الأربعاء 21 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

عصمت داوستاشى رحلة فى نهر الفن والعطاء

«آه يا إسكندرية، يرحل عنك وعنا عصمت داوستاشى الفنان العظيم والكاتب والمؤرخ والأديب الرائع وأجمل أصدقاء العمر».. هكذا نعاه الروائى إبراهيم عبدالمجيد ولخص بهذا النعى شخصية فنية وقامة عظيمة إنسانيًا وفنيًا.



رحل عن عالمنا الفنان التشكيلى الكبير عصمت داوستاشى بعد حياة فنية حافلة بالعديد من الأعمال الفنية المتنوعة ما بين رسم وتصوير وتصوير ضوئى ونحت والعمل المركب، كما مارس النقد الفنى والإخراج الصحفى.

شارك فى الحركة الفنية التشكيلية منذ عام 1962 ومعظم المعارض العامة والقومية ومعارض الفن المصرى بدول العالم، كما ساهم فى الإخراج التليفزيونى والديكور ببعض الدول العربية.

فى عام 1943 ولد عصمت عبدالحليم داوستاشى لإحدى عائلات هاجرت من كريت إلى مدينة الإسكندرية لتستقر بحى الأنفوشى ويتخرج فى كلية الفنون الجميلة عام 1967 بقسم النحت.

إذن داوستاشى ابن أصيل لحضارة البحر المتوسط استلهم من تلك الحضارة عظمة التراث المصرى والفنون الشعبية ليرسم لوحات استوعبها من واقع حياته وأخرى أعاد صياغتها أحبها لفنانين آخرين مثل لوحة «بنات بحری» لمحمود سعيد.

 

 

 

وتأثر داوستاشى بالعديد من الفنانين المصريين، وكانت أستاذته الفنانة الكبيرة عفت ناجى، لها أثر كبير فى فنه وقال عنها:

تعلمت منها سلوك الفنان العظيم وأخلاقه وعطاءاته واستلهمت منها روح التوهج الإبداعى، وكذلك شقيقها الفنان الكبير محمد ناجى رائد فن التصوير المصرى الحديث ، وزوجها رائد دراسات الفن الشعبى «سعد الخادم» هؤلاء الثلاثة مثلوا مثلثًا ذهبيًا وجد داوستاشى نفسه فى قلب هذه المثلث ليتعلم الفن وسط أصالة وجدية وقيم وتراث رواد عظام.

مزج داوستاشى فى أعماله بين الرسم والكولاج واقتنائه للأشياء القديمة والأنتيكات وقطع الخردة ليصنع منها أعمالاً فنية ثرية برؤى بصرية متجددة.

الفنان عصمت داوستاشى أخلص للفن وقضى حياته وفيًا له وكان داعمًا للشباب، وفى أحد معارضه دعا بعض الفنانين الذين رأى منهم توهج الفن والإبداع للمشاركة فى عرض لوحاتهم بجانب لوحاته دعمًا لهم وهم فى مقتبل مسيرتهم الفنية، ولم يبخل يومًا بإبداء النصح لكل طالب له من منطلق العطاء الفنى بلا حدود، فالفنان الراحل يمثل أحد أعمدة الحركة الفنية وواحد من أهم رموز الفن المصرى والسكندرى ليترك خلفه أثرًا فنيًا باقيًا، ما بين أعمال فنية وكتب وقصص أدبية واشتهر بأنه رائد الفن الشعبى باستلهامه لرموز التراث الشعبى.

وفى وداع الحركة الفنية للفنان الكبير نعى وزير الثقافة د. أحمد هنو الفنان فى بيان له: «برحيل الفنان الكبير عصمت داوستاشى، فقدت الساحة الثقافية قامة فنية رفيعة، ومبدعًا استثنائيًا نقش الجمال فى ذاكرة الوطن، وكان أحد أعمدة الحركة التشكيلية فى مصر، وشكلت أعماله ملامح جمالية وإنسانية عميقة عبرت عن روح الفن وتفاعلت مع التراث المصرى العريق».

كما رثاه «د. وليد قانوش» رئيس قطاع الفنون التشكيلية قائلاً: «الفنان الكبير رحل وترك مسيرة فنية استثنائية امتدت لأكثر من ستين عامًا أثرى خلالها الساحة الفنية بأعماله الإبداعية التى حملت بصدق طابعًا مصريًا أصيلاً، شغوفًا فى أغلب أعماله بالتراث الثقافى الشعبى رغم مرور تجربته بالكثير من المحطات والنقلات الفنية».

الدكتور صلاح المليجى أستاذ الحفر ورئيس قطاع الفنون الأسبق وأحد المقربين للفنان عصمت داوستاشى قال فى معرض حديثه لـ «صباح الخير»: «هناك محطات كثيرة بينى وبين الفنان الراحل أولها معرفتى به فى قطار الصعيد أثناء ذهابنا لسمبوزيوم الأقصر، كنا أول من ذهب هناك، كنا أول مجموعة تابعة للثقافة الجماهيرية فى منتصف الثمانينيات، كنت أنا ومحمد الناصر وعوض الشيمى وعزالدين نجيب وعصمت داوستاشى، وكانت المرة الأولى التى أتعرف فيها عليه، كنت أسمع عنه وأرى لوحاته، وبعد ذلك كان لى شرف العمل معه، عندما ترى فنانًا كبيرًا وكيف يبنى العمل الفنى وكيف يوفر وقته، حينها تشعر بالفارق وتوفر خطوات كثيرة من الكلام لتعرف كم هو فنان، وهو يرسم أفكاره كفنان، بالإضافة إلى أنه منظر وشارح جميل يشرح لك كل شىء، الرحلة استمرت أسبوعين، لكنها كانت مهمة جدًا بالنسبة لى، فقد عدت منها وأنا كسبان صداقة عصمت داوستاشى لأنه الوحيد فى الرحلة لم أكن على معرفة به من قبل.

هناك محطة أخرى، حين كنت «قومسير» لصالون الشباب الـ11 الذى أقيم لأول مرة فى قصر الفنون طلب منى الدكتور أحمد نوار أن أقدم أسماء لجنة التحكيم فرشحت عصمت داوستاشى رئيسًا للجنة التحكيم، وكان ذلك شيئًا عظيمًا لأننى أدخلت لأول مرة الكثير من الفنانين الشباب فى لجان الاختيار منهم طارق الكومى - نقيب التشكيليين حاليًا - ومحمد الناصر وصلاح حماد كمحكمين فى الصالون وكانت مجموعة عمل رائعة مع الفنان الراحل.

ومن أهم المحطات معه كانت فى سمبوزيوم «إهدن» بلبنان وكان معنا الفنان السفير يسرى القويضى، وعلى المستوى الإنسانى والثقافى والفنى تعلمت منه الكثير، فقد لفت نظرى إلى شىء مهم فى هذه الرحلة وهى توثيق وفهرسة الأعمال، يعنى تجربتك الفنية مطلوب منك أن تنميها وتطورها وتوثقها، وقد استطاع أن يفعل ذلك حتى آخر لحظات حياته.

 

 

 

فى آخر ندوة حضرتها معه تحدثت عن محطاتى مع عصمت داوستاشى، وفى هذه الندوة كان لدىّ إحساس بأنى لن أراه مرة أخرى.

لقد كنا جميعًا نحتفل بوجوده معنا، كنا نحتفل به ونكرمه.

كان - والحديث للدكتور صلاح المليجى - مخلصًا لوطنه وفنه ومدينته الإسكندرية.

أذكر أنه حين أقام خيمة تشبه الهرم فى بينالى الإسكندرية حضر الفنان عادل إمام وجلس أرضا «قرفصاء» داخل خيمة داوستاشى فكم كانت أعماله «تاخد الناس»، وتتفاعل معهم.

وفى حديث مع هشام قنديل مؤسس أتيليه العرب للثقافة والفنون «ضى» قال لـ«صباح الخير»: «لقد كرمت المؤسسة الفنان فى حياته وأعددنا له كتابين ضخمين الأول «الأعمال الكاملة» أكثر من 500 صفحة، والكتاب الآخر «وجوه داوستاشى»، اعترافًا بقيمته، وهو واحد من أهم الفنانين المصريين، فهو عبقرى يعمل بعيدًا عن «البروباجندا» قام بصنع أعمال فنية، رسم ونحت وجرافيك وتجهيز فى الفراغ، وهو سبّاق فى هذا المجال ورائد من رواد ا لفن المفاهيمى، كان علامة كبيرة من علامات الفن المصرى.. وتكريمه كان من نبض الشارع دون مجاملات، وعن المواقف الإنسانية فقد أفادنى بشكل كبير فأحيانًا كان هناك هجوم من البعض على المؤسسة فكان ينصحنى بألا أنظر إلى الوراء.. فالرسالة الفنية يجب أن أكملها.. وأيضا أفادنى نقديًا فأمدنى بأمهات الكتب عن الحركة الفنية والتشكيلية وعرفنى على الفنانين خاصة المنسيين - يوجد فنانون كبار لا يعلم أحد عنهم شيئًا.

استضفناه أكثر من مرة هنا، وفى جدة من خلال معارض وندوات أقيمت للفنانين هناك، فقد كانت لديه خبرة جبارة نقلها إليهم وكان لا يبخل بأى معلومة.

وأقمنا له معرضًا فى «ضى المهندسين» وعنوانه «التلميذ وأستاذته» شارك بلوحاته ولوحات الفنانة الكبيرة «عفت ناجى».

وهب الفنان الكبير عصمت داوستاشى حياته للفن خلال رحلة عطاء فنى باقٍ من خلال أعماله الفنية ومحبة أصدقائه وتلاميذه، ويستمر نهر العطاء متجددًا.