الإثنين 13 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الرجل المحترق فى نيفادا

نهارها لهبٌ حارق.. 



ليلها صقيع يجمد الدماء فى الأوردة.. 

أما أرضها القاحلة فبحرٌ من العواصف الرملية الممتدة إلى ما وراء الأفق..!

إنها بلدة «بلاك روك» التى تظهر للوجود لبضعة أيام فى قلب الصحراء فى سبتمبر من كل عام، قبل أن تختفى مجددًا بعد أن تسدل الستار على أحد أغرب الاحتفالات الجماعية التى أقامها الإنسان المعاصر فى أقصى الغرب الأمريكى.

 

 

 

 

مهرجان النار فى قلب المدينة المفقودة.. 

ليس هذا طقسًا وثنيًا.. ولا احتفالًا للسحرة والمشعوذين! إنه تعبيرٌ فنيٌ عن انتفاضة الروح فى مواجهة المصاعب وانعكاسٌ لرغبة الإنسان المعاصر فى قهر التحديات وإثبات الذات!

إنه مهرجان الرجل المحترق الذى يشهد فى شهر سبتمبر من كل عام نزوح نحو 70 ألف شخص إلى مدينة «بلاك روك» بولاية نيفادا الواقعة غرب الولايات المتحدة لإقامة احتفالٍ صاخب يقوم فيه المشاركون ببناء ما يشبه المدينة الصغيرة فى قلب الصحراء يطلقون عليها اسم «بلاك روك» أى الصخرة السوداء، ثم يقومون بتشييد تمثالٍ خشبيٍ عملاق يقومون بحرقه خلال طقوسٍ احتفالية صاخبة.. وبعدها يشرعون فى تفكيك بنية المدينة المصغرة التى قاموا بتشييدها..! 

البداية

تعود فكرة إقامة الاحتفالية إلى عام 1986 حيث قام مواطنان من أبناء مدينة سان فرانسيسكو فى ولاية كاليفورنيا، هما (لارى هارفى) و(جيرى جيمس) بإحراق دمية خشبية على شاطئ «بيكر بيتش» أبرز معالم تلك المدينة السياحية الشهيرة.

 وقد اعتبر هارفى وجيمس طقس حرق الدمية الخشبية هى دعوة للتحرر وللتعبير عن الرغبة فى التطهر من قيود المجتمع والعادات والأعراف والتقاليد والذكريات المؤلمة وكل ما يكبل الإنسان المعاصر من أغلال مجتمعية.  

جذب هذا السلوك الكثير من الناس الذين تأثروا بدعوة هارفى وجيمس للتحرر فقرروا منذ عام 1990 إقامة هذه الاحتفالية، على أن تنتقل من زخم سان فرانسيسكو إلى بقعة منعزلة فى صحراء ولاية نيفادا تبعد نحو 190 كيلومترًا شمال مدينة «رينو» وهناك يتم تأسيس مدينة «بلاك روك»، التى يتم بناؤها فى أسبوع قبل هدمها. 

ويضع المنظمون عشرة شروط للمشاركة فى هذا الاحتفال السنوي، أولها الاندماج، وهو أول شرط يفرض على الزائرين وفيه يتم توجيه دعوة مفتوحة للمشاركة بغض النظر عن اختلاف الطبقات الاجتماعية والهويات الثقافية أو انتماءات الزائر الدينية والعقائدية وتوجهاته الفكرية. 

ويرسخ المهرجان لمبدأ العطاء وضرورة أن يحضر كل زائرٍ الهدايا ليتبادلها مع بقية الزائرين خلال طقوس الاحتفال ولا يشترط للهدية قيمة محددة أو قالبًا معينًا، وإنما هى مبادرة رمزية للتعبير عن روح العطاء داخل كل إنسان مهما اختلفت هويته. 

ويحتم المهرجان على المنظمين عدم استخدام أساليب الدعاية والإعلانات التسويقية للمنتجات والخدمات خلال فعاليات المهرجان حتى أنه يطلب من الزوار عدم استخدام الهواتف المحمولة أو آلات التصوير أو الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة. 

 

 

 

الفضول

يهتم المهرجان بترسيخ مبدأ الاعتماد على الذات وتعزيز الفضول والرغبة فى التعلم والمعرفة واستكشاف كل جديد وخوض خبرات مختلفة. 

ويقول المنظمون إن هذا يتحقق من خلال مشاركة الزائر فى الطقوس الاحتفالية التى تتمثل فى الرقص والغناء وارتداء الأزياء غير التقليدية والتنكرية.

كذلك تترجم من خلال الهدايا التى يحملها الزائر والتى تعكس روح العطاء داخل الإنسان وهى من المبادئ التى يهتم منظمو المهرجان بترسيخها. 

ويحث المهرجان زواره على تبنى روح التعاونَ والتآزرَ فى مجال الإبداع وترسيخ قيم التواصل البناء بين أبناء المجتمع الواحد، فمجتمع (بلاك روك) بالنسبة لمنظمى الاحتفالية هو نموذجٌ مصغر للمجتمع الإنسانى الذى يواجه دومًا تحديات العنصرية ويعانى من تأثيرات الأحكام المسبقة والفكر المتطرف. 

ويضع منظمو المهرجان شرط المسئولية المدنية على المشاركين، ويحتم هذا الشرط على منظمى الفعاليات تحمّل المسئولية عن سلامة وأمن المشاركين والسعى لتوعيتهم بمسئولياتهم المدنية. كما يجب عليهم تحمّل مسئولية تنظيم الفعاليات بما يتوافق مع القوانين المحلية والفيدرالية.

ومجتمع احتفالية (الرجل المحترق) يراعى الضوابط الخاصة بالحفاظ على البيئة، حيث يتعهدون بعدم ترك أى أثرٍ مادى للنشاط الذى تشهده الاحتفاليات ويحتم على المشاركين الحفاظ على موقع الاحتفال. 

ويحث مهرجان (الرجل المحترق) أعضاءه على المشاركة فى طقوس وألعاب الاحتفالية بما يكفل لهم التعبير عن ذاتهم من خلال الأعمال الإبداعية مثل الرسم والغناء والرقص وإلقاء الشعر. 

ويضع منظمو الاحتفالية شرط تحقيق التفاعل والتواصل بين المشاركين كمبدأ رئيسى يتناغم مع هدف المهرجان، الذى يدعو إلى نبذ الخلافات وكسر الحواجز وتشجيع البشر من مختلف الأعراق والأديان والأجناس على كسر حواجز الخوف وتجاوز الأحكام المسبقة من أجل مد جسور ٍمن المحبة وروح التعايش وتقبل الآخر. 

وتحقق جمعية «مشروع الرجل المحترق» التى تأسست عام 1997 عوائد سنوية من بيع تذاكر الاحتفالية، يتم إنفاق معظمها فى توفير البنية التحتية والتجهيزات الخاصة بالمهرجان. 

ورغم أن المهرجان يحظى باهتمام إعلامى متزايد على مر السنين كما لاقت دعوته للتحرر ونبذ الفرقة والتعبير عن الذات صدى إيجابيًا فى الأوساط الثقافية على مستوى العالم إلا أن طقوسه الاحتفالية العجيبة تظل حبيسة تلك المساحة النائية من صحراء نيفادا القاحلة ومدينة (بلاك روك) الخيالية التى تنشأ من الرماد.. وإلى الرماد تعود.