أزمة تبدأ بالضحك وتنتهى بالاكتئاب
ما فعله المتنمرون فينا!

تحقيق: رانيا الفقى
«أنتِ تخينة جدًا» بتاكلى أكل أخواتك؟».. بهذه الكلمات التى تشبه الطعنات، كانت تُستقبل سلمى يوميًا فى مدرستها من زميلاتها، حتى فقدت ثقتها بنفسها تمامًا.
لم تكن وحدها فى هذه المعاناة، فمحمد، الفتى النحيل ذو اللهجة الريفية، كان يتعرض لسخرية من زملائه كل يوم، فيما نادوا كريمة، ذات العلامات البارزة على وجهها، بألقاب جارحة حطمتها نفسيًا.
قصص ضحايا التنمر لا تُعَد ولا تُحصَى.
لكنها تظل مخفية خلف جدران الصمت والخجل والخوف.. بعض الوقائع يراها البعض سلوكًا عابرًا بين الأطفال والمراهقين، لكن الواقع أن ترسباتها تحمل آثارًا نفسية مدمرة تمتد لسنوات، وقد تقود بعض الضحايا إلى العزلة، والاكتئاب؛ بل حتى الانتحار.
لكن؛ ماذا عن المتنمر نفسه؟ لماذا يتحول بعض الأطفال إلى مَصدر للأذى؟ وما دور الأسرة والمجتمع فى التعامل مع هذه الظاهرة؟.. أسئلة كثيرة نبحث عن إجاباتها فى هذا التحقيق.
سلمى.. فتاة تخشى المرآة
تقول سلمى (15 عامًا)، وهى تعانى من زيادة فى الوزن، إن رحلة معاناتها بدأت منذ دخولها المرحلة الثانوية؛ حيث تحولت المَدرسة إلى كابوس يومى: «كل يوم أسمع تعليقات عن جسمى، يسخرون من وزنى، يضحكون عندما أمُر بجانبهم خاصة إذا حدثت مشادة مع إحدى زميلاتى، حتى إننى توقفت عن الأكل لفترة، اعتقدت أننى إذا أصبحت نحيفة سأتخلص من سخريتهم، لكن ذلك لم يحدث».
أمّا محمد (16 عامًا)، فقد انتقل مؤخرًا إلى مدرسة جديدة فى القاهرة، لكن لهجته الريفية كانت كفيلة بجعله هدفًا للتنمر.
يقول: «كانوا يسخرون من طريقتى فى الكلام، يقلدوننى بطريقة ساخرة، وينادوننى بألقاب جارحة.. حاولت تجاهلهم، لكن الأمر تحول إلى مضايقات يومية جعلتنى أكره الذهاب إلى المدرسة».
قصة أخرى لكريمة، التى تعانى من بقع جلدية واضحة على وجهها، لذلك كانت هدفًا لزميلاتها اللاتى لم يتوقفن عن السخرية منها: «كانوا ينعتوننى بـ«المبقعة»، وكانوا يضحكون يقولون لى «اسمك على اسم ستى» تقول: «كلما نظرت إلى المرآة كنت أعود إلى المنزل وأبكى لساعات، توقفت عن الخروج، وبدأت أشعر أننى بلا قيمة».

على الجانب الآخر، هناك طرف آخر فى معادلة التنمر: المتنمر نفسه أحمد، أحد هؤلاء، يروى حكايته: «أنا لست شخصًا سيئًا؛ لكننى لم أجد طريقة أخرى للتعبير عن غضبى فى المنزل، وربما يكون مزاحًا فقط، وفى المدرسة، كنت أرغب فقط فى إثبات نفسى، فكنت أمارس نفس السلوك على غيرى كنوع من أنواع المزاح».
يقول الدكتور جمال فرويز استشارى الطب النفسى: التنمر لم يعد يقتصر على الكلمات الجارحة أو الاعتداء الجسدى؛ بل أصبح يأخذ أشكالًا خفية مؤذية بشدة، قد يكون مجرد نظرة ساخرة، ضحكة مستهزئة، أو حتى تجاهُل متعمد، وكلها صور من التنمر السلبى، الذى يشعر فيه الضحية بأنه غير مرغوب فيه أو محل سخرية.
التنمر اللفظى الأكثر انتشارًا بين الأطفال والمراهقين؛ حيث يُمارَس من خلال الإهانات والسخرية من المظهر أو الطبقة الاجتماعية، وقد تصل الأمور إلى الاعتداء المباشر مثل الضرب، إتلاف الممتلكات، تمزيق الكتب، أو حتى إلحاق الأذى الجسدى بزملاء المدرسة.
لكن؛ لماذا يصبح الطفل متنمرًا؟
فالتنمر ليس سلوكًا فطريًا؛ بل هو سلوك مكتسب ناتج عن خلل نفسى أو بيئى.. الطفل المتنمر غالبًا ما يكون فاقدًا للحب والاهتمام، يعانى من حرمان عاطفى أو شعور بالدونية، فيلجأ إلى إيذاء الآخرين لتعويض هذا النقص.
والأسرة تلعب دورًا أساسيًا فى تشكيل شخصية الطفل، فالمشكلات الأسرية مثل العنف بين الوالدين، الإهمال العاطفى، أو القسوة فى التعامل؛ قد تدفع الطفل إلى البحث عن متنفس، وهو ما يجده فى السيطرة على الآخرين وإيذائهم نفسيًا أو جسديًا.

الطفل الذى ينشأ فى بيئة مليئة بالعنف قد يصبح متنمرًا لا شعوريًا؛ لأنه يرى أن هذه هى الطريقة الطبيعية للتعامل مع الآخرين.
وقد يتحول الضحية إلى التنمر أحيانًا، فضحايا التنمر ليسوا مجرد متلقين للأذى؛ بل قد يتحولون لاحقًا إلى متنمرين بأنفسهم فى البداية.
وقد يصبح الطفل الذى يتعرض للتنمر أكثر انطوائية، ينعزل عن الآخرين، أو يتهرب من الذهاب إلى المَدرسة لكن على المدى البعيد؛ قد يتحول إلى شخص عدوانى ومتنمر، كرد فعل انتقامى على ما تعرّض له.
والأمر قد يصل إلى مراحل أكثر خطورة؛ حيث يمكن للضحية أن يلجأ إلى إيذاء نفسه أو الآخرين، وبعض الحالات وصلت إلى الانتحار، أو حتى تنفيذ أعمال عنف ضد المتنمرين، مما يجعل التعامل مع هذه الظاهرة ضرورة مُلحة.
صناعة السوشيال ميديا
النصيحة هى أن يكون الأهل أكثر وعيًا؛ لأن الأطفال والمراهقين غالبًا ما يخفون تعرضهم للتنمر خوفًا من العقاب أو من زيادة الاعتداء عليهم.
هناك علامات لا يجب تجاهلها، مثل فقدان الشهية، اضطرابات النوم.
تجنب الحديث عن المَدرسة أو النادى، العودة إلى المنزل بملابس ممزقة أو أغراض مفقودة، أو ادعاء المرض بشكل متكرر للهروب من الذهاب إلى المَدرسة
فى المقابل؛ إذا كان الطفل هو المتنمر؛ فهناك أيضًا إشارات تدل على ذلك، مثل التحدث عن زملائه بازدراء، أو امتلاك أغراض جديدة غير مبررة قد يكون أخذها بالقوة من الآخرين، أو إظهار عدوانية زائدة تجاه أفراد الأسرة.
وزادت تكنولوجيا العصر من خطورة التنمر؛ خصوصًا مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعى، التى أصبحت بيئة خصبة لنشر السلوكيات السلبية.
«التيك توك» تحول إلى لعنة حقيقية.. الأطفال والمراهقون يشاهدون مقاطع مليئة بالسخرية والإهانة، ثم يقلدونها دون وعى، مثل إلقاء الماء على زملائهم، أو تنفيذ مقالب عنيفة قد تؤدى إلى إصابات خطيرة، مثل ما حدث للفتاة فى حادث مَدرسة التجمع.
لم يعد التنمر مجرد سلوك فردى؛ بل تحول إلى ظاهرة رقمية؛ حيث يقوم بعض الأطفال بتصوير اعتداءاتهم على زملائهم ونشرها على الإنترنت للحصول على مشاهدات وإعجابات، مما يشجع آخرين على تكرار هذه التصرفات بحثًا عن الشهرة مثل ما حدث فى الآونة الأخيرة بالقضية الشهيرة بـ« هشام جوجل».

المواجهة تبدأ بالوعى
لا بُدّ أن تكون هناك توعية مستمرة للطلاب، الأهل، وحتى المدرسين، حول خطورة الأزمة وطرُق التعامل معها.
لا بُدّ أن تكون هناك عقوبات صارمة على الأطفال المتنمرين، مثل حرمانهم من أشياء يحبونها لفترة معينة، حتى يدركوا أن التنمر ليس سلوكًا مقبولًا.
الأهم هو احتواء الطفل، سواء كان ضحية أو متنمرًا، ومساعدته على استعادة ثقته بنفسه؛ بدلًا من تركه يغرق فى دوامة التنمر والعنف.
التنمر لم يعد مقتصرًا على المشادات البدنية أو السخرية المباشرة؛ بل تطور ليأخذ أشكالًا متعددة، منها اللفظى، والاجتماعى، والإلكترونى.. وتشرح د.شيماء محمد أستاذة علم النفس التربوى، أن «التنمر اللفظى يترك ندوبًا نفسية أكثر من الجسدى؛ حيث يظل أثر الكلمات المهينة محفورًا فى الذاكرة، بينما التنمر الإلكترونى زاد من خطورة الظاهرة، إذ يمكن أن يتعرض الطفل أو المراهق للمضايقات فى أى وقت، وأمام جمهور أوسع».
وفى دراسة حديثة أجراها المركز القومى للبحوث الاجتماعية، تبيّن أن 60% من الأطفال والمراهقين تعرضوا لشكل من أشكال التنمر، بينما 30% منهم تأثروا نفسيًا بدرجة دفعتهم للانعزال أو حتى التفكير فى إيذاء أنفسهم.
ويعود التنمر إلى عدة أسباب نفسية واجتماعية، أبرزها البيئة الأسرية غير المستقرة؛ حيث ينشأ الطفل فى مناخ يتسم بالعنف، مما يجعله يعتقد أن القوة هى الوسيلة الوحيدة للتعامل مع الآخرين.
والتنمر ليس مجرد مشكلة فردية يواجهها بعض الأطفال والمراهقين؛ بل هو ظاهرة مجتمعية تتطلب تكاتف الجميع لمواجهتها. فالسكوت عن التنمر يُرسِّخ ثقافة العنف والسخرية، ويجعل الضحايا يعيشون فى دوامة من الألم النفسى قد تستمر مدى الحياة.
الحل لا يكمن فقط فى العقوبات؛ بل فى بناء وعى حقيقى داخل الأسرة والمَدرسة والمجتمع ككل. علينا أن نعلِّم أبناءنا كيف يكونون أكثر تقبلاً للآخر، وكيف يتحولون من متفرجين سلبيين إلى داعمين لمن يتعرضون للأذى. دور المؤسّسات التربوية أصبح أكثر أهمية من أى وقت مضى؛ فى تسليط الضوء على خطورة التنمر، وإيجاد حلول عملية لحماية الأطفال من هذا الخطر المتزايد.