السبت 3 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

سـلاطـين المماليـك والأيوبيـين يخلدون نساءهم بمبانى الخير

سـلاطـين المماليـك والأيوبيـين يخلدون نساءهم بمبانى الخير
سـلاطـين المماليـك والأيوبيـين يخلدون نساءهم بمبانى الخير


حذا سلاطين وحكام المماليك والأيوبيين حذو سابقيهم من سلاطين ووزراء الفاطميين فى بناء المساجد والأضرحة والأبنية الخيرية لزوجاتهم وأمهاتهم وبناتهم، تكريما وامتنانا لدورهن فى وصول هؤلاء الحكام إلى مقعد الحكم، وحفاظهن على هذا الحكم بعد ذلك.
 
كما سعت بعض زوجات السلاطين إلى تشييد أضرحة لهم بعد وفاتهم، تخليدا لذكراهم، ولحفظ مقتنياتهم.. وتميز هذان العصران بأن بعض السيدات الثريات، قد أمرن ببناء المساجد والمبانى الخيرية الأخرى، كالأسبلة والتكايا والمدارس، بأموال صدقاتهن، تقربا إلى الله.. وحرصت النساء المشيدات لهذه العمائر على أن تتميز مبانيهن بزخارف وأيقونات معمارية، تخدم الأهداف العلمية والاجتماعية والاقتصادية لهذه المبانى.
 
 
اشتهر العصر المملوكى «648-923 هجرية»، «1250- 1517» ميلادية، بحضور قوى ودور ملموس للمرأة فى حركة المجتمع وبنائه الحضارى، وفى المشاركة فى الأنشطة الإنسانية فى مختلف جوانبها العلمية والثقافية والاجتماعية والسياسية.. نجد الكثير من الدلائل فى هذا العصرعلى الطبيعة الخيرة للمرأة، ومدى ربطها بين الدين والعلم وحاجات المجتمع، منها الخدمات الاجتماعية والخيرية لطلبة العلم والأيتام والفقراء والمحتاجين، من خلال عمائر ما زالت قائمة حتى اليوم، من بينها حوالى 28 أثرًا قائمًا للنساء فى القاهرة وحدها.
 
 
ويرى د. مختار الكسبانى، أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة القاهرة، أن الرحالة والمستشرقين فى القرون الوسطى الميلادية، قد نقلوا صورة مغلوطة عن أوضاع المرأة فى المجتمع المصرى والشرقى عمومًا، وحصروها فى الأدوار التقليدية، متناسين دورها فى هذا المجتمع، فلولا «شجرة الدر» التى حكمت مصر بعد رحيل زوجها الصالح أيوب وكتمانها نبأ وفاته، بينما الجيش المصرى يحارب الغزوة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع الفرنسى عند المنصورة، لانهزم الجيش المصرى واستولى لويس على البلاد.
 
 
∎ ضريحا شجر الدر
 
 
وترى «الدكتورة آمال العمرى» أستاذ العمارة الإسلامية بكلية الآثار جامعة القاهرة، أن شجرة أو «شجر الدر» من أهم النساء اللاتى شيدن عمائر مازالت شاهدة على تاريخهن من العصر الأيوبى.
 
 
وهى السلطانة شجر الدر زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب، آخر ملوك الدولة الأيوبية «567-648 هجرية» «1171-1250»، حكمت مصر 80 يوما بعد وفاة توران شاه ابن الملك الصالح، فيما لم يكن لامرأة بعدها أوقبلها فى الإسلام.
 
 
وارتبط اسم شجرة الدر فى التاريخ بإرسال المحمل فى موسم الحج من القاهرة إلى مكة المكرمة، فهى أول من بدأ هذه الاحتفالات التى يطوف فيها جمل المحمل فى شوارع القاهرة حاملاً كسوة الكعبة المشرفة، وقد ظلت هذه العادة مرعية من بعدها حتى العصر الحديث.
 
 
وأمرت ببناء ضريحين أحدهما للملك الصالح زوجها والآخر لها، فبعد أن توفى زوجها فى المنصورة 746هجرية دفن فى إحدى قاعات قصر الروضة، إلى أن أكملت شجر الدر بناء ضريحه 648هجرية وتم نقل رفاته ودفنه فيه، ويذكر لتلك السيدة أنها اعتنت بزخرفة وبناء ضريح زوجها أكثر مما فعلت مع ضريحها هى.
 
 
وتصف آمال الضريح قائلة: يقع فى شارع المعز فى منطقة النحاسين بجوار المدرسة الصالحية التى شيدها الصالح لتدريس المذاهب الأربعة لأول مرة فى مصر، وهو عبارة عن مساحة مربعة طول ضلعها 10.9 متر، يتوسط جدارها الجنوبى الشرقى محراب بعقد مدبب، على جانبية خزانتان بمصراعين من الخشب كانا يستخدمان كمتحف لمقتنيات السلطان الشخصية ويعلو الضريح قبة بثمانى نوافذ مربعة فى قسمها السفلى.
 
 
 ∎ أول محراب مذهب
 
 
قبل سنوات من توليها سلطنة مصر أمرت شجر الدر ببناء ضريح لها يقع بشارع الخليفة إلى جوار مسجد السيدة رقية لتنهى البناء عام 648 هجرية، وقامت بكتابة اسمها على أفريز خشبى بالخط النسخ مانصه «هذا ضريح عصمة الدين والدنيا أم خليل المستعصمية».
 
 
ويتميز الضريح بأنه يحتوى على أول محراب مذهب فى العمارة الإسلامية فى مصر، بزخرفة على هيئة شجرة ذات فروع متشعبة مصنوعة من الفسيفساء الزجاجية.
 
 
وإن كان لبعض علماء الآثار رأى آخر فى أن جامع عمرو كان به محرابا مزخرفا بالفسيفساء قبل ضريح شجر الدر، بحسب ما ذكره الدكتور حسنى نويصر أستاذ الآثار فى كتابه «العمارة الأيوبية والمملوكية».
 
 
ويتميز الضريح بالمميزات المعمارية للعمارة الأيوبية كالعقود المنكسرة، فى الواجهات والشطفات التى تنتهى بحنايا مقرنصة ويتشابه مع ضريح الخلفاء العباسيين والصالح نجم الدين.
 
 
∎ رباط المتصوفات
 
 
وعلى الجانب الآخر كان هناك نساء لعبن أدوارًا قوية جدًّا، كما يشير د. الكسبانى، ولم يصلن إلى الحكم مثل أم الملك الناصر محمد بن قلاوون، التى حمته من القتل حين دبر المماليك ضده انقلابًا مفاجئًا، وهو ما فعلته أم السلطان الأشرف شعبان نفسه بعد ذلك بسنوات، ومن هنا لم يجد السلاطين المماليك أى حرج أو غضاضة فى أن يشيدوا لهؤلاء النساء آثارًا تحمل أسماءهن حتى وإن كان بعضهن فى الأصل من الجوارى قبل عتقهن، ومن هنا تزهو القاهرة ربما أكثر من أية عاصمة شرقية أخرى بالآثار الجليلة التى تحمل أسماء سيدات من هذا العصر.
 
 
ويذكر المؤرخ المقريزى فى كتابه «الخطط»، أن تذكار باى خاتون ابنة الملك الظاهر بيبرس قد افتتحت بتشيدها رباطا للمتصوفة من النساء، أول أعمال نساء العصر المملوكى المعمارية، وسمى هذا الرباط الذى شيد فى منطقة الدرب الأصفر برباط البغدادية عام 684 هجرية، وهو مكان تقيم فيه النساء المتصوفات.
 
 
كما بنى السلطان المملوكى البحرى المنصور قلاوون ضريحا باسم والدته فاطمة خاتون، وهى السيدة التى بكاها السلطان حتى ظن مماليكه أن نظره سيضيع، كما يذكر المؤرخ «ابن إياس» فى «بدائع الزهور فى وقائع الدهور».
 
 
∎ خانقاه منشية ناصر
 
 
أما السلطان الناصر محمد بن قلاوون (وهو من عظام السلاطين المماليك البنائين) فشيد لزوجة من زوجاته خانقاه (تقع الآن بحى منشية ناصر)، وهى (الخوند الكبرى أم آنوك)، وكانت مثقفة وجميلة وقوية الشخصية، وأصلها جارية اشتراها السلطان الناصر من أحد أمرائه وأعتقها وتزوجها وحظيت عنده، فبنى لها هذه الخانقاه صدقة على روحها (الخانقاه مكان للإقامة الكاملة والتعبد ينفق عليه السلطان ويكفل فيه أهل التصوف).
 
 
وخوند: لقب كان شائعًا فى العصر المملوكى، ويفيد معنى الاحترام، ويخاطب به الذكور والإناث على السواء هو يعنى (سيد أو سيدة).
 
 
كما بنى محمد بن قلاوون مدرسة لابنته (الأميرة تتر الحجازية) عام 1360م، وموقعها الآن بالجمالية، وكانت من أقرب بناته إلى قلبه.
 
 
واشتهرت «تتر الحجازية» بالحجازية لتزوجها من الأمير بكتمر الحجازى، ولهذه السيدة عدة عمائر اندثر منها قصر الحجازية وكان من مفاخر العمارة المدنية فى العصر المملوكى، وتعد مدرستها الباقية إلى الآن من أجمل المدارس المملوكية.
 
 
وخصصت تتر مدرستها فيها لدروس فقهاء الشافعية والمالكية، وزودت المدرسة بمنبر خشبى ومكتبة ومئذنة حجرية رائعة، وقد ألحقت بالمدرسة سبيلاً فوقه، وكتاباً لتعليم الأطفال وقبة دفنت تحتها.
 
 
ومن أنواع البر التى وقفتها على أطفال الكتاب خمسة أرغفة من الخبز النقى لكل واحد منهم يوميًا ومبلغًا من المال بالإضافة إلى كسوتى الشتاء والصيف.
 
 
∎ جامع الست مسكة
 
 
أورد الإمام محمد بن عبد الرحمن السخاوى - المؤرخ الكبير - فى كتابه (الضوء اللامع فى أهل القرن التاسع) ترجمات لما يزيد على 1000 امرأة، ومنهن الست مسكة، وهى واحدة من أشهر النساء فى تاريخ مصر الإسلامية وعصر المماليك وكانت فائقة الجمال وكان اسمها «جلشانة» وهى كلمة فارسية معناها «مثل الورد» لتعرف فيما بعد باسم الست مسكة. وكانت جارية للسلطان المملوكى الناصر محمد بن قلاوون، وقامت بالإشراف على شئون الحريم السلطانى وتربية أولاد السلطان، «قهرمانة» ويقال: إنها عمرت طويلاً، لكنها استثمرت عمرها فى أعمال الخير وبناء المساجد، وتعمير الأحكار.
 
 
وقد لعبت الست مسكة دورًا كبيرًا فى الحياة الاجتماعية فى عصرها، فأنشأت مسجدًا للصلاة وتعلم الفقه الشافعى والحنفى فى منطقة السيدة زينب بمساعدة السلطان، وتم تسجيل اسمها على بابى المسجد الرئيسيين.
 
 
وكانت لها مكانة بارزة عند السلطان الناصر الذى كان يرجع إليها ويستشيرها فى إدارة شئون القصر.
 
 
وإليها يرجع الفضل فى أخذ البيعة للسلطان الناصر من الأمراء، وبذلك أصبح هو سلطان مصر، وظلت وَفِيَّةً له خلال المرات الثلاث التى خُلع فيها من الملك حتى عاد إليه مرة أخرى.
وكما جاء فى موسوعة «مدينة القاهرة فى ألف عام» لعبد الرحمن الكواكبى، تعد الست مسكة واحدة من النساء المسلمات اللاتى خلدتهن عمائرهن المدنية والدينية فى مصر، فقد حصلت على حكر (أرض لاستصلاحها وتعميرها واستزراعها)، فأنشأت به جامعًا عام 740- 746 هجريا فى الحنفى بالسيدة زينب، وبالجامع لوح من الرخام كتب عليه، «بسم الله الرحمن الرحيم، أمرت بإنشاء هذا الجامع المبارك الفقيرة إلى الله الحاجة إلى بيت الله الزائرة قبر رسول الله علية السلام مسكة الست الرفيعة مسكة»، وشجعت بذلك الناس على تعمير المنطقة المحيطة بالمسجد وإعادة البهجة والحياة إليها بالمعيشة فيها، وإنشاء الأسواق والحمامات بها.
 
 
∎ جامع أم السلطان شعبان
 
 
«خوند بركة» واحدة من أشهر سيدات العصر المملوكى، كانت زوجة الأمير ألجاى اليوسفى، الذى تبوَّأ مكانة عالية فى الدولة بعد زواجه منها، وهى أم السلطان الأشرف شعبان، الذى تولى الحكم فى مصر سنة 764هـ/ 1363م وعمره لم يتعد 10 سنوات، وظل متربعًا على كرسى الحكم 14 عامًا حتى مات عام 1377م.
 
 
ويقال: إنه كان يحب أمه (خوند بركة) حبًا جمًا، حتى إنه بنى لها مسجدًا ومدرسة باسمها فى القاهرة قرب قلعة الجبل أسماها (مدرسة أم السلطان) نظمت بها دروسًا للمذهبين الشافعى والحنفى.
 
 
وضعت على بابها سبيلاً لسقى المارة وحوضًا لسقى الدواب، بالإضافة إلى كتاب لتحفيظ القرآن وتعليم القراءة والكتابة.
 
 
وكانت عنوانًا للكرم والإحسان؛ عندما ذهبت إلى الحج سنة 770هـ/ 1369م، أخذت معها مائة مملوك وبعير ملكى محملة بالبضائع لأهل مكة، وعرف ذلك العام بعام أم السلطان، وعندما توفيت دفنت فى ضريح بالمدرسة مع ابنها السلطان شعبان بعد موته.
 
 
ولمدرسة خوند بركة مدخل حجرى مهيب متوج بقرنصات حجرية تتسم بالدقة، وقد نقل من هذه المدرسة إلى متحف الفن الإسلامى فى القاهرة، كرسى خشبى مزخرف بالأبنوس وكان مخصصًا لحمل الشموع، ونقل أيضًا صندوق مصحف من الخشب وثلاث مشكاوات وإناء خارجى كروى الشكل وكلها من زجاج أبيض مائل للخضرة.