الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أصوات من السماء - 1 النقشبندى.. ولقاء مع أحمد فراج غير تاريخه

صدفة فى الحسين

ريشة: هبة المعداوى
ريشة: هبة المعداوى

لم يكن يدرك وهو طفل صغير، يتنقل بين حلقات الذّكر، ويتردد على موالد أولياء الصعيد، يستمع إلى المدّاحين، يدندن بينه وبين نفسه بمدح الرسول الكريم، ويحفظ أشعار البوصيرى و«سلطان العاشقين» عمر بن الفارض، أنه سيُصبح فى يومٍ من الأيام «إمام المدّاحين وسيّدهم» و«شيخ المُنشدين وأشهرهم»، يتربع بعذوبة صوته على عرش الابتهالات والتواشيح الدينية.



هو واحد من أبرز من ابتهلوا ورتّلوا وأنشدوا التواشيح الدينية فى مصر.. ذو قدرة فائقة فى الابتهالات والمدائح حتى صار صاحب مدرسة تحمل اسمه.. تم تلقيبه بالصوت الخاشع، والكروان.. يتمتع بصوت يراه الموسيقيون أحد أقوى وأوسع الأصوات مساحة فى تاريخ التسجيلات.. كان ينشد من قلبه قبل حنجرته فتعلقت به آذان وقلوب المصريين والعرب.. إنه الشيخ سيد محمد النقشبندى.

وُلِدَ النقشبندى فى حارة الشقيقة بقرية دميرة إحدى قرى محافظة الدقهلية، عام 1920م. لم يمكث فى (دميرة) طويلًا، حيث انتقلت أسرته إلى مدينة طهطا جنوب الصعيد ولم يكن قد تجاوز العاشرة من عمره، وفى طهطا حفظ القرآن الكريم على يد الشيخ أحمد خليل قبل أن يستكمل عامه الثامن وتعلم الإنشاد الدينى فى حلقات الذّكر بين مريدى الطريقة النقشبندية.

 

 

وكان جَدُّ الشيخ سيد هو محمد بهاء الدين النقشبندى، الذى نزح من بخارى بآسيا الوسطى إلى مصر للالتحاق بالأزهر الشريف، ووالده أحد علماء الدين ومشايخ الطريقة النقشبندية الصوفية، وكان يتردد على موالد أبو الحجاج الأقصرى وعبدالرحيم القناوى وجلال الدين السيوطى، فحفظ أشعار البوصيرى وابن الفارض.

وبدأ النقشبندى فى الإنشاد وعمره 8 سنوات وذاع صيته وبدأ يُسمع فى نجوع الصعيد، حتى تمت دعوته لإحياء ليلة فى قرية كوم بدر بمركز طهطا، لتكون هذه الليلة أولى درجات الشهرة عندما أبهر كل الموجودين بجمال وروعة وقوة صوته، وبدأت الدعوات تنهال عليه لإحياء ليالٍ أخرى فى كل محافظات مصر.

أم كلثوم

كان النقشبندى يحفظ مئات الأبيات الشعريّة للإمام البوصيرى ولابن الفارض ولأمير الشعراء أحمد شوقى، وكان قد قال فى حوار قديم له مع الإذاعى الراحل طاهر أبوزيد، إن أحب المطربات إلى قلبه هى «أم كلثوم»، وكان قد غنى لها جزءًا صغيرًا من قصيدة «سلوا قلبى» لشوقى، وقال إنّه صارحها ذات مَرَّة بعشقه لصوتها، خصوصًا فى أداء القصائد.

وتابع: «الواقعة الطريفة إنه رُغْمَ مئات التسجيلات بصوته فإن أول ابتهالات سجلت بصوته كانت فى سوريا سنة 1957، وقتها كان يؤدى مناسك الحج فى السعودية وتعرّف على الشيخ السورى محمد على المراد ودعاه لزيارة الأراضى السورية، وهناك أحيا عدة ليالٍ من الإنشاد والابتهالات لتكون أول تسجيلات بصوته.

 

 

وفى أوائل الستينيات كانت النقلة الحقيقية فى حياته من خلال برنامج (فى رحاب الله)، وهو برنامج إذاعى كان يقدمه الإعلامى أحمد فراج، وكان النقشبندى ينشد فى مولد الحُسين وسمعه فراج بالصدفة وقرر استضافته فى البرنامج فأحدثت الحلقة صدًى قويًّا جدًّا وأصبحت حديث الناس فى الشارع، فى وقت كان للإذاعة الكلمة الأولى عند الناس. وبعدها طلبت الإذاعة منه تقديم أدعية بصوته مدتها 5 دقائق بعد صلاة المغرب كل يوم فى شهر رمضان، ليقدم الشيخ سيد أروع الأدعية ويصل صوته لملايين المستمعين فى الوطن العربى.

بلا أجر

كانت شُهرة النقشبندى فى حدود الموالد والبرامج لكن النقلة الأكبر كانت بأمر من الرئيس أنور السادات بالتعاون بين النقشبندى وبليغ حمدى، ولهذه قصة طريفة.. كان السادات عاشقًا للإنشاد الدينى، وكان النقشبندى اكتسب شهرة واسعة فى سوهاج حيث عاشت أسرته، وفى طنطا التى انتقل إليها بعد رؤية رأى فيها السيد البدوى يناديه، فشد الرحال إلى جواره ولم يفارقه حتى بعد أن ملأ صوته الآفاق.

الرئيس الراحل أنور السادات الذى كان مُغرمًا بصوته، لدرجة أنه كان يصطحبه معه إلى قريته «ميت أبو الكوم» بمحافظة المنوفية لينشد له ابتهالاته فى مدح النبى فى جلسات خاصة، وكان النقشبندى واحدًا من خمسة شيوخ مقربين لقلب السادات مثل الشيخ محمد متولى الشعراوى والشيخ عبدالحليم محمود.

 

 

ولما كان الإنشاد الدينى فقرة أساسية يفتتح بها السادات احتفالاته فى ميت أبو الكوم قبل توليه الرئاسة، كان النقشبندى حاضرًا فى كل هذه الاحتفالات، وكذلك بعد أن أصبح السادات رئيسًا. 

فى عام 1972 كان السادات يحتفل بخطبة إحدى بناته فى القناطر الخيرية، وكان النقشبندى موجودًا فى الاحتفال، حيث كان له فقرة رئيسية فى الاحتفال الذى كان يحضره الملحن بليغ حمدى. 

يحكى القاموس الإذاعى وجدى الحكيم عن هذه الواقعة، قائلًا: «إن السادات قال لبليغ حمدى: «عاوز أسمعك مع النقشبندى»، وكلف الحكيم بفتح استوديو الإذاعة لهما، وعندما سمع النقشبندى ذلك وافق محرجًا وتحدث مع الحكيم بعدها قائلًا: «ما ينفعش أنشد على ألحان بليغ الراقصة»، حيث كان النقشبندى قد تعوّد على الابتهال بما يعرفه من المقامات الموسيقية، دون أن يكون هناك ملحن، وكان فى اعتقاد الشيخ أن اللحن سيفسد حالة الخشوع التى تصاحب الابتهال، ولذلك كان رد الشيخ: على آخر الزمن يا وجدى «هاغنى»؟ فى إشارة إلى أن الابتهال الملحن يجعل من الأنشودة الدينية أغنية. 

 

 

طلب الشيخ الجليل من الحكيم الاعتذار لبليغ، ولكن الحكيم استطاع أن يقنعه بأن يستمع إلى ألحان بليغ، واصطحبه إلى استوديو الإذاعة واتفق معه على أن يتركه مع بليغ لمدة نصف ساعة وأن تكون بينهما إشارة يعرف منها الحكيم إن كانت ألحان بليغ أعجبت النقشبندى أمْ لا. 

يقول الحكيم: «اتفقنا أن أدخل عليهما بعد نصف ساعة فإذا وجدت النقشبندى خلع عمامته فإن هذا يعنى أنه أعجب بألحان بليغ وإن وجدته لا يزال يرتديها فيعنى ذلك أنها لم تعجبه وأتحجج بأن هناك عطلًا فى الاستوديو لأنهى اللقاء ونفكر بعدها فى كيفية الاعتذار لبليغ. ويضيف وجدى الحكيم قائلًا: دخلت فإذا بالنقشبندى قد خلع العمامة والجبة والقفطان. وقال لى: «يا وجدى بليغ ده جن». 

وفى هذا اللقاء انتهى بليغ من تلحين «مولاى إنى ببابك» التى كانت بداية التعاون بين بليغ والنقشبندى، وهو التعاون الذى استمر طويلًا ليسفر بعد ذلك عن أعمال وابتهالات عديدة منها أشرق المعصوم، أقول أمتى، أى سلوى وعزاء، أنغام الروح، رباه يا من أناجى، ربنا إنا جنودك، يارب أنا أمة، يا ليلة فى الدهر «ليلة القدر»، دار الأرقم، إخوة الحق، أيها الساهر، ذكرى بدر.

 

 

 وكان بليغ هو مَنْ اختار كلمات هذه الابتهالات بالاتفاق مع الشاعر عبدالفتاح مصطفى، ولم يتقاض بليغ والنقشبندى أجرًا عنها وأصبح ابتهال «مولاى» علامة من علامات الإذاعة المصرية فى رمضان وحتى بعد أن تراجع الإقبال على الإذاعة ظل ابتهال «مولاى» باقيًا محققًا مزيدًا من الشهرة والمعجبين من كل الأعمار وسيبقى خالدًا رُغْمَ رحيل صانعيه. 

سافر الشيخ النقشبندى إلى حلب وحماة ودمشق لإحياء الليالى الدينية بدعوة من الرئيس السورى السابق حافظ الأسد، كما زار أبوظبى والأردن وإيران واليمن وإندونيسيا والمغرب العربى ودول الخليج ومعظم الدول الإفريقية والآسيوية.

عاش الشيخ سيد النقشبندى، زاهدًا فى حياته، لم يكن يحب الشّهرة أو جمع الأموال، إنما كان «يذوب عشقًا فى الوصول والاتصال بالمديح الذى كان يربطه برب السماء»، تلمس ابتهالاته قلبك، فترقّ لها، تحملك إلى بحور وعوالم الصوفية، فتسبح معها فى ملكوت الله. قال عنه الكاتب الراحل الدكتور مصطفى محمود أنه «مثل النور الكريم الفريد الذى لم يصل إليه أحد».

قدَّمَ النقشبندى ابتهالات دينية كثيرة تفوق الأربعين، ومن أشهرها: جل الإله، أقول أُمَّتِى، أى سلوى، أنت فى عين قلبى، يا رب دموعنا، حشودنا تدعوك، بدر الكبرى، ربنا، ليلة القدر، أيها الساهر، سبحانك يا رب، رسولك المختار، مولاى، أغيب، يارب إن عظمت ذنوبى، النفس تشكو، ربّ هب لى هدى.

كان النقشبندى يحتفظ بصورة تجمعه مع كوكب الشرق أم كلثوم بعد أن استقر به المقام فى طنطا، حيث شرعت فى السفر لأول مَرَّة فى رحلة للعراق والشام، وكان من شروط السفر أن تكون متزوجة وكانت تتردد على صالون الشيخ عبدالرحيم بدوى فى بيته بحي (الظاهر) بالقاهرة. واتفق والد أم كلثوم وشقيقها خالد مع الشيخ على أن يعقد على «ثومة» صوريّا من أجل السفر وأن يسافر معها وكان أول زواج فى حياة أم كلثوم، وبعد العودة طلقها كما اتفقا.

 ووفاءً لرغبة الشيخ بدوى غنت أم كلثوم فى طهطا والتقاها الشيخ سيد النقشبندى، ثم زارته لاحقًا فى بيته بطنطا كلما زارت المسجد الأحمدى.