الثلاثاء 17 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

عن الكتابة الناعمة والمؤلمة حفيدات شهرزاد

«بنت السفير».. رواية من البدايات



فى فصل بعنوان (الجسد: الخفاء والتجلى) يقول الباحث عز الدين الوافى فى كتابه «سلطة الصورة وبلاغة الجسد»، إن الأشياء تحدد إلى حد بعيد علاقتنا ومفاهيمنا حول العالم ببعديه المادى والرمزى كما أنها تساهم فى تشكيل تصوراتنا حول هويتنا وهوية الآخر. تبقى هذه الأشياء بدءًا بالتلفاز مرورًا بالسيارة وصولًا إلى جهاز المحمول بمثابة وسائط إدراكية مساعدة من أجل تفعيل وتشكيل النشاط الحسى واللا شعورى والتأملى لكل مظاهر حياتنا الفردية والجماعية. مع حضارة الشيء والسلع الاستهلاكية وتشيؤ الإنسان لم يعد للأشياء بُعد فيزيائى بلون وشكل وحجم معين، لكنها أصبحت تحدد مشاعرنا ومرتبتنا الاجتماعية وصارت بالتالى مقياسًا للنجاح والسعادة فى الحياة.

 

استخدام حقول: الجسد/ الحب/ الجنس، فى الأدب العربى المعاصر جاء، إلى جانب نزعته التحررية من قيود لا حصر لها، للتعبير عن غربة الإنسان فى المجتمع والتقاليد المختلفة عن الذى يأتى كل يوم من الخارج ولا يمكن منعه. لقد كتبت الأدبية والصحفية (سلمى شلاش) روايتها (بنت السفير) لتقول إن الأرض تهتز تحت قدمى بطلة القصة، وأنها غريبة حتى فى مجتمعها، وقد أعاد الحب الصادق الأمان إلى نفسها. (سلمى) عملت فى الصحافة فى سن السادسة عشرة، كمراسلة صحفية لمجلة صباح الخير فى سوريا، ثم كتبت فى عدد من المجلات والصحف الكويتية، وعندما استقرت فى مصر اتجهت لكتابة القصة لتعبر عن ظروف الفتاة والمرأة العربية وحقها فى اختيار الحياة متحدية التقاليد البالية والأصول المهترئة وأن تمتلك حقها فى التجربة، وكان أول عمل روائى (أنا فى عينيه) وأيضًا مجموعة قصص (أشواقى بلا حدود). وفى روايتها القصيرة (بنت السفير) عبرت عن الصراع بين تقاليد الغرب المتفتح الذى تخلص من أغلب عقده حيال موضوع الجسد، والشرق فى نفسية الإنسان العربى بنت السفير تربت على تقاليد أوروبا وحرية الفتاة هناك بلا حدود، وعندما عادت الى بلدها العربى وعاشت بأسلوبها المتحرر الأوروبى صدمت المجتمع فنبذها. الرواية منشورة فى أواخر السبعينيات فى مطابع روز اليوسف، مفتتح الرواية صريح وبسيط: «مدحت الشاب القوى، بدا منذ لحظات لا شيء، مثل كل الناس يدين بالولاء لكل هؤلاء الذين يمنون عليه بالحياة، الأم، الأب، المجتمع، الدين.. ثم امرأة ما. مسكين. حتى أنا اشتركت فى تمزيقه. عريته ووصمته بالفشل. لم أنس أبدًا تلك الأمسية.. كيف يحتمل الشباب أن يرقصوا متباعدين. التحقت به.. أنا أوروبية المشاعر.. جريئة فى التعبير عنها.. ، الكاتبة تتعمد جعل بطلة قصتها ساذجة تمقت الفكر، حتى إنها ترد على إحداهن وقد أعلنت أمامها أن الكتّاب هم صفوة البشر، يمزجون دماءهم بإحساساتهم ليقدموا للناس أروع الأفكار والتجارب، فتسخر هي: «لأنهم فشلوا فى الحب.. فشلوا أن يكونوا محبوبين» وكأن المؤلفة تخشى ألا تكون البطلة المستهترة جاهلة بكل شيء لأن القارئ والناقد سيرتبك أمام امرأة متحررة ومثقفة. النموذج الذى رأيناه بعد سنوات فى رواية (سلوى النعيمي)، «برهان العسل». وهنا تضع البطلة فى الضوء الذى يرضى المجتمع (ما حاجتى لتجارب هؤلاء المتلصصين وأنا أمتلك العالم بأسره؟ ألمس شفاها حقيقية.. أعانق رجلًا..أركض فى الشوارع. أفلست الحياة على ضوء تجاربى وخبرتى أتقيأ رفضى للغلط. أبحث عن ألوان الطيف.. أرفض بيدى. بلسانى. ما لا يعجبنى من التقاليد.. هذه هى الثقافة الحقيقية فى نظرى).. بطلة الرواية تكره أهل الأدب وهكذا تضع المؤلفة سببًا لتقف فى صف المجتمع ضد بطلتها التى تعتقد أن الكتّاب مجانين أكثرهم يموت اما مفتخرًا أو مجنونًا، ليس لديهم القدرة أن يعيشوا الواقع، فيتفتق ذهنهم عن طريقة مبتكرة تعوضهم هذا الحرمان، وهى الكتابة. ثم إنها امرأة لا تخفى دوافع الشهوانية فى كلامها ولا غيرتها النسائية الساذجة، وتعترف رغم ذلك أنها لا تتقن حديث النساء.. تدير عينيها فى بيت زوجة حبيبها وتصفه بأنه بيت (مرسوم.. بلا ذوق.. بلا شخصية) كمعظم البيوت الشرقية فى رأيها.. كأن البيت فاترينة تستعرض فيه المرأة ما تملك ليس إلا.. لا تنكر كراهيتها للمرأة التى ربطت حبيبها إليها وإلى ذوق جدتها.. كذلك ربطت رجولته، وهى تراه مثال الرجل الرائع جسدًا كأحد تماثيل الرومان. سوزان، البطلة، تصارحه: أريد أن أحضنك، أقبلك، سئمت أن نلتقى بين الآخرين. ثم إن الحرية التى جلبتها معها من الخارج تسجن فى قصة حب مكبلة بالتقاليد، تغوص فيها حتى النخاع، كأنها أصبحت أخرى، لقد فقدت الحماس لأشياء كثيرة كانت تبهرها. تعلقت برجل واحد وانقطعت عن كل الأصدقاء، شعرت بالقرف يزحف إلى نفسها من أحاديثهم السخيفة ونكاتهم البالية. أمها تحاول أن تفهم. وتشحت بالصمت. أمها تصرخ: «أنت شرقية.. البكارة شرف البنت وتاجها.» فترد عليها: «عجيبة أنت يا أمى، كل هذه السنين ولم تسألينى عن بكارتى عمرى عشرون عامًا. أنتمى لهذا المجتمع العربى الذى عشت فيه معظم سنى عمرى. تشبعت حتى منبت شعرى بأفكاره وطريقة حياته وأصبحت رغم شهادة ميلادى وجنسيتى.. أوروبية.. أنا أنتمى لشرقى بالباسبورت فقط وهذا ليس ذنبي». على ذلك توافق على فكرة الزواج من أجل أن أرى ابتسامتك من جديد. لقد افتقدتيهما منذ وفاة والدى. أتزوج وكأننى مقبلة على رحلة قصيرة».. ها هم يدمغون حريتها. وعيون أمها التى يسكن فيها القلق كانت آخر ماودعها بباب غرفتها.