العقيد حلمى زكى الشهيد الحى بطل الصاعقة:
مهمتى كانت انتحارية ونسبة رجوعى حيًا كانت صفر %

حوار: شاهندة الباجورى
عندما نضع أرواحنا أمام حرية الوطن، ترجح كفة الوطن، وهذا ما فعله البطل العقيد حلمى زكى- قائد إحدى مجموعات الصاعقة فى حرب أكتوبر المجيدة، عندما لجأ لتمويه العدو، ووقف بسيارته أمام أقوى النقاط الحصينة على طول الجبهة حتى ينشغلوا به، واستطاعت 5 سيارات من الذخيرة المرور والوصول إلى الكتيبة، لإعادة تسليحهم. فجره العدو واعتبرته القوات المسلحة المصرية الشهيد رقم 8 فى يوم 7 أكتوبر، ولكن كان للقدر ترتيب آخر.
«صباح الخير» حاورت العقيد حلمى زكى قائد إحدى مجموعات الصاعقة بحرب أكتوبر، فشرح لى مهمته قائلاً: الحمد لله أننى نجحت فى مهمتى التى اعتبرها الجميع مهمة انتحارية، فقد كنت وقتها برتبة نقيب صاعقة فى إحدى كتائب المشاة، نفذنا مهامنا ونجحنا فى عبور قناة السويس باتجاه الشرق بدون أن تضرب علينا أى طائرة إسرائيلية طلقة واحدة، بفضل حائط الصواريخ.
والجميع يعلم أنه فى اليوم الأول لأى حرب أو قتال، تفقد كل قوة 70 % من ذخيرتها، وأنا كنت قائد ثانى سرية مكونة من عدد كبير من الجنود، فكلفت بالرجوع مرة أخرى يوم 7 أكتوبر للغرب للحصول على ذخيرة وإعادة تسليح كتيبتى مرة أخرى، وكانت مهمتى العبور بخمس سيارات محملة بكل الأسلحة بدءًا من طلقة المسدس إلى الرشاش و«الآر. بى. جيه»، والمدافع الخفيفة والثقيلة، إلى الشرق مرة أخرى وسط نيران العدو.
أخذت العربات بالإضافة إلى العربة التى كنت أستقلها ومعى ضابط والسواق و6 دانات مضادة للدبابات، ففوجئت بالمنطقة أمامى أكثر سخونة وأشد قتالاً على طول الجبهة، لأنها كانت منطقة الدفرسوار، وبالفعل استطعنا العبور من ثغرة فتحها لنا المهندسون العسكريون، وبمجرد أن عبرنا إلى الشرق، فوجئنا بنيران مكثفة ناحيتى وتجاه عربات الذخيرة، استطعت أن أستتر مع العربات، لكن بقيت المعضلة الكبرى، كيف سنصل إلى الوحدة وسط كل هذا الضرب المباشر من الهاون والمدفع نصف البوصة؟ فكرت كثيرًا، فعلى الأقل لابد أن أصل بأربع عربات لتوصيل الذخيرة إلى الكتيبة.

ويكمل: عند هذه النقطة استعدت ما تعلمته فى الجيش، عند الوقوع فى مأزق، لابد من إجراء خطوتين: أولا، تقدير الموقف، ثانيًا: اتخاذ القرار فى أقل من ثانية. وهذا ما قمت به: قدرت الموقف، فوجدت أننى لن أستطيع التحرك بعربات الذخيرة، وأترك مصيرنا للصدفة، فطلقة واحدة من الممكن أن تفجر العربة بأكملها. ولم أجد أمامى إلا حلاً واحدًا، واتخذت القرار، وهو: أننى سأتحرك بعربتى وسألتف حتى أصبح فى مواجهة النقطة القوية للعدو، وسأزود سرعة العربة وأنا فيها حتى يفجروها، ونظرًا لوجود الـ 6 دانات فيها، و2 تانك بنزين، فستحدث عند انفجارها دخانًا أسود كثيفًا سيحجب النقطة القوية، وفى هذا الوقت سيعبر سائقو العربات بالذخيرة، وبذلك ستصل بأمان.
عند هذه النقطة من الحديث، سألته: ستصل الذخيرة، لكنك تعلم أنك ستموت؟ فأجابنى بلا تردد: طبعًا، كنت أعلم هذا، وأعى جيدًا أننى سأرجع بنسبة صفر%، لكن لم يكن لدىَّ خيار آخر، فمصر أهم.
ساعة الصفر
يسترجع العقيد حلمى اللحظات الدقيقة من عمره يوم 7 أكتوبر، قائلاً: ودعت سائقى عربات الذخيرة وهم يبكونى، بعد أن اتفقت معهم على خطة التمويه، والحقيقة أن الضابط والسائق رفضا أن يتركانى بمفردى، وأصرا على مرافقتى.
أخذنا السيارة والتففنا فى مواجهة النقطة القوية، وزودنا البنزين بأقصى سرعة حتى نقترب أكثر، لأنه كلما كنا أقرب، ستكون الغيمة السوداء أكثف، وستتاح فرصة أكبر لعربات الذخيرة أن تمر بأمان.
وبالفعل ضربت القوة علينا، فألهمنى الله أن أصرخ فى مرافقىّ أن يقفزوا فورًا من السيارة لأنها ستنفجر، وبالفعل قفزنا بعيدًا فبدأ الأمل يزيد فى الحياة بنسبة 5 %، وانفجرت سيارتى، وسمعت صوت عربات الذخيرة وهى تمر، فحمدت الله ولم أكترث لوضعى، وأى شخص فى مثل الموقف سيفعل نفس الشىء.
بعد انقشاع الغيمة السوداء، بدأنا نظهر للعدو، فأصبحنا فى مرمى النيران حتى أصيب الضابط الآخر، ففعلت نفس الشىء، وقمت بتقدير الموقف واتخذت قرارًا بإخلائه أولاً عن طريق الضرب ببندقيتى وخزنها الثلاث بكل ما أوتيت من قوة حتى يستطيع السائق أن يشد الضابط المصاب أو يحمله إلى أقرب حائط يستتر به، وحددت له النقطة، وأنا سأحميهما بال85 طلقة التى أمتلكها.
يضيف: بمجرد أن بدأت الضرب، أمطرتهم بالطلقات حتى جرى السائق بالضابط، وكنت قد اتفقت مع السائق أنه بمجرد الوصول إلى النقطة المستترة، سيتبادل معى الدور ويغطينى بضربه لطلقات بندقيته حتى أستطيع أن أصل لنقطتهم. وهنا كانت المفاجأة، لقد نسى السائق بنـــدقيته أثناء حمل الضابـــط، فضـــــاع الأمل الــ5 % ورجع مرة أخرى إلى صفر%.
وبعد تبادل كثيف لإطلاق النيران، سقطت وأصبت بثلاث شظايا فى ظهرى، إحداها اخترقت جسدى وخرجت، والأخيرتان استقرتا. تألمت كثيرًا ونزفت أكثر من 2 لتر دم، وبدأت أغيب عن الوعى، وتيقنت أننى أحتضر، ولم أسمع إلا العسكرى يقول للضابط: النقيب حلمى استشهد.
وتابع: فى هذه اللحظة لم أفكر إلا فى نجاحى لمهمتى، وقلت لنفسى: معلش يامصر، كان نفسى أكمل لحد ما أشوف سيناء محررة، وغبت عن الوعى، فأكمل العسكرى والضابط طريقهما متأكدين من استشهادى، وتم إبلاغ الكتيبة بالأمر، واعتبرت الشهيد رقم 8 فى صفوف الفرقة.

للقدر رأى آخر
وأضاف: فى وهلة بدأت أشعر ببعض الوعى، فظننت أننى فى الجنة، وبدأت معالم السماء تتضح من حولى واكتشفت أننى ما زلت على قيد الحياة، وشعرت بالدم متجلطًا تحتى، انتظرت حتى اختفى القمر وحاولت النهوض والسير باتجاه وحدتى.
ويوضح: فى الوقت نفسه فى الكتيبة ولأن القوات المسلحة لا تترك أبناءها ولو كانوا جثثًا بلا روح، أرسلت مجموعة لالتقاط جسدى من مكان القتال حسبما وصف لهم العسكرى والضابط الآخر المصاب. فشاء القدر أن أسير باتجاههم وهم يسيرون باتجاهى، وبمجرد اقترابهم منى، اعتقدوا أننى إسرائيلى، وسمعت شد البندقية إيذانًا ببدء ضربى، فأفصحت عن هويتى، ولم يصدقوا أننى على قيد الحياة حتى اقتربوا منى، ورجعت للكتيبة ومنها للمستشفى للعلاج. وهكذا عدت للحياة مرة أخرى بعد استشهادى!