الأربعاء 20 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

العبور إلى السعادة

المولد، يا لها من مفردة ذات أحرف قليلة، لكنها تمثل حديقة الفقراء، الفرحة التى يزرعونها بعاداتهم ومعتقداتهم وألعابهم ولهوهم وتوقهم الدائم نحو اقتناص الأفراح التى يصيدونها من أشجار محبتهم وغوصهم فى طقوس جماعية، حيث يذوب الفرد فى الجماعة متحلقًا بالغناء والرقص وكأنه يستعيد طاقة جَسَده عبر لغة الجسَد التى تتحول معها الروح إلى نغمة إنسانية ممتدة فى جذرها وعابرة لسنوات الألم.



 

فهناك سعى إنسانى توّاق إلى ممارسة الطقوس الجماعية، يتجلى ذلك فى عدد من الممارسات والعادات والتقاليد الشعبية التى تمثل جوهر الثقافة الشعبية، وهو ما يمكن أن نطلق عليه الوعى الجمعى الذى يتأسس فى جزء منه على استنهاض مجموعة من البقايا الأسطورية التى عبرت السنوات لتبقى راسخة فى أشكال تمارسها الجماعة الشعبية، من هنا هل يمكننا النظر إلى ظاهرة الاحتفال بالأولياء والقديسين ومقارنتها بظاهرة الاحتفال بالآلهة المحلية وكلتاهما من الظواهر الشعبية التى تعتمد على الطقس الاحتفالى الذى يلعب دورًا تطهيريّا، حيث يتعانق التطهير بأفراح الذات بالتخلى عن أوجاعها من خلال المعاينة أو من خلال الملاحظة بالمشاركة، وتصل المشاركة إلى أقصى درجاتها بدخول أفراد الجماعة فى حالة طقسية تقيم لغتها مع الكائنات الغيبية، ويتحول الأفراد إلى كتلة متسقة فى الحركة بحيث يصير الجسد شيئًا آخر غير الذى اعتدناه طمعًا فى الوصول لذروة النشوة أو الدخول فى غيبوبة يتبعها التكبير فى الأذن ورشّ الوجه بالمياه وبعض العطور لإعادة المُغمَى عليه من عالمه السّحرى للواقع من جديد، وتتجلى حالة التوحُّد هذه فى عدد من الظواهر لعل أهمها الزار، وهو طقس نسائى وحلقات الذِّكر، وهو طقس أغلب ممارسيه من الذكور.

 

 

 

إن نظرةً على خارطة الموالد المصرية سواء كانت مرتبطة بالقديسين أو بالأولياء سنجد حراكا شعبيّا جذوره أبعد من الأديان السماوية، حيث ترتبط بالشعيرة.

طقوس جماعية

فالطقس على حد قول جلين ويلسون فى كتابه «سيكولوجية الأداء» يتكون من التكرار النمطى المغلق لنشاط ما استجلابًا لأثر سحرى ولا يتكرر النمط السلوكى فقط نتيجة للعادة، ولكن أيضًا لأنه اكتسب دلالة باطنية عميقة كما يتجسد فى ظاهرة الموالد، حيث تستدعى الذاكرة الجمعية مشاهد التجمعات البشرية لتحقيق مجموعة من الغايات، منها استعادة حالات التوحد والتماهى فى العقل الجمعى وتدعيم قيم الجماعية والتشارك وخَلق حلول لمشكلات اجتماعية عميقة لا تستطيع الحلول الفردية حلها، من هنا فالموالد هى أفراح الفقراء والمستضعفين والراغبين فى التضحية عبر طقوس جماعية تتجلى فى عادات وتقاليد الطعام، الزيارة، حلقات الذِّكر التى تمثل فى استدعاء الرواسب الثقافية رُغْمَ تغير وظيفتها لتقوم بدور اجتماعى، فقد كانت الحركة بمثابة ممارسة سحرية لاسترضاء الآلهة أو لا ستجلاب المطر أو لمقاومة القوى الغيبية الشريرة، ففى حلقات الذِّكر التى تقام غالبًا قُرب غياب الشمس حيث يبدأ المريدون فى الحركة جلوسًا مع ترديد الأوراد التى تتحول بالتكرار إلى نغمة تتصاعد حتى يصل «الذَّكيرة» إلى مرحلة التطويح عبر حركة دائرية ربما تشير إلى رغبة الوصول والتواصل مع المطلق متمثلًا فى حضرة الولى، ليصل بعد ذلك إلى التخمير وفيه ينبرى المُنشد فى الإلحاح على إنشاد الخمريات لنلمح حركة الذَّكيرة وهى تتصاعد وتيرتها بشكل جماعى يرينا جسدًا واحدًا يتهجد على نغمات الإيقاع وصوت «الكولة» / «العفاطة»، وهى آلة موسيقية من آلات الغاب والطورة / الصاجات، وجميعها تتعشق مع صوت المُنشد وحركة أجساد الذَّكيرة التى تتماوج فى جماعية تحتاج من علماء لغة الجسد أن يُعَجلوا برصدها، فكل حركة وسكنة وارتفاعة عن الأرض تشير إلى وصول المريدين إلى غاية النشوة بالذِّكر الذى يزاوج فيه المغنى بين اللغة الفصحى التى يهشمها مستدعيًا ابن الفارض وابن عربى والبوصيرى، والعامية التى تتسلح بعدد من الأشكال الشِّعرية، والجماعة تواصل الذِّكر فيتحول الكلام لفعل، وتكتسب المفردة قوة على الأرض فتصعد بالأرواح إلى سماوات خاصة لا يعرفها إلا كل من نزل الحلقة، والحلقة تعنى هنا التجمع المغلق على جماعة تسلك سلوكا أداته الجسد وغايته الأرواح، وهى تعنى التحلق، أى التجمع حول غاية، والتحليق، أى الصعود والطيران وتخفيف آلام الجسد بالرقص عبْر التقاء الوعى الجمعى الذى يمثل طاقة قادرة على الفعل، فالكلمة والموسيقى تقودان الأفعال حتى تصل الجموع إلى غايتها كلما تعلقت الأذن بالوصال والغرام:  يا ليتنى وجدت سبيلا للوصال أواصله 

 

 

أصبحتْ فى بحر الغرام سفينة

تصدتْ لها أيدى الرياح تشاكله 

ليتنى بحر تستبين سواحله 

ويواصل الإنشاد بعد ذِكْرِ اللهِ ونبيِّهِ استدعاء الأولياء والمتصوفة، خصوصًا الأقطاب الكبار: محيى الدين بن عربى – عمر بن الفارض – الرفاعى - السيد البدوى – أبوالحسن الشاذلى- أبوالعباس المرسى- رابعة العدوية، فى محاولة للوصول إلى منازلهم واستحضار المَدَد، وهى الكلمة السحرية عند المتصوفة الشعبيين: 

مدد.. مدد.. يا مدد

سيدى محيى الدين سلطان العارفين 

مدد.. مدد.. يا مدد 

سيدى عمر مدد سلطان العاشقين 

مدد.. مدد.. يا مدد 

سيدى عبدالكريم يا عم يا جيلى 

مدد.. مدد.. يا مدد 

سيدى أبومدين يا غوث المدد

مدد.. مدد.. يا مدد 

يا ستنا رابعة ياعدوية 

يا أهل الحضرة وعلى العموم 

سيدى أبوالعلمين عم يا رفاعى 

سيدى أبا شامة

مدد.. مدد.. يا مدد 

سيدى أبوالعينين 

سيدى إبراهيم يا دسوقى 

 

 

 

مدد.. مدد.. يا مدد 

شيخ العرب مدد عم يا سيد 

سيدى أبوالعباس عم يا مرسى 

مدد.. مدد.. يا مدد 

سيدى أبى الحسن عم يا شاذلى 

مدد.. مدد.. يا مدد 

 

 

 

فى هذا السياق، هل نعد الذِّكر بمثابة التعبير الجسدى الجماعى الذى يُعبر عن كل رواد المولد، حيث يمثل «الذَّكيرة» جماع الراغبين فى الخلاص من خلال استرضاء قوى ما وراء الطبيعة عَبر الحركة ولغتها المتفردة؟، وهل الذِّكر يمثل طقس عبور من حالة لحالة، كما نرى فى بعض محطات دورة الحياة التى تتسم بالجماعية، كطقس الميلاد الذى تتشارك فيه الأسرة الكبيرة والجيران فى الاحتفال بالمولود وخروجه من المجهول للحياة، وكالزواج الذى ينتقل فيه العريس من مرحلة المفرد ليكون زوجًا وعضوًا اجتماعيّا فى أسرة بمباركة الجموع، وكظاهرة الموت التى تمارس فيها الجماعة الشعبية طقوسًا دينية واجتماعية وسحرية تتساوق مع العبور من حياة الواقع إلى حياة الخلود، وفى رحلة الحج التى ينتقل فيها الجسد مكانيّا وروحيّا ليعود شخصًا جديدًا، والملاحظ أن كل هذه الظواهر لا تتم دون حركة جماعية ومشاركة بوسائل ووسائط الغناء والحركة والموسيقى:

خدنى معاك خدنى معاك 

إذا كنت مسافر خدنى معاك 

بامدح النبى واصلى 

 

 

 

مديح النبى أحسن لى 

الحَاج بيدخل ويصلى 

إذا كنت مسافر خدنى معاك

الحاج واقف على بابه 

النور واقف فى أعتابه 

باركوا له أهله وأحبابه 

إذا كنت مسافر خدنى معاك

هكذا تحظى هذه النصوص وما يتعالق بها بمحبة الجماعة الشعبية لأنها تخلعهم من «الأنا» لتضعهم فى «النحنُ»، فالجماعة دون اتفاق تصادق على هذه الطقوس بما تضم من أغانٍ وموسيقى وما تحمله من قيم هى عماد جماعيتها، لأنها تمارس آليات الحذف والإضافة وربما الإلغاء والاستعادة حينما تكون حاجاتها الاجتماعية هى الدافعة إلى ذلك.

تجليات المولد النبوى 

يمثل مولد النبى- صلى الله عليه وسلم- حدثًا عظيمًا فى يقين الجماعة الشعبية، وهو مفصل بين تاريخين، لذا فهى تحتفل به وتبتهج بقدومه بوصفه بركة ونورًا وخيرًا فتقيم الأذكار والمدائح، ويمكن أن نرصد مجموعة من عناصر التراث والمأثور الشعبى التى ترتبط بهذه الذكرى العطرة التى تحتل مكانًا عميقًا فى ذاكرة الإنسانية عامّة والمسلمين على وجه الخصوص وتتجلى مظاهرها الشعبية فى مصر، فالميدان يقدم لنا فى باب الأدب الشعبى: المديح النبوى المتعلق بميلاده والمعجزات المتعلقة به، وتتنوع هذه الإبداعات فى أشكال متعددة، منها الموال والمربَّع والأغنية كما تتراوح بين الأداء العامى والفصيح، فضلا عن الإنشاد الدينى ونصوص الذِّكر الصوفى وتستدعى أغانى حنون الحُجاج التى يرددها المعتمرون قبل الذهاب إلى العمرة، خصوصًا فى العمرة التى يربطونها زمنًا بـ«المولد النبوى»، وتكثر أغانى المداحين والدراويش والمتصوفة بشكل متسع على عكس بقية أوقات العام، كما تكثر عبارات التهانى والتحايا والأدعية التى تبارك بهذا اليوم، كما يردد بعض المحتفلين أغنيات على صوت الإيقاعات الصافية من مثل: 

وولدته أمينة أمينة على غُمْر فولــى

وسمّته النبى محمد وموشح بلولـــى

 

 

 

وتكمل الجماعة غناءها فى مولده، وتردد هذه المقاطع المُحتفية به فرحة ميلاده بوصفه المولد الأعظم الذى تخرج كل طقوس الموالد مُحتفية به حيث نسمع المدائح قائلة:

وولدته أمينة أمينة تحت ضل التيــنة 

وسمّته النبى محمد أبوعيون كحيلــة

وولدته أمينة أمينة وقت الفجريــــة 

وسمّته النبى محمد أبوعيون عسليــة

كما ينتشر سماع الحكايا القصصية الشعبية الخاصة بمعجزات الرسول، خصوصًا فى بعض الاحتفالات التى يقيمها البعض بجوار أضرحة الأولياء أو فى الساحات ابتهاجًا بمولد النبى أو كنوع من النذْر الذى يقام سنويّا فى الموعد نفسه، كما يحلو للبعض رسم الحوائط أو تجديدها قبل الذهاب لعمرة المولد النبوى كما تنتشر بعض الحِرَف والمِهَن التى تُعبر عن فرحة المصريين، مثل صناعة الحلوى وبيعها، وكم كنا نشاهد ولانزال، خصوصًا فى الريف، شكل الشوادر التى تمتلئ بالحلوى وبالأحصنة والعرائس المصنوعة من الحلوى، كما تأخذ كزيارات من العريس لعروسه كنوع من التبرُّك بالمولد النبوى ونفحاته كما يرتبط به مجموعة من العادات والتقاليد والمعتقدات والممارسات الشعبية التى يجب رصدها كى تكتمل خارطة احتفالات المصريين التى لا تخلو مما يمكن تسميته بطقوس العبور من مرحلة لمرحلة أو من زمن لزمن أو من حالة إلى أخرى، فالمولد ليس مجرد تاريخ لكنه بمثابة ثقافة شكلها المصرى معشقًا به ميراثه الثقافى من قديم الأزل، لذا فالاحتفالات التى يقوم بها المصريون لا تشبهها أى احتفالات فى أى مكان آخر، وهذا سِرُّ عظمة وخصوصية المصريين. 

أفراح الألم

ومن المعاينات الميدانية فى مولد سيدى سعيد البحر، إقامة الخيام لبعض الطرق الصوفية بجوار الضريح وفى الشوارع المحيطة بالاحتفال الرئيس، حيث يقوم المريدون بتوزيع مشروب «القرفة» على المارة، ويطلقون على هذا الطقس «نفحة»، يتم التبرّك بها كعطية من يقيمون الليالى الإنشادية بجوار تلك الخيام، ويجهز المريدون لزفة الليلة الكبيرة التى تعد بمثابة إعلان للفرح الكبير لمعظم أهالى البلدة، حيث لايزال المولد يحتفظ بطقس صار نادرًا فى الموالد وهو «زفة الحِرَف»، فيقوم كل صاحب حِرفة بتجهيز عربة الكارو، وهى عربة خشبية يجرها حصان أو حمار يوضع عليها بعض أدوات حِرفته مع بعض البيارق والأعلام المحاطة بالجريد الأخضر كدلالة على استجلاب الخير المتمثل فى خصوبة النخيل، كما تحمل كل عربة «صيّيتا»، والصيّيت هو أحد المنشدين الشعبيين الذى يقوم مع فرقته الصغيرة بالمديح والتنويه فى مدائحه عن راعى هذه الحِرفة ومشاركته فى الليلة، وتتزين العربات باللافتات التى تعلن عن اسم شيخ الصنعة أو رب حِرفة من الحِرَف، وتتوالى العربات فى صف طويل خلف بعضها، تسبقها فرقة من الجمالة، حيث يحمل كل جَمل طبول «النقرزان»، وهى طبول كبيرة لها رِقّ من الجلد وجسمها من النحاس، أمّا مقدمة الزفة فتتكون من فرقة من العازفين على الآلات النحاسية التى تقوم بلَمِّ النقوط من الأطفال والنساء والرجال فى الشوارع، كما تقوم بعض النسوة برش الملح وإلقاء حبات من الفنضام والتوفى على الأطفال الذين يندفعون فرحين لاقتناصها، وتظل تدور الزفة حول البلدة إلى أن تصل من جديد للضريح، حيث مكان الاحتفال الرئيس الذى يكون مستعدًا لليلة الإنشاد الرئيسية، وتحظى هذه الليلة بحشد كبير من أهالى البلدة والقرى المجاورة، وتمتد الأفراح وحركات الأجساد حتى الفَجر معلنة عن التقاء العائلات الذين يصطحبون أطفالهم ليمارسوا لهوهم بالألعاب وركوب المراجيح وشراء الحلوى والحُمُّص والحلوى، ومن العادات التى لاتزال قائمة إقامة حفلات الخطبة والزواج مع مَقدم المولد كنوع من التبرّك بالولى، هكذا يعد المولد موسمًا لإقامة الأفراح الشعبية التى تتحرر فيها الأجساد من آلامها وحركتها الاعتيادية لتنطلق فى حركات دائبة قد تصل إلى الهيستيريا الحركية والوقوع على الأرض ولا ينجو منها الوقوع إلا بتلقين «الذَّكير» بالتكبير فى أذنيه حتى يفوق.

 

 

 

ومن القواسم المشتركة التى تشير إلى أن المولد بمثابة طقس استدعائى للأفراح هو إقامة منطقة كاملة للألعاب المتعددة من مثل المراجيح والنيشان ودفع الطارة وضرب البمب والحصول على بعض الحلوى، وغالبًا ما تتولى هذه الألعاب بنات تتزين بكثير من الماكياج لجذب الزبائن وتحميس المتبارين فى النشان أو دفع الطارة، ولأن الموالد فى جزء منها بمثابة أفراح للفقراء فبعض الأسر تقوم بتوزيع النفحات والنذور من الأكلات حسب مدَى يسار كل أسرة، فبعضها يقوم بذبح خروف بينما يقوم البعض بتوزيع الفول النابت أو المشروبات الساخنة، كما يتخذ البعض المولد موسمًا لتصالح المتخاصمين أو عَقد الجلسات العُرفية لحل مشكلة من المشكلات بين بعض العائلات كنوع من التبرّك بالولى واستثمار الحضور من كبار الأهالى وحكمائهم فى ليالى المولد. هكذا يصبح المولد ليلة لاستنبات الأفراح وإرضاء الأرواح واستعادة الطمأنينة الغائبة.

وتتجلى أشكال البطولة فى عدد من المظاهر التى تحيط بالمولد كظاهرة ثقافية سنراها فى الخوارق والحكايات المتواترة عن الولى الذى يتجلى فى صورة تفارق الإنسان العادى، حتى ولو بدا عاديّا، فالسلوك والتجليات التى تحيط به حيّا وتحيط بضريحه تضعه مباشرة فى أتون البطولة، كما يستعيد الرواد صورة البطولة ممثلة فى حكاياته، وكذا فى الحكايات والسِّيَر التى تُروى فى الموالد مثل رواية سِيَر البطولة كالهلالية، فضلًا عن قيام الرواد برسم الوشوم للأبطال على الأذرع، لذا سنجد «أبوالسباع» رمز البطولة، وهو رمز لسيدى إسماعيل الإنبابى الذى كان يمشى محاطا بالأسُود، من هنا انتشر أبوالسباع على كل اسم يكون ضمنه «إسماعيل»، وكذا وشم مارجرجس البطل الذى واجه التنين، فالبطولة لا تتجلى فى خوارق وكرامات الولى، لكنها تتجلى فى عناصر المولد المتعددة. 

 

طقس زراعى

إن المولد جماع لكل أشكال الفنون الحكائية والغنائية والموسيقية والحركية، حيث يتبارى المنشدون فى كل حى باستقدام منشد تُنصب له الزينات ويُعد له المكان ليجذب أكبر عدد من رواد المولد يصبح حكاية يباهى بها كل حى أو العائلة التى قامت باستدعاء المُنشد ورعاية الليلة وضيوفها، وتظل الحكايات المرتبطة بالليلة ذكرى سعيدة يتواتر ترديدها بين الحضور حتى تأتى الاستعدادات للمولد الجديد.

إن الاحتفال بموالد الأولياء والقديسين ليس وليدًا لاهتمام الفاطميين كما يردد البعض، لكن الموالد تُعد تطبيقًا حيّا للمَثل الشعبى «من فات قديمه تاه»، فالمولد يُعد امتدادًا تاريخيّا لاحتفالات المصريين القدماء بالحياة ومواسمها، ونستطيع القول إن الاحتفال بالموالد يُعد طقسًا زراعيّا، أى أنه يرتبط عند معظم المصريين بفصل الحصاد والفرحة باقتناء المحاصيل والحصول على راحة واستجمام بعد التعب والشقاء، كما أن معظم هذه الموالد ترتبط بالشهور الشمسية المتعلقة بالزراعة ومواسمها وأفراح البذر والجنى والحصاد، والمتتبع لتواريخ الاحتفال بموالد الأولياء والقديسين سيتأكد من ذلك، لذا لا تستغرب من الصراع الخفى بين الثقافة البدوية وثقافة النيل وما يتعلق به من زراعة ومن مواسم للخصب والنماء والحصاد وما يتعلق بها من أفراح سنراها متعينة فى الاحتفاء بصاحب المولد وكراماته وحكاياته، ولا يختلف الأمر كثيرًا فى هذه الاحتفالات بين الأولياء والقديسين، فالخلفيات الثقافية هى التى تقود الاحتفال لا الانتماء الدينى، بل إن البحث عن طقس فرح يتحقق فيه اجتماع الجماعات الإنسانية للتواصل بالغناء والحكى والموسيقى وتوزيع الأفراح كمَصْل موسمى لمواجهة الشقاء والحزن. 

من هنا، هل يمكننا الوقوف على مفهوم مستقر للذات مجردة، وكيف نرى ذات الجماعة؛ أية جماعة، وكيف نعاين فى ضوئها ذات الجماعة الشعبية، وكيف نقف على حدودها ومكوناتها التى جعلت منها ومن إبداعها كيانا متماسكا له ما يميزه، وهل نحن إزاء جماعة شعبية واحدة أمْ جماعات، وما هى تجليات هذه الذات التى لن تتحدد ماهيتها إلا بالتعرُّف عليها وعلى أشكال فرادتها التى يمثلها الأدب الشعبى بجدارة، وهل هى ذات ممتدة تتسم بالعراقة، وتعمل آليات التواتر معها أمْ أنها ذات مرحلية تتشكل وفق كل زمن حسب منظومة قيم الجماعة وما يعتريها من تغير، وما مدى هذا التغير، أمْ أنها تختصر المراحل فى الزمان / المكان الذى تحياه، وهل انتخبت بعضًا من مأثورها ليتحرك معها تاركة البعض الآخر ليدخل أدراج «التراث»، وهل يمكن لها أن تستعيد التراث ليعود «مأثورًا» من جديد حال حاجتها لاستدعائه، وما هى مساحات الإحلال والإزاحة التى يقوم بها أفرادها بحيث تنتخب عناصرها من دون نتوءات على منظومة قيمها؟

 

 

 

إن هذه الأسئلة تحاول تقديم بعض الإجابات، ولا تملك يقينًا باكتمال هذا «البعض» لأن اكتماله مرهون بالإجابة على عدد آخر من الأسئلة التى تتساند حولها الإجابات لترينا مكونات الذات وصورتها لنفسها مقارنة بذوات الجماعات الأخرى أو بذوات الأفراد، ثم ما هى الحدود الفاصلة بين الذات المبدعة التى تتجلى فى شخص «الفرد» وهو ينوب عن جماعته مُعبرًا عن منظمة قيمها / قيمه والذات الفردية التى تقوم بالاستلهام أو التوظيف لعدد من العناصر التى تنتمى للجماعة الشعبية، وكيف نمسك بالمشتركات بين الذاتين، وهو الأمر الذى يجعلنا نتوقف طويلًا حول مفهوم الاستلهام والتوظيف والاقتباس أو على وجه أدق أمام كل العمليات التى يقوم بها مبدع فرد للتداخل مع نصوص الجماعة، ثم كيف تتبنى الجماعة نصّا فرديّا ليصبح واحدًا من ممتلكاتها النصية؟.

الجماعة الشعبية

إن المولد يمثل ظاهرة ثقافية تتجلى فى أتونها مجموعة من عناصر ثقافية مثل: العادات والتقاليد (زيارة الولى - النذور- توزيع النفحات- الختان - شراء بعض الأطعمة التى تباع بجوار مكان الولى) – المعتقدات (التبرك بالولى – الذِّكر- كنس عتبة الولى – قراءة الفاتحة والأوراد.. إلخ) – الممارسات (البيع والشراء – حل المشكلات بين أطراف النزاع.. إلخ) الفنون الشعبية (حركية- تشكيلية – موسيقية - قولية) – الثقافة المادية (كل ما يتعلق بالحِرَف والصناعات التقليدية التى تشتهر بها منطقة كل ولىّ، مثل: الأوانى الفخارية – الحصير – الكليم – اللّعَب الشعبية... إلخ، أليستْ هذه العناصر على اتساعها وتعدد مفرداتها جديرة باجتذاب جموع الجماهير دون تصنيف طبقى، فالمولد يجمع الناس من كل الإثنيات والطبقات، فتجد الجلابيب جوار البناطيل، والعمامات إلى جانب الملابس الحديثة، والسيدات يمارسن الذِّكر بالقرب من الرجال، كما تجتمع عناصر الشِّعر الشعبى المتصل بالمناسبات الدينية الشعبية فى المولد (أغانى جماعات الطرق الصوفية - الأذكار فى مجلس الذِّكر- أغانى الذِّكر - القصص والقصائد الدينية- أغانى الموالد - المشايخ - الأولياء والقديسون - أغانى المولد النبوى (يتضمن غناء قصص السيرة النبوية) - الأغانى الكنسية، الترانيم والانتعاشات الشعبية - المدائح النبوية – الابتهالات - التخمير (يشمل التخمير فى الحَضرة)، فى قلب هذا التنوع الثرى كيف لا يجتمع الناس وهم يختارون فنونهم ويمارسون ديمقراطية لم يعثروا عليها إلا فى احتفالاتهم الشعبية.

من هنا، فإن الإشارة إلى الجماعة الشعبية بوصفها «ذاتًا» لها تعينها الثقافى ينبغى أن تحكمها الخصائص الثقافية الفارقة عن غيرها من الجماعات، حيث تتحدد فى النسق القيمى الذى يحدد ماهيتها، وهو ما يتأكد عبر الأنماط الثقافية القائمة على أساس النسق القيمى، والخصائص الروحية التى تتضح فى الاتجاهات والقيم والميول العاطفية التى تميز أفرادها، وتجعل من هذه الثقافة شيئًا متفردًا، وهى تحتكم فى تكونها إلى ما يطلق عليه المركب ثقافى الذى يتكون من مجموعة من العناصر الثقافية المترابطة التى تمثل نسقًا متكاملًا ينتظم حول موضوع جوهرى، وذلك فى إطار ما يصفه دوركايم وموس بالتصور الجمعى الذى تمثله فكرة أو عاطفة يشترك فيها- بدرجات متفاوتة - أفراد الجماعة الاجتماعية وتنبثق عن «العقل الجمعى» للجماعة، ونضيف إلى ذلك الأشكال الفنية التى خرجت متسقة مع منظومة القيم التى تخلق مجموعة من الأنماط الثقافية فى وحدة متكاملة، حيث تقدم مجموعة من الأشكال التقنينية (المعيارية) من أشكال السلوك تتحدد بإجماع أفراد الجماعة، وهو الأمر الذى يجعل منها مجموعة من التنظيمات أو الأنساق الخاصة بالعلاقة الداخلية التى تعطى أى ثقافة تماسكها أو خطتها وتحول بينها وبين أن تكون مجرد جزئيات عارضة ويمكن مراجعة المزيد فى قاموس مصطلحات الأثنولوجيا والفولكلور، لإيكه هولتكرانس (مواد: تصور جمعى - روح المجتمع - النمط الثقافى).

إن المحدد الرئيس للجماعة هو أنماط ثقافتها التى ترسخت عَبر التواتر والإيمان باتساقها مع منظومة قيمها وعاداتها وتقاليدها التى تتجلى فى أشكال فنونها وضمنها الشِّعر الشعبى الذى يقدم شهادة حية على ما تحمله ذات الجماعة الشعبية من أحلام وإحباطات وحكم ومواجهات تختزن فى عدة أنواع شِعرية، منها: المربع والدوبيت والموال... إلخ.

إن رصدًا أوليّا لحركة المصريين فى موالد الأولياء والقديسين يؤكد أن نحو 35 مليونًا يترددون على الموالد المصرية، حيث يذهب كل مريد ليحقق مجموعة من الأهداف، منها: الاعتقادى – الاجتماعى – الترويحى – الاقتصادى، ولا تخلو قرية مصرية من وجود ولىّ أو أكثر يتحلق حوله أبناء القرية والقرى المجاورة فى حركة ممتدة تربط كل موالد مصر تقريبًا بخيط زمنى يعرفه المريدون فيجتمعون من مولد لآخر عَبر قطار يربط الشمال بالجنوب والشرق بالغرب ليمارسوا الحياة بشكل احتفالى عماده الجماعية التى حفظت لمصر جزءًا مُهمّا من هويتها الثقافية رُغم كل الهجمات الظلامية والفاشية الدينية التى حاولت ولاتزال تجريف ثقافة مصر باسم فهمها المتخلف للدين.