الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

سرٌ خفىٌ

ريشة: سماح الشامى
ريشة: سماح الشامى

تناثرَ..



الشيبُ ليملأ مساحات كبيرةً من رأسه، أمطرته الأحزانُ بوابل من الألم. 

مكتوف الأيدى، لا يَقوَى على الصّد أو المواجهة، رحلت أمُّه دون أن يودعها نظرةً أخيرةً، ودون أن يأنس بلذّة الوقت إلى جوارها، وشدو أنفاسها، كأنها عصافير تغرّد خارج النافذة. إلّا أن شيئًا ظل طويلًا يُصارعه، يتأمّل ذلك المسافر بعيدًا، تنتزع أصابعها من بين يديه، فى لحظة هى أشبه بانقسامه إلى نصفين، تزوجت حبيبة أحلامه، مستسلمًا لعجزه، رغم صراعه الدائم مع الظروف.

دقائق قليلة، تلك التى نبشت بمخالبها قطعة اللحم الدّافئة بين ضلوعه.

فقط بمجرّد أن صافحت الأرض قدميه نزولًا من سيّارته الفارهة، تسابقه التفاتة عينيه كمَن تحتضن فى دورانها كل شىء، لم يعد هناك مجال لرؤية فضاء رحب، يطالع من خلاله رحلة الطيور شرقًا وغربًا، رائحة الخبز البلدى، هبّات هواء الصباح النّدىّ، يلامس انكماش القلب، فيجعله خفيفًا يسابق الطير.

أرهقه الدوران داخل المدينة التى صارت كحُجرة ضيّقة، تشققت جدرانها.

بهتت ألوانها، انحسرت سماؤها فى عين طفل، أراد أن يناطح السحابَ بطائرته الورقيّة، فنام مجهدًا دون أمل، يفتّش بين زحام الوجوه عنها، فإذا بالأقدار تردّها إليه، وقد استحال وجهها القمرى، جلسة لأصدقاء الشّيب وقد أسرف فى سطوته، يتناقلون فيما بينهم أحاديث زمن ولّى وأخبار مَن رحلوا، فما عادت هى الحسناء التى طالما انتظرها، قبل أن يختال ربيعها زمن ويحفر وجنتيها،  تتعجّل خطواتها إلا من طفل يصرخ ممسكًا بيدها، ربّما أراد بعضَ الحلوَى وهى فى عَجلة من أمرها، رَقّ لحالِ يرسى لها، قبل أن يجرفه الحنينُ لندائها، وراح ينفُث دخان سيجارته فى أسىً، وبحركة بهلوانيّة أطاح بها فى الهواء بعيدًا من بين أصابعه.

أنهكته بعضُ خطواته، أغمض عينيه، ربّما من أجل إستكانة مَشاعره، أو كمَن أراد لتلك الّلحظات أن تسقط من تاريخها، يتابع حركة المارة فى الشّارع منزويًا داخل مقهَى، فإذا بها جحظت عيناه خلف نظّارته، حتّى يطمئن لما وقعت عليه، نعم هو، لم يتغير بعد، فقط تجويف يملأ وجنتيه، شاربه الكثيف بدا وكأنه هلال أبيض، تعمّد أن يناديه بصفة لا يعرفها أحد دون غيره: (سعيد يا قصّاص) كانت هذه الصّفة تلازمه طوال خدمته العسكرية، أوقات فراغ بعض الجنود، كانت وسيلة للاستمتاع بلعب الكرة، ونظرًا لأنه كان نحيفًا ولا يقوَى على مُجاراة أحدهم فى المُراوغة؛ يقوم «سعيد» بشنكلته بمقص، التفت إليه النادل فى دهشة، كمَن كشف الستارَ عن سر خفى، ما زال لم يتحقق منه بَعد، توارت عيناه بعيدًا تبحث فى دفترها القديم، دق جبهة رأسه بقبضة يده، معاتبًا ضعف ذاكرته وهو يقول: يااااه (ماهر غبرِيال) تلقّفتهم الأحضان بوابل من الشوق أطفأ ظمأ اغتراب لسنوات، دقائق معدودة كانت كفيلة بسرد بعض الذكريات والحديث عن الغُربة والسّفر، الزواج، الأبناء، الأصدقاء؛ ليقطع حديثهم بعضُ نداء: (الشّاى يا سعيد)، ( أنا طالب شيشة من بدرى) دقائق هى أشبه بحادِثة سير لغرباء، لم تترك لمشاعرهم سببًا للعودة .

خفيفًا تسرّب طيفها إليه، تأمّلها بين سطور جُملته القادمة، ترتّب أوراق مكتبه، ملابسه، تُغازله بأغنيات يُحبّها، توقّفت الموسيقى فى محاولة لخَلق مُناخ أفضل، حاول كثيرًا، لكنّه أبدًا ظلّ طيفُها يراوده، فأصبح هشًّا كجسَد إسفنجىّ لا عِظام فيه، بينما ظلّت عيناه كسماوات انفتحت ضروعها بالدموع.