الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الشاعر العملاق .. رسام بدرجة مقاتل

الشاعر العملاق ..  رسام بدرجة مقاتل
الشاعر العملاق .. رسام بدرجة مقاتل


فى أول يوم من العام الدراسى لسنة 1948، امتلأت مراسم كلية الفنون الجملية بالطلبة الجدد.. وكان بينهم طالب سمين ترك كلية الحقوق ليلتحق بكلية الفنون الجملية.. وانطلق متفوقاً على كل زملائه.. وذات صباح حمل رسومه الكاريكاتورية وتوجه بها لأستاذه حسين بيكار.
 
وكانت تلك هى المحاولات الأولى التى أعجبت الفنان بيكار فقال له مشجعاً: «هايل يا صلاح».. ولم تمض بضعة أيام حتى عاد إليه نفس الطالب.. وعلى وجهه مسحة من الحزن والقلق.. وقال له: إننى أحب والدى وأقدسه؟!
فقال بيكار مندهشاً: كل الأبناء الأوفياء يفعلون ذلك!!
فقال له: والدى قاض ورئيس محكمة.. ولا يريدنى أن أضحى بمستقبلى فى مغامرة الفن.. ويلح على لأعود إلى كلية الحقوق لأكمل دراستي.
فقال بيكار: اذهب إلى والدك وادعه لمقابلتى غداً.. وأنا واثق من أننى سأقنعه بأنك اخترت الطريق الصحيح.. فالفن ليس مغامرة وليس مهنة العاطلين.
وجاء الطالب فى اليوم التالى بصحبة أبيه.. ودار بينه وبين الفنان حسين بيكار حديث طويل حول أهمية الفن.. حتى اطمأن بيكار إلى أن والده قد اقتنع بوجهة نظره.. وفى اليوم التالى انتظر بيكار الطالب السمين.. ولكنه لم يحضر ولم يره بعد ذلك اليوم.. وظل هذا الطالب مختفياً إلى أن ظهرت رسومه متصدرة غلاف مجلة روز اليوسف العريقة.. وبعدها تألق اسمه فى سماء الفن والشعر والكاريكاتير.. على صفحات مجلتى روزاليوسف  وصباح الخير.
وكان هذا الشاب السمين هو الفنان «صلاح جاهين»

• رسام بدرجة مقاتل

ويروى الفنان جورج البهجورى قصة جاهين مع الكاريكاتير.. وكان جورج قد سبقه فى الالتحاق بمجلة روز اليوسف فيقول:
كان قد انضم إلينا فى «روزاليوسف» شاب سمين.. يروى الأشعار كلما دخل علينا مع زكريا الحجاوي.. وذات مرة سحب كرسياً وجلس خلف يدى وأنا أرسم.. ولم يتكلم وتركنى أرسم.. ولم تمض سوى أيام قليلة فوجدته يجلس بجوارى ليرسم دون إلقاء أزجال.. مضيفاً إلى الرسوم الكاريكاتورية أفكاراً وأبعاداً فلسفية هزت المجتمع المصري.. وكان هذا الشاب هو «صلاح جاهين»..
دخل الشاب السمين إلى ساحة الكاريكاتير المصرى فوجدها فى انتظاره.. فقد كانت شبه خالية أو تكاد من الفارس المقاتل صاحب القضية الواعــــى عــن فهم عميق بمدى التحولات التى تمور بها مصر فى مطلع الخمسينيات.. لكى يتقدم ليقــود الاتجـــاه الجديد فى الكاريكاتيــــر.. وليضع حجر الأساس لمدرسة الكاريكاتير المصرى والعربى الحديث.. ويؤسس «مدرسة الثوريين» الكاريكاتورية التى انطلقت من مجلة «روزاليوسف».. وفى 12 يناير 1952 صدر العدد الأول من مجلة «صباح الخير» فانطلقت تجربة صلاح جاهين الجديدة الكاريكاتورية الرائدة التى جاءت مختلفة ومتفردة.. فأحدثت تياراً جديداً لم يكن موجودا فى المراحل التى سبقت ظهور صلاح جاهين.. ذلك لأنه كان يمتلك جسارة المبادرة.. ولكونه صاحب رؤية خاصة.. فلم يقلد أو يكرر.. أو يتأثر بمن سبقه أو من كانوا حوله ويمثلون نجوم ذلك العصر فى مجال الكاريكاتير.. هذا يتجلى فى عدد السلاسل الكاريكاتورية التى ابتكرها جاهين وواظب على نشرها تباعاً ولفترات طويلة.. وأرسى بها تقاليد كاريكاتورية جديدة ومستحدثة.. وعميقة المغزي.. خفيفة الظل.. ذات دلالات أسهمت فى مواكبة التحولات الاجتماعية الكبرى التى كانت قد طرأت على المجتمع المصرى بعد ثورة 1952.. ولعل أهم هذه السلاسل:
قيس وليلى - نادى العراة - العيادة النفسية - قهوة النشاط - وجع دماغ دولى - ضحكات مكتبية - دواويين الحكومة - الفهامة - «صباح الخير».

• جاهين وشعراء العامية

وذات صباح من أيام عام 1959 اندفع جاهين إلى مكتب أحمد بهاء الدين رئيس تحرير صباح الخير  فى ذلك الوقت وقال له: «اسمع يا بهاء أنا عملت حاجة كده وأنا ماشى فى الشارع شكلها زى الرباعيات باقول فيها:
مع إن كل الخلق من أصل طـين
وكلـهـم بينــزلوا مـغـمـضــــين
بعـد الدقايق والشـهور والسـنين
تلاقى ناس أشـرار وناس طيبين
وأنصت بهاء باهتمام عادي.. فلم يظهر اهتماماً شديداً ولا العكس.. وقال لجاهين:
ــ كويسة.. تقدر كل أسبوع تنزل واحدة زى دى تحت عنوان رباعيات؟
وقد حدث.. فانطلق جاهين يكتب أروع تجاربه الشعرية وأكثرها عمقا ونضجا ويبدو أن الاكتشاف الجديد استهوى شاعرنا جاهين فأخذ يداوم عليه أسبوعياً لعدة سنوات.. وكان يرسم الرباعيات.. الفنان الكبير آدم حنين.. الذى كان يوقعها باسمه الأول (صموائيل هنري) ثم انقطع عن الكتابة وأصدر ديواناً كاملاً بعنوان «الرباعيات» ضمنه كل ما كتبه فى الفترة من 1959 وحتى صدور الديوان عام 1962.. ثم توقفت التجربة.. وعاد مرة أخرى ليكتبها جاهين من جديد عندما تولى رئاسة تحرير مجلة «صباح الخير» عام 1966.. ولذلك فهناك نوعان من الرباعيات كتبها جاهين.. رباعيات ما قبل 1962 ورباعيات ما بعد 1966.
ونستطيع أن نلمح اختلافات واضحة بين التجربتين.. وإن كانت الجذور واحدة ولكن للفروع مذاقًا مختلفًا. 
بدأ جاهين كتابة الرباعيات وعمره (29 عاماً).. ويبدو أنه كان يبحث منذ وقت مبكر عن إجابة لكثير من الأسئلة الغامضة ذات الطابع الفلسفى العميق التى تتعلق بالحياة والموت والمصير والخير والشر والحب والكره وماهية الحياة... ومجموعة من الأفكار والقيم النبيلة التى كان جاهين يريد أن يطرحها على الناس وعلى نفسه، كأنه يريد أن يبلور فى نهايتها «مشروعه الشعرى والإنسانى الخاص» على المستوى الفنى وعلى المستوى الفلسفي.
وخلال تلك الفترة كان جاهين يعانى ضغوطا نفسية رهيبة نتيجة لوجود عدد كبير من أصدقائه المثقفين والمفكرين اليساريين خلف أسوار معتقل الواحات، وكانت الرباعيات تمثل حيرته المشروعة لهذا التناقض الذى كان يعيشه ما بين قربه الشديد من عبدالناصر وإيمانه بكل ما يقوم به من إنجازات.. وبين ما يحدث لرفاقه.. لذلك جاء إهداء ديوان الرباعيات غامضا ومبهما.. إذ كتب فى الإهداء كلمة واحدة (إليهم....).
وكان صلاح جاهين قد بدأ تجربته الشعرية عام 1951 عندما قرأ فى أول ديوان لفؤاد حداد  «أحرار وراء القضبان».. هذه الأبيات:
فيه سجن مبنى من حجر
فى سجن مبنى من قلوب السجانين
قضـبان بتمنع عـنك النور والشـجر

زى العـبيد مترصـصين

وكان جاهين أول من كتب بالعمود الحر فى العامية.. عندما كتب قصيدة (الشاى باللبن).. وكتب أيضا (دموع وراء البرقع).. ومن هنا استحق جاهين لقب «أمير شعراء العامية».. وهو لقب منحه إياه الدكتور لويس عوض بعد وفاته.. عندما كتب فى جريدة الأهرام فى عموده الأسبوعى مقالا يودع فيه جاهين عنوانه: «أمير شعراء العامية».. وقدم من خلال المقال مجموعة من الأسباب التى دفعته إلى ذلك حيث يقول:
بعد صلاح عبدالصبور، أمل دنقل، وبعد أمل دنقل، فؤاد حداد، وبعد فؤاد حداد، صلاح جاهين.. كل ذلك المجد انتهى فى السنوات الخمس الأخيرة. وكلهم ماتوا فى أواسط العمر. ولم يبق فى مصر شعراء فحول إلا ذلك المقيم بعيدا. ومجتمع يجمع شعراؤه الفحول على الموت الباكر.. مجتمع ينبغى أن يحاسب نفسه: لماذا...؟
فكما كان صلاح عبدالصبور أمير شعراء الفصحى، فقد كان صلاح جاهين أمير شعراء العامية. فمصر لم تنجب منذ بيرم التونسي، وفى سمته، إلا صلاح جاهين. وكان كل منهما بحاجة إلى ثورة تتمخض عنه، فبيرم التونسى هو ابن ثورة 1919 وصلاح جاهين هو ابن ثورة 1952، ومع ذلك فقد كان صلاح جاهين أصدق  تعبيرا عن عصره مما كان بيرم التونسى فى زمانه، لأن جاهين كان ملتزما بقضايا مجتمعه، بينما كان بيرم مسحورا بالنماذج البشرية التى كان يلتقى بها فى كل منعطف.
بكائية إلى بيرم
جايه عروس الشعر م البغَّالة
بملاية لفّ وكف متحني
شافت صوان وحبال وناس شغَّالة
وأنا بابكى جنب الباب ومستنّي
والشمس تقطر حزن ع الصبحية
مين اللى مات يا شبّ يابو دموع
قالت عروس الشعر للموجوع
مين اللى مات يا شبّ، قل لى ياخويا
قالت عروس الشعر.. لا يكون أبويا
أنا قلت أبونا كلنا يا صبيّه
ومن الرباعيات
يا نجم.. نورك ليه كده بيرتجف؟!
هو انت قنديل زيت؟.. أو تختلف؟!
أنا نجم عالي.. بس عالى قوى
وكل ما أنظر تحت أخاف انحدف!!
****
خرج ابن آدم م العدم قلت: ياه
رجع ابن آدم للعدم قلت: ياه
تراب بيحيا.. وحى بيصير تراب الأصل هو الموت ولا الحياة
••
والكون ده كيف موجود من غير حدود
وفيه عقارب ليه وتعابين ودود
عالم مجرب فات وقال سلامات
ده ياما فيه سؤالات من غير ردود
••
ولدى نصحتك لما صوتى اتنبح
ماتخافش من جنى ولا من شبح
وان هب فيك عفريت قتيل إسأله
ما دافعش ليه عن نفسه يوم ما اندبح
كاريكاتير جاهين نشر فى صباح الخير.•