الأربعاء 15 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

المسكوت عنه فى التراث الإسلامى "الجزء الثانى"

يعد الدكتور سعد الدين الهلالى، أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر، واحدًا من قلائل صنعوا حالة من الحراك الفكرى طوال السنوات الأخيرة؛ فقد آثر خلع جلباب الجمود- الذى انزوى تحته كُثر من أقرانه- مقررًا السير فى طريق تجديد الفكر الإسلامى رغم علمه بأن هذا الطريق ليس مُعبدًا بالورود، بل هو مفخخ بالأشواك والمتاعب والاتهامات أيضا، لينضم إلى قائمة الأزاهرة الثائرين على الرجعية والجمود المطالبين بضرورة إعمال العقل وتحريره من أسر الاتباع الأعمى.



 

 

 

 

د. سعد الدين الهلالى: الطلاق الشفوى غير مكتمـــــل الأركان.. وحل رباط الزوجية يجب أن يكون موثقًا  

تناولنا فى الجزء الأول من حوارنا مع الدكتور سعد الدين الهلالى، أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر، رؤيته حول تجديد الخطاب الدينى والتى يذهب فيها إلى أن عملية التجديد تتم عن طريق ثلاثة محاور، أولها وأهمها: إعادة قراءة النص وفهمه بما يليق بالعصر الذى نحيا فيه، أما المحوران الثانى والثالث فيتمثلان فى اشتراط تحلى من يتصدر للحديث فى الخطاب الدينى بـ «الصدق» و«الأمانة»، عن طريق ذكر كافة التفاسير والآراء، ونسبة كل قولٍ لقائله وليس إلى الدين أو إلى الله عز وجل.

الدكتور الهلالى، أكد أننا فى مصر بدأنا نخطو خطوات جادة فى طريق تجديد الخطاب الدينى عقب بعد ثورة 30 يونيو2013 التصحيحية التى واجهت التيار والتنظيم الدينى الخادع والكاذب بعد أن اكتشف المصريون أنه يُقدم فقهه وفهمه المزيف على أنه الدين، وذلك بفضل حكمة الرئيس عبد الفتاح السيسى، مشيرًا إلى أن القائمين على أمر الخطاب الدينى خلال الـ500 عام الماضية كانوا يطبقون فتاوى فقهية وينسبونها إلى الله عز وجل كذبًا وافتراءً.. وإلى نص الجزء الثانى من الحوار:

 

ما الذى يحتاج إليه المسلمون فى عصرنا الراهن؟

الشعوب تحتاج إلى فقه الدين لا إلى فتاوى الدين، فالأول يعنى الفهم وهو قائم على التعددية، ولذلك نقول فيه: فلان يرى هذا وغيره يرى ذلك... وهكذا، والرعيل الأول كان إذا سُئل أحدهم عن الحكم فى مسألة يُسرد جميع الآراء الواردة فيها ويترك السائل يختار ما يشاء، ولا يقول رأيًا واحدًا ويصدره على أنه الدين ويستر ما عداه، فكيف تأتى اليوم وتنكسنى، وتقول لي: لا تفكر، وممنوع أن تجتهد، ولا توجد تعددية، وسنوحدك فى مؤسسة أو مجمع، أو فى قول مجموعة أو فرد؟!

وهنا يجدر بنا التأكيد على أن الفقه آراء متعددة، والفتوى رأى واحد، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من يرد الله به خيرًا يفقهه فى الدين»، وهذا الحديث من أقوى الأحاديث النبوية المشتهرة لدرجة التواتر، والمروية فى صحيحى البخارى ومسلم، وراويه هو الصحابى معاوية بن أبى سفيان، وهو حديث يحقق سيادة كل مواطن لأنه يمنحه حق خيرية التفقه فى الدين، وهو حقٌ للجميع وليس حكرًا على نخبة معينة، ومن يريدون احتكار هذا الحق وحرمان باقى الأمة منه يبخلون على سائر خلق الله بهذا الشرف. 

وتلك النخبة التى منعت عامة الناس من أن يفقهوا دينهم وأن يستقلوا فى فقهه، حقدوا عليهم فى أن يحوزوا هذه الخيرية، والمنطق الطبيعى يقول إن من يفقه الدين يُحب أن ينشر هذا الفقه، وأن من أخذ حظوة فى خيرية يُتمنى أن يعم الخير على غيره، وهذه هى قضيتنا الآن مواجهة من يريد احتكار فقه الدين الذى جعله الله حقا لكل الناس، وهنا تحضرنى مقولة الإمام الشاطبى فى كتابه الموافقات: «كل أحد فقيه نفسه»، وهى جملة عظيمة قالها فى مواطن أربعة مختلفة وكأنه يريد أن يؤكد هذا المعنى، وبالمناسبة الواقع الذى لا يستطيع أحدٌ إنكاره يُقر بأن كل أحد فقيه نفسه.

 

 

 

 

تقول إننا فى حاجة إلى تجديد فهم النص؛ فهل هذا التجديد مسألة تقوم بها المؤسسة الدينية أم أفراد معينون مثل المفكرين والمثقفين أم أن كل مسلم يقوم بهذا على حدة؟

هذا السؤال إجابته فى سؤال آخر: هل عندما أوحى الله إلى رسوله وأنزل عليه كتابه نص فى ذلك على أن هذا الكتاب الذى نزل كهنوتى لأناس مخصوصين أو لأفراد معدودين بالاسم أو الصفة أم أنه عز وجل أنزله يخاطب به الإنسانية كلها؟

الإجابة بالتأكيد إن هذا الكتاب نزل للبشرية كلها، وذلك مصداقًا لقول الله تعالى: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا» (الأعراف: 158)، وقوله: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ» (الحج: 1)، وقوله عز وجل: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا» (النساء: 1)، هذا النداء السماوى يخاطب الناس كافة، من آمنوا ومن كفروا به، وهو خطاب للعموم وليس للخاصة، وهذه هى إجابتى على سؤالك من جانب، ومن جانب آخر أود أن أتساءل: من الذى حول هذا العموم إلى «إحنا المؤسسة»؟

المؤسسة الدينية لم يؤسسها الرسول صلى الله عليه وسلم، والله لم يأمر بها. وهى «مؤسسة إدارية» وليست «مؤسسة فنية دينية». إدارية بمعنى أنها تنظيمية مختصة بتنظيم شئون دراسية، فمن يُريد أن يدرس كتاب كذا توفر له المؤسسة المكتبة، والأستاذ الذى يساعده ويُدرس له، وهذه أمور إدارية، والطالب حين يأتى ليدرس فيها لا يُفرض عليه رأى واحد، أو يُلزم بفهم معين، ولا يؤخذ عليه العهد أن يكون على هذا الرأى أو ذاك الفهم، وإذا تخلت المؤسسة عن تدريس الرأى والرأى الآخر وفرضت على طلابها رأيًا أو فهمًا واحدًا فإنها فى هذه الحالة ستتحول إلى «مؤسسة كهنوتية».

مثلا أما التيار السلفى يفرض على أتباعهم فهمًا واحدًا – أيضًا - ويُقولبوهم على أنهم - دون غيرهم - الفرقة الناجية، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا وإنما ترك الصحابة بمدارس مختلفة ومتنوعة.

أما الآن تجد أن أى شخص ينتمى إلى المؤسسة الدينية أو المجمع الفقهى ويخرج عن الرأى الذى اتفقوا عليه، يتم إقصاؤه أو على الأقل التنكر له، وهذا أمرٌ لم يفعله الصحابة الذين كانوا يسمحون بالتعددية ويطبقونها بينهم.

المؤسسة الدينية فى زماننا المعاصر لا تقبل التعددية ولا تقوم عليها، ومن لوائحها ما يُوقف نمو الفقه، بل إن هناك مادة مطبقة فى كافة المؤسسات الدينية والمجامع الفقهية فى مصر وجميع بلدان العالم، والمادة ذاتها مطبقةٌ داخل التيارات والتنظيمات الدينية (تساووا فى تطبيقها جميعًا)، هذه المادة تئدُ التطور الفكرى والفقهى وتستر جمال وعظمة هذا الدين القائم على التعددية الفكرية والفقهية والتفسيرية، والذى يسمح لأتباعه باحترام أنفسهم وذواتهم وعقولهم.

وتنص هذه المادة على أنه: «عند طرح المسألة - التى يدرسها المجتمعون بفترة كافية قبل اجتماعهم - يجب إذا اختلفوا أن يصوتوا على أحد الآراء لتقديمه على أنه الرأى الشرعى أو أنه الرأى الدينى وما عداه من آراء يخالف الحق».

ولنتخيل أن مجمعًا فقهيًا يتكون من 40 أو 50 أستاذًا يتم اختيارهم بعناية ودقة من كبار المفكرين والباحثين، كل واحد منهم قيمة وقامة وعَلَم وعالم ومدرسة، عندما تُطرح مسألة من المسائل لدراستها المنطق الطبيعى يقول إنهم سيختلفون فى آرائهم على اتجاهين أو عدة اتجاهات، والاختلاف حقهم، لكن حق هؤلاء الأساتذة مُنع بهذه المادة التى تفرض التصويت.

هذه المادة لو تم إلغاؤها ستجد كل واحد من أعضاء المجمع الفقهى يشعر أنه لا سقف عليه، وأن ضميره وصدقه مع الله هو الحاسم، وسيدخل أى جلسة سيبدى رأيه فيها بكل ثقة وأمان لا يخشى إلا الله، لكن هم الآن فى كل المجامع الفقهية يدخلون ويعلمون أن سقفهم واجتهادهم ورؤيتهم وضميرهم منقوص بهذه المادة التى تقضى بأن الرأى الذى يُصوت عليه صار هو الصواب والشرع، وأن الرأى الآخر الذى قال به أساتذة أصحاب مدارس وفكر واجتهاد أصبح هو الباطل لمجرد أنه لم يحصل على عدد الأصوات الأكبر.

ولذلك دخول هذه المجامع الآن يُعد خضوعًا لسقف وديكتاتورية التصويت، وليس خضوعًا لحرية الدين وصدق الإنسان مع نفسه وحق لا إله إلا الله التى هى كلمة حق عند سلطان جائر؛ فقد أصبح «قيد التصويت» هو السلطان الجائر الذى منع كل صاحب مدرسة فكرية من أن يقول رأيى صواب يحتمل الخطأ، ومنع كل ذى رأى أن يُبدى رأيه الذى يحب أن يدين ويلقى الله به، ولهذا فالقضية هنا قضية وأد فكر، وجعل سقف على المدرسة الفكرية، وعلى المفكر الذى يدخل المجمع بحرية وإيمان منقوصين بسيف التصويت على الرأى الذى يُعبر عن رأى الشريعة، والأئمة الأوائل لم يفعلوا هذا، فقد أسس أبو حنيفة ومالك والشافعى وأحمد بن حنبل مدارس فقهية وسمحوا لتلامذتهم وأقرانهم أن يختلفوا معهم، واحترموا هذا الاختلاف.

 

 

 

هل لدينا أمثلة عصرية توضح أن مادة التصويت - التى تفضلتم بذكرها - باتت سيفًا مسلطًا على رقاب أعضاء المجمع الفقهى وأنها تحول بينهم وبين حرية الرأى وتُعد عاملًا رئيسيًا فى وأد الفكر؟

لدينا مثال معاصر وهو مسألة الطلاق الشفوي؛ فالمتتبع لهذه المسألة يجد أنه أيام الرسول صلى الله عليه وسلم كان الزواج والطلاق شفويًا، ومضت الأيام وبعد 14 قرنًا من بعثة النبى ظهرت عوامل كثيرة دعت إلى ضرورة التوثيق، من هذه العوامل تعقد الحياة، وافتقاد الذمم، وسفر الأزواج إلى بلاد بعيدة بعد توافر وسائل المواصلات الحديثة، وزواج الغرباء (الزوج من دولة والزوجة من دولة أخرى، أو أنهما من محافظتين متباعدتين داخل الدولة الواحدة).

ولأن الزواج يترتب عليه تبعيات كثيرة كمسئولية الإنفاق والتربية والتنشئة، وعدم جمع الزوجة بين أكثر من زوج، وعدم جمع الزوج بين أكثر من 4 زوجات، وأن الزوج لا يتزوج زوجة ثانية إلا بمعرفة زوجته الأولى وأهلها والمجتمع... وهكذا، تنبهت الدولة المصرية وتوجهت إلى التوثيق، وبالفعل صدر قانون توثيق الزواج فى الأول من أغسطس عام 1931 م، ومنذ ذلك التاريخ صار هناك (قبل) و(بعد).

قبل 1 أغسطس 1931 م، كان كل الزواج والطلاق فى مصر يتم بصورة شفوية، أما بداية من هذا التاريخ وما تلاه أصبح من أراد أن يوثق الزواج استدعى المأذون ووثقه، وبهذا التوثيق لم يعد الزواج كما كان يتم من طرفين فقط (زوج وزوجة)، وإنما صار من ثلاثة أطراف بعد أن أضيف إلى طرفيه طرف ثالث هو الدولة.

ووقتها اضطرت الدولة أن تجعل التوثيق اختياريًا ولم تتجه إلى فرضه على المجتمع بسبب صدور فتاوى عارضت خطوة التوثيق بحجة أنه يُدخل فى عقد الزواج ما ليس منه، وبعد سنوات عدة من هذه الخطوة اتجه الناس باختياراتهم إلى التوثيق حتى صار هو الأصل الآن، بعد أن استقر الأهالى عليه ورفضوا أن يزوجوا بناتهم بدون توثيق خوفًا عليهن، كما أن الفتيات من وعيهن رأين أن الزواج الشفوى مضيعة لحقهن، وهكذا صار توثيق الزواج قناعة راسخة لدى جموع الشعب المصرى وأنه الأمان والضامن لجدية الزيجة، وهذا ما جعل إتمام الزواج بصفة رسمية - عن طريق توثيقه - يُصبح وضعًا مستقرًا عند جميع المصريين، بمن فيهم رجال الدين.

 

 

 

 

ولأن الزواج الذى يتم بصفة رسمية، يكون من أطراف ثلاثة: الزوج وعائلته، والزوجة وعائلتها، والدولة التى تمثل الشعب؛ فكان من الطبيعى أن الطلاق إذا تم لابد أن يُوثق؛ لأن حل رباط الزوجية يجب أن يتم بحضور جميع الأطراف. فإن كان الزواج تم شفويًا ففى هذه الحالة يقع الطلاق مشافهة لأن الطرفين (الزوج والزوجة) حاضران وعالمان، أما وأن الزواج صار فى زماننا المعاصر موثقًا أى أن أطرافه ثلاثة (زوج وزوجة والدولة) فمن الطبيعى أن الطلاق حين يقع لابد من حضور الأطراف الثلاثة وهو ما يعنى ضرورة توثيقه؛ لأن المنطق الطبيعى يقول: «إن الطلاق الشفوى للمتزوجين رسميًا (توثيقيًا) لم تكتمل أركانه»، ويجب أن يُدرس هذا فى المجامع الفقهية.

هل تؤيد ما يذهب إليه البعض من أن المؤسسة الدينية ترفض المُضى قُدمًا فى طريق التجديد؟

أرفض اتهام المؤسسة الدينية بالرجعية، لأنها مؤسسة علمية وتنظيمية، واتهامها بالجمود «اتهام باطل»، والذين يعبرون عن آرائهم يتحدثون بأسمائهم وتواريخهم وليس باسم المؤسسة وتاريخها منذ نشأتها إلى يوم الساعة. بمعنى أن أى شيخ أزهر - سابق أو لاحق - يتحدث عن محدوديته من يوم توليه المنصب إلى يوم رحيله، وهذه الفترة التى يتولى فيها من حقه أن يجدد ويُغير.

وأكبر دليل على أن المؤسسة ليست رجعية أن فيها أساتذة كُثر ومكفول لكل واحد منهم حرية التأليف التى الأصل فيها قيامها على التجديد، إضافة إلى مناقشة مئات - إن لم يكن آلاف - رسائل الماجستير والدكتوراه بين أروقة كلياتها، ومن المعروف أن هذه الرسائل العلمية قائمة على التجديد، لأنها لو كانت مكررة ونسخة من السابقة ستُرفض ولن تقبل، كذلك أبحاث ترقية الأساتذة قائمة على التجديد.

تقول إن الأصل فى مؤلفات أساتذة المؤسسة الدينية قيامها على التجديد وليس التكرار؛ فلماذا لا تُنشر هذه المؤلفات للمجتمع خاصة أنها تحوى آراء تجديدية كما ذكرتم؟

التجديد داخل المؤسسة الدينية قائم - كما قلت من قبل -؛ أما السبب فى أن هذا الفكر التجديدى لا ينشر للمجتمع فهو وجود تحديات أخرى تمنع التعددية الفقهية والفكرية، ولذلك يجب إلغاء هذه التحديات.

فيما يتعلق بأطروحة أن كل مسلم من حقه فهم النص الدينى بمفرده، وأن فهمه الذاتى سيكون صحيحًا، ومن ثَمَّ فهو - أو غيره - ليس بحاجة إلى رجال الدين، هناك من يقول إن مثل هذا الطرح يجعلنا نسلم بالتبعية أن رؤية تنظيمات الإخوان وداعش وباقى جماعات التطرف والإرهاب فى فهم وتأويل النص الدينى صحيحة، لأن هؤلاء يزعمون أنهم يفهمون الدين وفق قراءاتهم واستنباطاتهم الذاتية التى يرونها الأصح؛ فكيف نتغلب على هذه المعضلة أو الإشكالية؟

هذه الإشكالية قائمة على أساس باطل، لأنك إذا قلت إن صحيح الدين عند الأزهر، أو عند وزارة الأوقاف، أو عند دار الإفتاء، أو عند مجمع الفقه الإسلامى، أو عند غيرهم، وبصيغة أخرى إذا نجحت أن تقضى على كل من يدعى أن عنده صحيح الدين؛ فلن تُقنع سائر خلق الله أن صحيح الدين عند جهة معينة دون غيرها.

ثم إن داعش والإخوان والسلفية، تنظيمات وتيارات دينية والإسلام لا يعترف بالتنظيمات ولا بالتيارات الدينية، ووجود هؤلاء يئد جمال هذا الدين ويقضى على التعددية الفقهية والحرية الدينية، والسؤال المهم هنا: هل يستطيع أحد إقناع الدواعش أن صحيح الدين ليس عندهم وإنما هو عند الأزهر أو دار الإفتاء؟ بالتأكيد لا أحد يستطيع فعل هذا، وطالما لا تستطيع إقناعهم إذن وجب عليك أن تقول ليس من حق أحد الادعاء بأن عنده صحيح الدين دون الآخرين، وأن كل مؤسسة أو كل شخص عنده صحيح الدين على نفسه وليس على غيره.

يعنى سعد الهلالى ما دام يقرأ ويحترم نفسه، فوجه احترامه لنفسه هو صحيح علاقته مع الله، صحيح هذه العلاقة على ذاتى لا على غيرى، أما عندما تمس هذه العلاقة غيرى، فمن حق الغير أن يقول: إن لى حق الفهم والاستقلال مثلك تمامًا، ومن حقه ألا يأخذ بالفتوى التى أراها أو أأخذ بها.

إذن صارت الفتوى التى تمس الغير «اعتداء»، والفتوى التى تمس النفس «حق»، وسأضرب مثالًا يوضح ما أذهب إليه: إذا رأى الزوج أن النقاب فرض، وزوجته رأت أنه ليس فرضًا، فرأيه هنا اعتداء لأنه يُعد فتوى تمس الغير، لأنها هى من سترتدى النقاب وليس هو، ولذلك ما تراه الزوجة هو النافذ بالأصول المرعية؛ فكما أن الله أعطاه الحق فى الفهم، فقد أعطى زوجته الحق ذاته.

وحسبنا قول الله: «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ» (البقرة: 256)، وقوله عز وجل: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف: 29)، وقوله سبحانه وتعالى لسيدنا النبى صلى الله عليه وسلم: «قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ قُل لّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ» (سبأ: 24، 25، 26)، بعد كل هذا يأتى من يريد أن يقولب الدين فى رأى أو فى اتجاه واحد، ويحشد الناس على هذه القولبة التى لم يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أى رسول أو نبى قبله.

هذه القولبة إكراه وإلغاء لعقل وحرية الإنسان، وهى السبب فى ضياع جمال هذا الدين الذى يجعل الناس تُقبل عليه أو على الأقل لا تعاديه، وإذا كان الله عز وجل وضع إطارًا للرسل الذين هم خير خلقه، وهم همزة الوصل بين وحى السماء وبشرية الأرض، هذا الإطار يتمثل في: «وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ» (النور: 54)، «إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ» (فاطر: 23)، «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ» (الغاشية: 21، 22)، «وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا» (الأنعام: 107)، «وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ» (الأنعام: 107)، فكيف بعد كل هذا يأتى من يُريد أن يقولب الدين؟ 

وهذا يُعيدنا مرة أخرى إلى مادة التصويت على الرأى الذى يُعد شرعًا المعمول بها فى المجامع الفقهية والتى سبق وأن تحدثنا عنها، هذه المادة كما قولبوا بها 40 أو 50 أستاذًا أعضاء المجمع ودمروا بها عقول من يرون رأيًا آخر مخالفًا لما ذهب إليه التصويت، فهم يريدون فعل نفس الأمر - ولكن بطريقة أشمل وأوسع - بغرض تدمير مليارى مسلم من خلال قولبتهم على رأى مجموعة معينة، وحتى إذا سلمنا أن هذه المجموعة هم الصفوة وأنهم اختيروا بدقة وعناية؛ ففى النهاية هم بشر، وليسوا سيدنا جبريل أو الكهنوت أو الملائكيين الذين يتصلون بالله عز وجل لمعرفة الوحى. وما داموا بشرًا فكيف تجعل رأيهم المقولب من هذه المؤسسة أو تلك الجماعة هو الرأى الصواب وتحكم على ما عداه من آراء بالبطلان؟ أنت بهذا تدمر سائر المسلمين وتقول لهم اسمعوا وأطيعوا، وتلغى عقولهم وتمحو فكرهم، كما أنك بهذه القولبة تستخدم الدين فى تدمير والقضاء على الحرية والمسئولية التى منحها المولى عز وجل للإنسان.

 

 

 

هل المسئولية التى منحها الله عز وجل للإنسان فردية أم أنها مسئولية جماعية؟

المسئولية التى منحها المولى عز وجل للإنسان «مسئولية فردية»، ومن يسعون إلى قولبة الدين يُريدون أن يجعلوها مسئولية جماعية، وهذا منافٍ لإرادة الله الذى يقول: «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ» (الإسراء: 13)، ويقول أيضًا: «بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» (القيامة: 14)، «وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا» (مريم: 95).

المسئولية فردية ولن يُحاسب عنى يوم القيامة شيخ قبيلتى أو رئيس مؤسستى، والله تعالى يقول عن الذين سيندمون يوم القيامة: «وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا» (الأحزاب: 67، 68)، ولكن الذين يُريدون قولبة الدين مُصرون على السير قُدمًا فى اتجاه واحد قائم على: (يا شعب لا تفكر، نحن من سنفكر لك.. يا شعب لا تفهم، نحن من سنفهم لك.. يا شعب أنت لست مسئولًا عن دينك، نحن مسئولون عن دينك).

ولذلك من يقولون إن التعددية الفقهية ستؤدى إلى وجود داعش وأمثالها، فهذه إشكالية قائمة على أساس باطل كما قلت، فبالإضافة إلى كل ما سبق طرحه من ردود حول هذه الإشكالية، أود أن أقول إنه بالرغم من أن الدواعش انتهجوا مدرسة تشددية ونسبوها للدين إلا أنهم يرون ويصفون أنفسهم بالوسطية، ويتهمون المؤسسة التى تدعى الوسطية بأنها تسببت فى تمييع الدين تارة، وأنها مؤسسة متشددة تارة أخرى، وهذا يجعلنا نصل إلى نتيجة مفادها أن الكل متهم للكل.

وطالما أن الكل متهم للكل؛ فلا حل إلا أن يكون عنوانُنا «لا إله إلا الله»، وأن نفكك التيارات والتنظيمات والجماعات الدينية، لأن هذا التفكيك واجب واحترام للإنسانية، كما أنه سيحقق حرية وإبداع ومسئولية الإنسان، وسيجعل كل مواطن أمةً ودولة ذاتية، كما قال الله تعالى عن سيدنا إبراهيم: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً» (النحل: 120).

والتعامل مع كل مواطن على أنه أمةً ودولة ذاتية وصاحب عقل مفكر يجب أن يكون هو السائد بيننا، لأن الله جعل لكل واحد منا عقلًا، ولذلك أنا أطالب بأن يكون لكل إنسان بلغ 21 سنة استقلالية دينية واقتصادية واجتماعية وذاتية، وألا يتدخل أحدٌ فى شئون غيره - سواء كانت دينية أو غير دينية -، وأن يتعامل الناس فيما بينهم بالتراضى وأعنى به العقد الذى قال عنه المولى عز وجل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (المائدة: 1)، وقال أيضًا: «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ» (الإسراء: 34)، وهذا الذى أطالب به ليس أمرًا غريبًا.