الأربعاء 23 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

كأنه هى

ريشة: سماح الشامى
ريشة: سماح الشامى

أخاف أن تفلت يدك يدى؛ فيبتلعك الزحام. عادة ما تردد تلك الجملة بوجه تشع منه الطيبة، والجدية فى آن واحد. 



أفرد قامتى القصيرة، وأمط رقبتى، وأقف على أطراف أصابعى؛ لأبدو أكثر طولا، وأجهد فى إقناعها بأننى أستطيع العودة بمفردى إلى الدار، إن توهت فى زحمة السوق.

أذكرها بأننى أقطع تلك المسافة مئات المرات على مدار الأسبوع، عندما أتسابق مع صبيان النجع؛ فالساحة موضع السوق أيام السبت، وملعبنا الدائم فيما تبقى من أيام الأسبوع.

تذهب محاولاتى سدى، ويشتد بكائى، تجلس بعد عنت ومشقة؛ فظهرها استوطنته الغضاريف، ولكنها أم لخمسة أولاد، وأنى لمن كان مثلها أن يستريح؟! تفترش الأرض، تستقبلنى بوجهها، تفتح ذراعيها، أدفن رأسى بين أحضانها، تربت على ظهرى بحنو بالغ، تمسد شعرى بأصابعها الناعمة، تملأ رائحتها أنفى؛ يقر قلبى، وأنسى أمر البكاء تماما.

تعدنى بإحضار كل ما طلبت، تبعدنى قليلا، ويداها لا تزالان تقبضان على ساعدى، أتمكن من النظر إلى وجهها، تبتسم، وتجاهد؛ كى تقف.

تسير بخطوات ثقيلة، تغلق الباب خلفها. 

أرتقى خمسا وثلاثين درجة من درجات سلم خرسانى داخلى، يسلمنى إلى السطح، أدحرج دلوا من الصاج، أقف عليه، وأشرئب إلى حافة السور الـمبنى بالطوب الأحمر، والذى زاده البناء خمسة مداميك عن المعتاد؛ مخافة سقوط أى من صغار الدار؛ يلامس ذقنى الحافة بالكاد؛ تلسعنى الحرارة.

أمد بصرى، أرى حشودا من طرح سوداء، وعمائم بيضاء، ورءوس حاسرة، أرى أجساد رجال، ونساء تتحرك فى جميع الاتجاهات، ألمح ألوانا متناثرة فى الأفق البعيد؛ حيث ترفرف شيلان، وفساتين، وجلاليب، وأقمشة، أرى خياما ومظلات منصوبة، يقف تحتها الباعة، لا أكترث بلهيب الشمس، وأعد اللحظات، وأنتظر عودتها بفارغ الصبر. 

(٢) 

ما زلت أقف مكانى، أنتبه، بدا الأمر غريبا للوهلة الأولى؛ فقد لامس خصرى حافة السور، بينما تطوح نصفى الأعلى فى الهواء، أصبح لى ساعدان قويان أتكئ عليهما، وأصبح لى شارب، ولحية خشنة، تجرى عليها أمواس الحلاقة من وقت إلى آخر، ما زالت الشيلان ترفرف على مرمى البصر، لكن ألوانها صارت باهتة فى عينى.

متى زاد وزنى إلى هذه الدرجة؟! أخفض بصرى، أرى دلو الصاج مهملا فى زاوية، وقد اعتراه الصدأ.  قد تأخرت كثيرا اليوم؛ يحرقنى الانتظار، أتلهف إلى قطعة الهريسة، والكرات الملونة الخفيفة، والحذاء الرياضى الرخيص، الذى سأرمح به وسط الساحة عصرا؛ فأطير كالعصفور، ولا يلحق بى أى من الصبيان.

أتلهف إلى حضنها الدافئ، ورائحتها الهادئة الحانية، أتلهف إلى روحى، فعادة ما تغلق الباب خلفها؛ فتسبقها روحى فى الطريق، أينما ذهبت.

السوق ينفض، والباعة يلملمون بضائعهم. أنتبه، فجأة إلى يد صغيرة بل شديدة الصغر، يد تجذب طرف قفطانى الطويل الفضفاض؛ ألتفت إليه،ابتسم إليه، بمجرد أن تقع عينى عليه؛ فيبادلنى الابتسام، يقولون: إنه يشبهها كثيرا، تلك التى طالت غيبتها. ألم تبصر استدارة عينيه، و« دقة الحسن» فى ذقنه؟! ألم تلحظ لون بشرته، وشكل جبهته، وأنفه، وشفتيه، وخديه؟! كأنه هى؛ كأنه استحوذ على شبهها وحده، ولم يترك للآخرين شيئا. أحاول الجلوس بصعوبة، وعنت، تؤلمنى ركبتان، استوطنتهما الخشونة، أحمله بين ذراعى، أشير إلى الساحة الفارغة، أقص عليه حكاية صبى، يقف منذ سنوات طويلة تحت الشمس الحارقة، منتظرًا عودة أمه، وقد أضناه الشوق إلى رؤية وجهها، الذى تشع منه الطيبة، والنور.