السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

تنويعات على متلازمة النوستالچيا

مشاعر الماضى.. ضجة وجلبة.. ولخبطة!

كثيرًا ما نقابل أشخاصًا يعرفون كيف يستمتعون بالحياة،رغم صعوبة الظروف، وفى المقابل، نعرف الكثير من التعساء عاطفيًا، والغاضبين مزاجيًا، والمتذمرين دائمًا من حاضرهم.. يشتكون من كل شىء، ولا يعجبهم أى شىء بالمقارنة مع ما اعتادوه من شخصيات وأحداث ومواقف وذكريات وعلاقات عاشوها فى الأمس القريب أو البعيد،بحثًا عن الراحة والسعادة..ولو بالنبش فى تفاصيل الماضى.



 

نبش تفاصيل الماضى كالنبش فى كراكيب مخزنك القديم بحثًا عن أشياء ثمينة،تعرف أنها لم تعُد صالحة للاستخدام، ولكنك تنتظر البهجة التى كانت تجلبها لك! 

يُعرِّف المعجم الوسيط كلمة كراكيب بأنها «الأشياء القديمة» المتنوعة من أثاث البيت، والتى غالبًا لا تكون ذات قيمة.. بل تحدث ضجة وجلبة، مع إفساد ولخبطة النظام! ولذلك يكون مكانها المخزن!وهو ما يحدث أحيانًا فى حياتنا حينما تحتل ذكرياتنا وعلاقتنا وعواطفنا ومشاعرنا القديمة ركنًا كبيرًا بنفوسنا؛ بل وتتفوق على حاضرنا،فتعيق قدرتنا على المضى قدمًا، وتفسد استمتاعنا بالحياة! 

لذلك فكراكيب الحياة كثيرة.

فاتن تكره الرجال

هناك نموذج من البشر لا يستطيع تخطى ماضيه العاطفى (كراكيبه العاطفية) مثل فاتن التى أحبّت قريبها الذى كان يتردد على منزل العائلة، يمنحها المشاعر والاهتمام عوضًا عن غياب أبيها الذى هجر الأسرة منذ زمان.

وقعت فى حبه، دونما تفكر لماذا يطلب منها أن تبقى علاقتهما سرًا؟ ولماذا يتحدث عنها كطفلة أمام أمها وشقيقتها الصغرى؟ وفجأة غاب القريب، مبررًا غيابه الطويل بضغوط ومشاغل العمل! حتى علمت الأم بالصدفة خبر زواجه، وأنه ينتظر مولودًا! دونما تعلم أن هذا الخبر هو الذى غير مسيرة حياة ابنتها.. التى رفضت الزواج ودونما يعلم أحد أنها كانت تهرب من اكتئاب الغوص فى ذكرياتها وتفاصيلها السرية خوفا من فضيحتها بعدما فقدت عذريتها مع قريبها الذى ظلت - رغم كل شيء-على حبها له من طرف واحد، مستمتعة فى وحدتها وانغلاقها على عالمها بكراكيب ذكريات حبها المستحيل!

مع إصرارها على العيش بعيدًا عن بيت العائلة!

تحولت فاتن إلى عدوة للرجال، وتأثُّرًا بحبها المستحيل رفضت الزواج - واستمرت دونه.. لسان حالها: وما حاجتنا للرجال، إذن؟ يكرهون الماضى، ويعتبرون الحب وجبة طعام يتناولونها فى لحظة جوع، ثم يلقون العلب الفارغة من أقرب نافذة، بعدما يشبعون! 

متلازمة النوستالچيا

هناك مصطلح اسمه «متلازمة النوستالچيا» يصف مجموعة الأعراض الغريبة لعدم قدرتنا على التخلص من كراكيب الماضى التى قد تصل للخلل الجسدى أو النفسى أو العضوى، نتيحة أحاسيس الشوق والألم التى تصاحبنا حينما نشعر بالحنين نحو شخص ما لم يعد موجودًا، أو لحدث ما انتهى دون رغبتنا، أو لذكرى مكان مبهج لم يعد بإمكاننا التردد عليه، أو حينما تذكرنا حواسنا برائحة وملابسات زمان سعيد بعيد.. دون القدرة على تكراره!

مثل ماجد الذى لايزال يعلق صوره فى المرحلة الإعدادية فوق جدران حجرته، رغم تخرجه فى الجامعة منذ سنوات! 

كانت تلك المرحلة مصدر فخره وسعادته قبلما يتدهور وضع والده المادى ويضطر لتحويله إلى مدرسة حكومية! حيث كسر ذلك التحول افتخاره، واعتزل اللعب مع أصدقائه وأبناء عمومته، لم يستوعب أحد من عائلة ماجد التغيير الذى أصاب شخصيته، وحوله من المرح والضحك إلى انغلاقى متمرد، حتى لاحظت الإخصائيةالاجتماعية بالمدرسة عزلته وتعاليه على زملائه، وقد أفاد بحثها أن ماجد يعانى من ضغوط نفسية عاطفية تجعله يتحدث عن الماضى بفخر وتعالٍ رافضاً لواقعه، ومضخماً لذاته وقدراته! مما يؤثر على تحصيله الدراسى وعلاقته بزملائه.

فبدأت الإخصائية مسيرتها العلاجية معه، حتى تزوجتْ وتركتْ المدرسة، فانتكستْ شخصية ماجد، تاركة به ملامح الميل للعزلة والمبالغة، والغرور، وعدم الواقعية، رغم استعادة والده قدرته المادية!

غرق ماجد فى كراكيب مشاعر من نوع خاص.

يؤكد علم النفس على أن الانغماس فى الحنين إلى الماضى وتراكم كراكيبه بما يحمله ذلك التراكم من كراكيب المشاعر قد يؤدى إلى دخول الشخص عالم المرض النفسى من أوسع أبوابه.

عدم القدرة على التخلص من كراكيب الماضى يجعل الإنسان غير قادر على قبول الواقع، فتظهر لديه ميول لتحاشى المجتمع، والهروب من المواجهة وتحمل المسئولية، خوفاً من تجريج الناس ورفضهم، يكره مدمن كراكيب الماضى الواقع، ويفرض العُزلة على نفسه؛ مفضلاً العيش فى أحلام اليقظة أو صمت الذكريات! بينما كل الخوف.. أن تتحول تلك الشخصية للانهزامية التى لا يثق صاحبها فى نفسه ولا فى الآخرين، أو يتحول إلى الشخصية المتشائمة أو المرتابة، أو العدوانية القاسية، أو الجدلية التى يعانى صاحبها من الوحدة والتوتر، وأحيانا ما ينتهى به الحال ليكون شخصية اعتمادية تبحث عن سعادتها فى الآخرين، ولكنها لا تستطيع التواجد بينهم! أو  يتحول إلى الشخصية الاكتئابية الانطوائية التى ينعزل صاحبها برغبته، ويعيش فى عالمه الخاص، دونما يتأقلم مع واقعه، مما يؤدى لمزيد من فقدان التواصل مع البشر والزمان والمكان! ليتنا ننشأ فى مجتمعات تساعدنا على التصالح مع أنفسنا، حتى لا يتحكم بنا ماضينا، فلا نفسد حاضرنا بأيدينا بسبب كراكيب المشاعر.