السادات بأن يتخذ قرار الحرب ضد إسرائيل لإزالة عار الهزيمة واستعادة سيناء، وكان هو يتهرب متحججا بأننا فى «عام الضباب» وأن «أوراق اللعبة فى يد أمريكا.. وأنا لست مجنونا لأعلن الحرب على الأمريكان»!
ولأن الرغبة فى إزالة عار هزيمة 1967 كانت عارمة لدى الشعب ولدى الجيش، خصوصا بعد نجاح حرب الاستنزاف الطويلة التى خاضها سرا ضد إسرائيل، فقد شاركت مجموعة من الصحفيين والصحفيات فى مهمة سرية، هى جمع توقيعات لأبرز الكتاب والسياسيين والمفكرين وقيادات العمال والفلاحين الوطنيين على عريضة يطالبون فيها السادات بخوض الحرب.
وصلت العريضة وتضم توقيعات مئة شخصية إلى السادات، فكان لها وقع المصيبة، ولم يكن أمامه بدلا من الاستجابة للمطالب الشعبية، سوى التنكيل بكل من شاركوا فيها، وكان وقتها يفرض رقابة على الصحف ويبعث بتعليمات من نوع:
ممنوع الإشارة إلى ما نشرته «واشنطن تايمز» عن امتلاك الرئيس والسيدة الأولى لمزرعة فى ولاية تكساس.
وفوجئنا يوما بتعليمات رقابية جديدة: يمنع نشر الأسماء التالية فى أى صيغة حتى فى صفحات الحوادث والوفيات، وتضمنت القائمة أسماء من وقعوا العريضة.. ويتقدمها توفيق الحكيم ونجيب محفوظ!
قلت لنفسي: هذا رجل أصابه جنون.. هل يمكن محو «أهرامات» مصر؟!
هل يصدر قرار «ساداتي» بإزالة نهر النيل؟
كيف تظن أنك يمكن أن تمحو توفيق الحكيم ونجيب محفوظ؟!.. هذا شطط.
• من «ريش» إلى «على بابا» إلى «بترو»
عدا عن قراءتى لبعض أعمالهما، فقد أتيحت لى فرص التعرف عليهما شخصيا، فكنت من المواظبين على حضور ندوة نجيب محفوظ فى مقهى «ريش» كل يوم جمعة منذ 1964 وكنت بعد ذلك اكتشفت أننى جار نجيب محفوظ فى السكن يفصلنا شارع واحد فى حى «العجوزة»، وأتيح لى أكثر من مرة أن أصحبه صباحا فى رحلته اليومية سيرا على الأقدام من العجوزة -  ناصية «نعمة» على النيل-  إلى قلب القاهرة.. ميدان التحرير، حيث يستقر فى مقهى «على بابا» فى الطابق العلوى منفردا بالصحف مع قهوة الصباح، وما أن نصل معا ونتناول القهوة حتى أغادره وأترك له فسحة الانفراد بذاته وأفكاره.. وأمضى إلى حال سبيلي.
أما الحكيم، فقد ذهبت إلى بيته فى «جاردن سيتي» وأمضيت أوقاتا مع ابنه إسماعيل الذى كان قد عرفنى عليه صديقنا المشترك فنان «صباح الخير» رؤوف عياد.
كنا فى صيف 1972 وكان من عادتى كمحرر فى المجلة أن أذهب خلال شهور الصيف إلى مدينتي.. الإسكندرية، وأبعث من هناك بموضوعات ومقابلات وأخبار.. وكان توفيق الحكيم ونجيب محفوظ يلتقيان مع الأدباء والمفكرين فى الإسكندرية فى ندوات مفتوحة فى مكان يمتلكه يونانى مصرى اسمه الخواجة «بترو».. هو مقهى ومطعم ومحل تجارى يبيع الحلوى والأسماك وغيرها، وتحية لهما خصص ركنا لهذه الندوات. وكان يقدم لهما القهوة مجانا، وكان من رواد «بترو» عبدالرحمن الشرقاوى رئيس مؤسسة «روزاليوسف» وحسن فؤاد رئيس تحرير «صباح الخير» وقتها، وفى حضورهما استدعيت أهم مصور صحفى فى الإسكندرية وهو أنور سعيد ليقوم بتصوير موضوع أكتبه عن هذه الندوة وروادها وعن نجيب محفوظ والحكيم.. والعصا والبيريه اللذين اشتهر بهما.. وماذا توحى لهما الإسكندرية من أفكار وماذا يقول الحكيم عن اتهامه بالبخل وأنه يعيش فى برج عاجي؟!
كان هدفى من هذا هو أن تتمكن «صباح الخير» من نشر أسماء وصور وأحاديث هذين «الهرمين» تحديا لقرارات السادات وأجهزته الرقابية.. ومع أن المجلة تعتمد على الرسوم والكاريكاتير، ولا تهتم كثيرا بنشر الصور الفوتوغرافية، فقد تعمدت أن يكون الموضوع مصورا.. ورحب أنور سعيد وهو نقيب الصحفيين فى الإسكندرية، بالفكرة رغم خطورتها عليه، فقد كان كما قال لى من محبى «صباح الخير».
• هل سينشر الموضوع؟!
سألنى الأستاذ الشرقاوى عما يجرى وقد لاحظ توجيهاتى للمصور. 
شرحت له، فقال متسائلا: ألا تعلم بأن هناك تعليمات رقابية بمنع نشر أى شيء عنهما؟
قلت: أعلم!
قال: ومع ذلك تصورهما وستكتب عنهما وتنشر الأسماء والصور؟!
قلت: تعليمات الرقابة غبية وعلينا أن نكسرها، هل يمكن أن نمحو الأهرامات من الوجود؟
أليس الحكيم ومحفوظ من أهراماتنا الحديثة؟
قال وقد غلبته روحه الثورية المتمردة: يابن الإيه.. إنك تذكرنى بشبابي!
هل تريد أن تعرف عزيزى القارئ ماذا حدث بعد ذلك لى وللموضوع؟!
لن أتحدث عن نفسى وما جرى لي، فهذا أمر يخصنى ولا أحب الخوض فيه، لكن ما جرى هو أننى أمضيت ثلاثة أيام أحضر ندوة قهوة «بترو» وكنت قد أخبرت «الهرمين» بما أقدمت عليه، وقالا إنهما يشكان كثيرا فى أن يمر الموضوع بسلام، وشجعانى بالطبع، وعندما انتهيت من الموضوع سألنى الحكيم مستنكرا: أين كتابتك؟.. لم أرك تمسك قلما طوال هذه الأيام، فقط تتحدث معنا وتصورنا.. هل تخليت عن الفكرة؟!
قلت: أنا لا أكتب.. أحتفظ بكل شيء فى رأسي، وسأذهب الآن لأكتب، وفى الصباح سأطلعكما على ماكتبت.
وعندما اطلعا على ما كتبت فى اليوم التالي، ضحك الحكيم ضحكته الشهيرة وغمز بعينيه الضيقتين قائلا: أنت عقلك كومبيوتر.. مدهش.. تذكرت كل شيء.. لكن هل سينشر هذا الموضوع؟!
لا أعرف لماذا شعرت فى هذه اللحظة برغبة قوية فى الحصول على توقيع الحكيم ومحفوظ على أوراق الموضوع الذى وافقا على كل كلمة فيه دون تعديل أو تصحيح.. على الرغم من أننى تعمدت أن يكون خفيفا.. ورحبا بسعادة بالتوقيع.
• كيف سنتصرف مع الرقيب؟!
 عندما عدت إلى المجلة كانت هناك مشكلة، كيف سنتصرف مع الرقيب الذى يأتى كل يوم ويراجع البروفات ويمنع نشر بعض المقالات والأخبار والكاريكاتيرات ويطبق التعليمات بدقة؟!
كان رؤوف توفيق مدير التحرير وقتها.. مرحبا بالفكرة لكنه متوجس من النتيجة، قلت إننى سأحاول التفاهم مع الرقيب، عسى أن تنجح المغامرة، والحقيقة هى أن الرقيب الذى لا تسعفنى الذاكرة الملاوعة باسمه الآن للأسف، كانت له قصة إنسانية شخصية اطلعت عليها خلال جلسات جمعتنا فى مقهى «ريش».. فالرجل يسارى النزعة ومعارض لسياسات السادات، لكن الأقدار ألقت به فى وظيفة «رقيب» على الصحافة، ولعله هو الذى اختار «صباح الخير» لا أعرف لماذا.. المهم أننى تفاهمت معه على «تفويت» أكبر قدر من مادة وصور الموضوع، واقتنع بالفكرة لأنه أيضا ردد السؤال: وهل يمكن محو الأهرامات؟!
قال لى وهو يقرأ البروفات، إنه مضطر إلى شطب بعض السطور حتى لايتهم بالتهاون فى عمله كرقيب، وسمعته يردد مع نفسه إنه بالتأكيد سيتعرض للعقاب فى كل الأحوال.
سألته بود: ما أقصى عقوبة؟
- لا أظن أنهم سيفصلوننى فأنا على أبواب المعاش.. لكن الخصم من المرتب أكيد.. أقصاه أسبوعين.
حسبنا كم تساوى العقوبة ووعدته بأن نجد لها تعويضا.. فهو يتقن اللغة الفرنسية ونحن بحاجة إلى مواد مترجمة من المجلات الفرنسية، وحصلت له على موافقة الأستاذ حسن فؤاد رئيس التحرير بأن يقوم بهذه المهمة، فوجد أنه الكسبان فسيحصل كل شهر على المبلغ الذى خصم من مرتبه بالفعل مرة واحدة.. هذا الشهر!
ونشر الموضوع.. بالأسماء والصور.. وعاد توفيق الحكيم ونجيب محفوظ إلى الوجود من جديد، بعد نحو أسبوعين من محو اسميهما من كل الصحف.. وعادت صورهما وأخبارهما وسيرتهما إلى كل مكان بعد نجاح مغامرة «صباح الخير».
واستعادت مصر أهراماتها! •