السجن بداية لحياة أفضل.. أحياناً

نهي العليمي وريشة كريم عبد الملاك
لم يعتبر كل السجينات أن السجن هو النهاية، بل هناك من جعلنه بداية لمستقبل جديد، ووجدن فيه فرصة لتعديل مسارهن، واستفدن بليالي السجن الطويلة، وأثناء مقابلتي للقاتلات في سجن النسا وجدت وسطهن هذا النموذج.. فمنهن من تعلمت حرفة ومنهن من لم تكن «تفك الخط» علي حد قولها.. ومنهن من رفضتها كليتها فعادت للدراسة ودخلت كلية نظرية.
مهندسة ولكن قاتلة
زهرة فى عنبر القاتلات ولكنها معروفة فى السجن بالطالبة المجتهدة، كل من هناك يعرفها لأنها متعلمة وأكملت تعليمها فى سنوات السجن.. عندما دخلت السجن كانت فى السنة الثانية فى كلية الهندسة.. كان لقاؤنا فى مكتبة السجن، جاءت مبتسمة واثقة فى نفسها وغالباً كانت الأولى التى تود سرد قصتها، فكل من سبقنها كانت وجوههن للأرض، وبدأت: دخلت السجن فى مشاجرة مع جارتى كانت عندنا فى البيت وتطاولت عليَّ وعلى أهلى فدفعتها، فوقعت وقعة أودت بحياتها، بسبب نزيف داخلى، كنت 18 سنة فى كلية الهندسة بجامعة القاهرة.. ثم تنهدت تنهيدة طويلة: قضيت 5 سنوات وباقى 10 سنوات، لما اتحبست رفضت الجامعة أن أكمل الدراسة ولأنى كنت «ثانوى فني»، وكنت قد قمت بمعادلة لدخول كلية الهندسة شعرت بأن حياتى ضاعت وأن حياتى لم يعد لها معنى، فقد بذلت مجهودا كبيرا لدخول تلك الكلية وكان حلمى أكون مهندسة، ومع ليالى السجن الطويلة، كان عندى من الوقت لاستجماع قوتى وصممت أن أتمسك بالبقية من حياتى وأكمل ما بدأته ذاكرت «ثانوى عام» ودخلت كلية الآداب قسم فلسفة، والحمدلله تأقلمت على الحياة هنا وعلى كل حاجة. سألتها عن شكل يومها فى السجن فأجابت: «أنا يومى هنا كالتالى.. أصحى الساعة 7 أجهز فطارى، قاطعتها بتاكلوا إيه هنا؟؟ «بناخد وجبات الصبح بيض، فول وعيش وساعات مربى وفاكهة وبيوزعوا وجبة رز لحمة وطبيخ للغداء».
باقى اليوم آتى للمكتبة، واتعلمت هنا الكروشيه وطول الوقت هنا شاغلة نفسى بالقراءة بحب أقرأ فى كل حاجة الدين والروايات والأدب والكل هنا بيشجعنى من المأمور لمشرفة المكتبة.. وعندما سألتها عن المشاكل وخناقات السجن أجابت «أنا ملتزمة وماحدش بيعمل مشكلة هنا إلا المتشردات اللى رايحين جايين على السجن وعددهم مش كبير».
طالبة جامعية مثلك بعد قضاء سنوات السجن ما هو أول شيء ستقومين به عند خروجك؟؟ وكيف تخططين لمستقبلك فستكونين فى بداية الثلاثينيات؟؟
-أول حاجة هكمل هندسة لأنى بحبها جداً كليتى الأصلية اللى بحبها واللى كافحت عشان أدخلها والظروف وقفت بينى وبين إنى أكملها وحادثة قتل لم أكن أقصدها غيرت حياتى وشقلبتها..» وتكمل بتحد: «لكنى سأكملها وأكون مهندسة ثانيةً إن شاء الله».
جلابيتى البيضا بينى وبين الجامعة:
عفاف طويلة، بيضاء البشرة، قوية الجسد، ملامحها سمحة وجهها لا تفارقه الابتسامة عيناها تشعان حيوية وذكاء، بمجرد جلوسى معها بضع دقائق نسيت تماماً أننى جالسة أمام قاتلة فلها أسلوب جذاب فى الحديث.. هي فى عنبر القاتلات ومعروفة بأنها دخلت السجن أمية واستطاعت أن تحصل خلال سنوات حبسها على الثانوية العامة، تحكى لى قصتها برضا وتقبل لحالها قائلة: أبويا كان فلاح وكانت عيشتنا كويسة، لكن ما دخلتش مدارس وماكنتش أعرف حتى أكتب اسمى، كنت الكبيرة، لست بنات، اتجوزت واحد من عندنا فى البلد وبيشتغل فى القاهرة وكان عندى 16 سنة، فعشت معاه وتركت البلد وقعدت معاه شويه ومالحقتش أخلف لإننا اتسجنا وأخدت 25سنة سجن، باقى منها 3سنين سألتها: لماذا قتلتي؟؟ أجابت: جيراننا اتخانقوا مع دكتور جارنا على فلوس وكان بينهم مشاكل وكنت عارفة انهم داخلين يضربوه وياخدوا فلوسهم ولأنه عنده 84 سنة ما استحملش ضربة منهم طب ساكت، خبتهم عندى 21 يوم على السطوح فاتسجنت لأنى متسترة ومضللة للعدالة.
وما الذى شجعك على دخول محو الأمية؟؟
- اتحكم عليَّ بالسجن وكنت عيلة صغيرة وساذجة، وطول ما أنا فى الطريق وأنا بفكر هاعمل إيه فى ليالى السجن الطويلة!!والحمدلله السجن بالنسبة ليا كان فرصة.. فلو كنت برة كان زمانى ما عرفش أقرأ ولا عرفت اشتغل الشغل اللى اتعلمته هنا، فى الأول قعدت 6سنين إعدام كل اللى كانوا معايا أتاخدوا ولما اتحكم على بحكم أخف حسيت إنها فرصة جديدة ربنا أدهالى وأول حاجة فكرت فى الشهادة.
بدأت ودخلت محو الأمية ثم الابتدائية ثم الثانوية وكان المأمور وقتها اللواء إسماعيل بركات يشجعني: «كملى كملي» سنين طويلة، اليوم طويل، التعليم والقراءة بيهونوا على، وبيساعدونى هنا أوى وبشتغل فى الورش أخيط بناطيل، وأنا راضية عن نفسى إنى اتعلمت واستفدت من الحبسة، وكان ممكن أدخل الجامعة، المشكلة إنى لازم امتحن هناك بالجلابية البيضاء وبالكلابش، لسة باقى لى سنتين وكام شهر فى السجن، بعدى الوقت بالقراءة فى كتب للشعراوى سألتها وهل أحدث التعليم فرقا فى تفكيرها ورؤيتها لما ارتكبته وأدخلها السجن؟ فردت: أكيد غير التعليم حكمى على الأمور، وأنا برة كنت بقول حرام العيال اللى قتلت دى زى الورد يتحبسوا ليه كنت عيلة!! وأول ما دخلت السجن واتعلمت فقت لنفسى من جهلى وسألت نفسي: ليه ما قولتش حرام وإيه ذنبه الراجل اللى اتقتل؟؟
المشكلة إنى خايفة من برة ومش عايزة أخرج، فآخر مرة كنت تعبانة ودونى المستشفى ما ردتش أبص من الشباك!! فأنا ما أعرفش شكل شوارع القاهرة لإنى اتحبست أول ما جيت من البلد بعد جوازى، عايزة لما أطلع أنا وجوزى نرجع البلد ونعيش ونشتغل هناك. سألتها عن زوجها وعلاقتهما هل تأثرت بالسجن هذه الفترة الطويلة؟؟
جوزى اتحبس معايا وبنتقابل زيارات زوجية والحمدلله لسه متمسكين ببعض، وهنطلع سوا والحبسة ما غيرتش فينا حاجة ولما نطلع هنبتدى سوا من الصفر. •