محمد حمزة و«سكة الحبايب»

عزة بدر
«أؤمر يا قمر أمرك ماشي..
لو حتى عيونى ما تغلاشي..
لا نا ليا أعز منك
ولا عندى أغلى منك
لولا أنتا الدنيا ما تحلاشي».
من كلمات أغنيته الأولى «أؤمر يا قمر» طبع محمد حمزة أغنياته بطابع خاص، حميم، ودافئ، كأنه اعتصر ما يجود به الوجدان الشعبى من تعبيرات فأنشأها نشأ جديدا كأنه يغزل غزلا خاصا به وحُسنا يعم ويبهج سامعيه أو تصبح كلمات أغانيه تعبيرات دارجة يومية أو تصبح العبارات اليومية هى بالضبط أغانيه «أؤمر يا قمر»، «لا ناليا أعز منك» «ولا عندى أغلى منك».
وتظل هذه القدرة الإبداعية منسوجة محمد حمزة فى كل أغانيه، استمدها من تحايا أولاد البلد الذين عرفهم وساكنهم وعاش معهم فى حى الحلمية الشهير.
فى مراياه صور أشواقهم وأمنياتهم وتوقهم للحب، ودعواتهم الطيبة بأن تدوم لهم لحظات الصفو، وأن يتمتعوا بقرب الحبايب.
و«أمانة ما يوم يا هوي.. آه يا هوى تجرحنا/ وتفرحنا بحبايبنا/ وإن خدنا الشوق مرجحنا/ خلينا كده على طول ماشيين».
واستطاع محمد حمزة أيضا أن يصنع لغته الغنائية الخاصة التى أفسحت مجالا واسعا للتأثر بالفصحى، فأبيات أبونواس شاعر العصر العباسى التى يقول فيها:
حامل الهوى تعب/ يستخفه الطرب
إن بكى يحق له/ ليس ما به لعب.
أنشأها محمد حمزة بالعامية فأصبح لها شأن آخر «ماسك الهوى بإيديا/ ماسك الهوى/ وآه م الهوى يا حبيبي/ آه م الهوى» تياران يرفدان شعر محمد حمزة، رافد شعبى يعتمد فى بعض نواحيه على الموال، ورافد من شعر الفصحى يجد لنفسه موقعا فريدا فى الاستخدام اللغوى للمفردات فى أغنياته فتراه يقول فى مزيج من اللغة العامية والفصحى مضفرتين معا.
سواح وماشى فى البلاد سواح
والخطوة بينى وبين حبيبى براح
مشوار بعيد وأنا فيه غريب
والليل يقرب والنهار رواح.
بصيغة المبالغة فى مفردات العامية «سواح»، وبصيغة المبالغة فى الفصحى «رواح» يصنع محمد حمزة لغته الخاصة، تلك التى فتنت الجميع فغنى له كبار المطربين: عبدالحليم حافظ، وفايزة أحمد، ونجاة الصغيرة، وشادية، ووردة، وصباح، ومحمد رشدى وغيرهم.
فقد أثرى محمد حمزة المكتبة العربية بألف ومائتى أغنية، وغنى له عبدالحليم حافظ نحو سبع وثلاثين أغنية من أشهرها: «زى الهوي»، «أى دمعة حزن لا»، «مداح القمر»، «نبتدى منين الحكاية»؟
رأى عبدالحليم نفسه فى كلماته فبعد أن كتب حمزة أغنية «مداح القمر» ولحنها بليغ حمدي، سافر عبدالحليم للعلاج، وكان حمزة قد كتب أغنية «موعود» فصمم عبدالحليم على أن يغنى «موعود» أولا - بعد أن يلحنها بليغ - لأنها الأغنية التى عبرت عنه فى لحظتها، كأن صديقه محمد حمزة قد كتبها له: «موعود معايا بالعذاب/ موعود يا قلبي/ ودايما بالجراح موعود يا قلبي».
المستمع والمتأمل لكلمات أغنيات محمد حمزة الذى أحب الصحافة وعمل فى «صباح الخير» واشتهر بعموده الصحفى «إلا إذا» وكان يتناول فيه القضايا الفنية والخاصة بالأغنية المصرية، قد اكتسب سلاسة التعبير، وخفته وبساطته من لغة الصحافة التى امتزجت بلغته الخاصة التى عانقت فيها لغة العامة الفصحي.
ولحمزة محاولات لاستيعاب الموال الفصيح فى الموال العامى ويتبدى هذا فى أغنيته العذبة «مداح القمر» فينتقل انتقالا فريدا من «موال الصبر» الشعبى إلى الموال الفصيح فيقول: «عاشق ليالى الصبر مداح القمر/ عشق العيون السمر غوانى السهر/ لولا النهار فى جبينك/ لولا الورود فى خدودك/ لولا الأمان فى وجودك/ ما كنت هويت ولا حبيبت ولا حسيت بطعم الحب يا عمري».
ثم يحدث الانتقال الفريد وتستوعبه الموسيقى فيغنى حليم:
قدك المياس يا عمري
أيقظ الإحساس فى صدري
أنت أغلى الناس فى نظري
جل من سواك يا عمري
وهو هنا يصدر عن ذائقة تغرف من بحر مبدع، ففى الموال السورى يغنى صباح فخرى فيقول: قدك المياس يا عمري/ يا غصن البان كاليسر/ أنت أحلى الناس فى نظري/ جل من سواك يا قمري.
من هذا المورد العذب للموال الشعبى والفصيح اغترف محمد حمزة فى عذوبة تميزه دائما فى أغنياته التى تتبدى فيها خفة روحه، وعطاؤه وروحه العاشقة التى ما إن تسمعها حتى يرقص قلبك طربا، وتكاد تقبل العابرين فى الطريق، وعلى الشاطئ! ويمتلئ قلبك بالحب لمحمد حمزة ولذكراه العطرة، ابن مجلة صباح الخير.. فاسمعه معى وهو يكتب على الرملة كلمة حب «ع الرملة وقاعد حبيبي/ ع الرملة وماشى الغالي/ يتمخطر بجبينه العالي/ لو بص وشاور وناداني/ حجرى وأبوس خد الرملة».
إنه محمد حمزة الذى سار عاشقا «ماسك الهوى»، مخاطبا القمر، عاتبا ومستعتبا، سواحا خفقت له قلوبنا ودقت هذا الدق السريع المتواصل معه وهو يبحث عن «سكة الحبايب».
«يا قمر يا ناسيني.. رسينى على غايب/ نور لي/ ورينى سكة الحبايب». •