السبت 21 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حالة مؤقتة أم هوة سقط فيها المجتمع

حالة مؤقتة أم هوة سقط فيها المجتمع
حالة مؤقتة أم هوة سقط فيها المجتمع


ماذا حدث للشعب الذى لم يكن تخرج العيبة من فمه أين هو؟ بحثت عنه على أسوار الجامعات والمدارس المؤسسات الحكومية فى الشوارع والحوارى والأزقة وفى الأحياء الراقية فى الريف والمحافظات وفى المدن الساحلية والصعيدية فلم أجد سوى ألفاظ وبذاءات تجرح مسامعى كلما اصطحبت ابن شقيقتى الصغير ذا الثمانية أعوام إما نسمعها سويا أو يقرأها فيسألنى أو يتهجى ما يكتب على الحوائط، فأموت خجلا وأتمنى أن يتلعثم فلا يكملها أو اضطر لركوب تاكسى فيبادرنى السائق بعدة ألفاظ وهو يتحدث فى الموبايل أو مع سائق آخر فى تكدس مرورى فينزل أحد الشباب من سياراته الفارهة كى يفك التشابك ويتسلى بالبذاءات والكلام الجنسى أو عندما تستقدم عاملا لبيتك فيتحدث دون خجل فتجد نفسك مضطرا لنهره وتنبيهه عشرات المرات أو تستخدم الانترنت مساء بعد عناء يوم طويل طامحا فى أن تجد معلومة أو نكتة فتجد أن أصدقاءك أيضا يثرثرون بهذه السخافات دون خجل أو تردد..
 
 مما يطرح السؤال: هل أصبح الشعب المصرى منحطا أخلاقيا؟ هل نكتفى فقط بارتداء الزى الإسلامى و(حشر) كلمة الله بين كل جملة وأخرى، نكتفى فقط بالأفعال بالسلوك القويم من على القشرة فقط.
 
وفى حوار المشير عبدالفتاح السيسى مرشح رئيس الجمهورية سئل عن البذاءات المكتوبة على الجدران وهو من الشخصيات التى تسب بطريقة علنية على جدران الشوارع فأكد أن ما تمر به مصر حالة وأن الكتابة على الجدران والبذاءات ما هى إلا حالة مؤقتة وعلى الرئيس القادم ومؤسسات الدولة تقويم وضبط الأخلاقيات وأن الاعتراض لا يعنى التطاول ولا التجاوز، مؤكدا أنه يهتم اهتماما كبيرا بعودة الأخلاقيات التى تربينا عليها جميعا وأنه وهو وزير للدفاع لم يفعل شيئا إزاء ما يكتب على الجدران وأن وسيلته ستكون الصمت حتى يتم التغيير وأنه لابد أن تكون علاقة الرئيس بالشعب علاقة ثقة واحترام لأن غياب الثقة يعنى وجود مشكلة حقيقية فى التواصل.
 
وبالعودة للكتابة على الجدران نجد أنها كانت عملا فرعونيا قديما، فقد ملأ أجدادنا القدامى المعابد بالرسم والنقوش والحكايات تسجل عظمة وتاريخ الحضارة القديمة.
 
والجدار قيمة عظيمة قد يتحول لتاريخ كما هو الحال فى المعابد المصرية القديمة وكما هو حادث فى سور برلين الذى كان جدارا طويلا يفصل شطرى برلين الشرقى والغربى والمناطق المحيطة فى ألمانيا الشرقية، كان الغرض منه تحجيم المرور بين ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية، بدأ بناؤه فى 13 أغسطس 1961، وجرى تحصينه على مدار السنين، ولكن تم فتحه فى 9 نوفمبر 1989 وهدم بعد ذلك بشكل شبه كامل، وتم بناء جدار رمزى مزين بعشرات الرسومات لأشهر الفنانين العالميين.
 
أيضا لدينا جداريات محمد محمود هى جداريات «جرافيتى» ظهرت عقب اندلاع أحداث محمد محمود «التى اندلعت فى الفترة من 19 إلى 24 نوفمبر 2011» فى أماكن متنوعة فى المنطقة التى شهدت تلك الاحتجاجات ومنها أسوار الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وجدران بعض العمارات وأسوار المدارس الملاصقة لها، كما ظهرت جداريات على الحاجز الخرسانى الذى وضعته السلطات الأمنية المصرية فى شارع محمد محمود لمنع تقدم الثوار إلى وزارة الداخلية.
 
تضمنت تلك الجداريات العديد من شعارات الثورة المصرية وأهم رموزها سواء كانوا من أبطالها مثل سامبو ومينا دانيال وأحمد حرارة والشيخ عماد عفت، أو ممن اعتبرهم الفنان من أعدائها مثل المشير طنطاوى والملازم محمود الشناوى الشهير بقناص العيون، وقد أضيفت لاحقا إلى صور شهداء الثورة ومصابيها وضحاياها فى أحداثها المتوالية، صور لوجوه جديدة من شباب ألتراس النادى الأهلى الذين شكلوا معظم ضحايا أحداث استاد بورسعيد، كما ضمت الجدران شعارات تطالب بتسليم السلطة للمدنيين وإسقاط حكم العسكر.
 
صورت بعض الجداريات المصادمات مع الأقباط أمام مبنى التليفزيون فى ماسبيرو فى أكتوبر 1102، ومصادمات شارع محمد محمود فى نوفمبر 2011، والمواجهات التى دارت بالقرب من مجلس الوزراء فى ديسمبر 2011.
 
من تلك الجداريات أيضا جدارية سجلها فنانو الجرافيتى على سور الجامعة الأمريكية، وتمثل صعود الشهداء إلى الجنة مستلهمين فيها أساليب الرسم المصرى القديم والأوضاع التى تتخدها الشخوص فى اللوحات المسجلة على جدران المعابد الجنائزية.
 
وشتان بين ما رسم على جدار برلين وعلى معابدنا القديمة وعلى جداريات مصر بعد ثورة 25 يناير وبين ما هو حادث حاليا، فإما أن يتحول لكتاب تاريخى أو مزبلة من السخافات والشتائم وقلة الأدب، كما هو الحال حاليا فى مصر، فلا يوجد جدار أو كوبرى أو واجهة محل أو مؤسسة حكومية أو جامعة أو مدرسة بدون كلام بذىء، فمنذ سنوات كان الكلام بذىء دون طابع سياسى، أما الآن فقد أصبحت الكلمات البذيئة تصطبغ صبغة سياسية رخيصة.
 
وقد لفت نظرى حملة الهاشتاج التى دشنها الإخوان والمفروض أن ألسنتهم لا تعرف إلا ذكر الله انتخبو «....» كلمة بذيئا رخيصة لا معنى لها وكان الرد بكلمة مثلها انتخبوا اللى شال «.....» مستوى ردىء من الهجوم والدفاع يدل على تفاهة وانحطاط المجتمع فى الرؤى والمبادئ والاختلاف والاتفاق.
 
وأنا أتحدث عن الجداريات وبذاءتها لا يمكن فصلها بأى شكل عن حال المجتمع وحال مواقع التواصل الاجتماعى فيس بوك وتويتر.
 
 
ولا يخفى على أحد المستوى الردىء الذى وصل له، حتى إن هذا الإسفاف لا يقتصر على طبقة معينة ولا على جنس معين بل يتساوى الأولاد والبناد من كل الأعمار، فبوست بسيط على الإنترنت قد يثير شتائم وهجوما غير مبرر وحماقات وسخافات وردود فعل منفلتة لأقصى حد يمكن تخيله دون حياء أو تردد، حتى إن الألفاظ التى كنا نصنفها على أنها ألفاظ خارجة أصبحت تقال بطريقة عادية على الملأ.
 
الدكتورة هدى زكريا أستاذ علم الاجتماع السياسى أكدت أن الشتائم هى علامة على الانفلات اللفظى وليس الانفلات الأخلاقى، مشيرة إلى أن فقدان القدرة على التغيير اللفظى ليس له علاقة بالثورة ولكن له علاقة بـ 43 عاما مضت بدأت بمعاناة الطبقة المتوسطة بقوانين الانفتاح والتى جعلت الثروة فى أيدى ناس محدودة فحصلوا على الأموال بطرق مختلفة كالتهريب وتجارة المخدرات، فبدأ الانحطاط الأخلاقى فى الظهور وبدأت أنواع الجرائم الجديدة تظهر فى المجتمع وواكبها سينما المقاولات بعد أن تخلت الطبقة الوسطى عن دورها فى الاهتمام بالفنون والثقافة.
 
وهنا قاطعت الدكتور هدى قائلة: تقصدين تلاشت، فأجبت: أرفض بشدة كلمة تلاشت، فالطبقة المتوسطة لم تتلاش ولكنها لم تعد تقوم بدورها المنوط به، فقديما كانت هى التى تردع من يكتب على الحائط كلمة بذيئة، وكانت تحدث نوعا من الاتزان داخل المجتمع، فهى حاملة النسق الأخلاقى وهى التى تمثل الغالبية فى المجتمعات السليمة الصحية، فأمريكا تعتبر نفسها هى مجتمع الطبقة المتوسطة، فأول ما تهتز الطبقة المتوسطة يهتز المجتمع وكانت من علاماته مقتل السادات والطبقة المتوسطة أصبحت مشغولة بعقود العمل والضغوط المالية أكثر من اهتمامها بدورها الأخلاقى.
 
والموجود بالشارع حاليا هو نتاج 43 عاما والثورات قامت من أجل عودة الطبقة الوسطى لدورها من جديد، وترى زكريا أن الخطاب الدينى يحرض على التحرش والعنف، فأبناء كثيرون بعد خطبة الشيخ فى المسجد ينتقدون آبائهم لأنهم لا يطلقون لحيتهم، فالخلل التربوى نتيجة للخطاب الدينى الذى استحقر المرأة، فجعل الرجل يتحرش بها من أجل عقابها على هيئتها ونحر الخطاب الدينى أمثالنا الشعبية ومواريثنا وتقاليدنا، غير أن المجتمع أصبح لا ينتبه لأدنى درجات الاحترام، فلم يعد أحد يقول شكرا الكل يقول ماشى، فالفقراء زمان كانوا يقولون ميرسى للتشبه بالأغنياء ولرقى الذوق.
 
وتشير الدكتورة هدى إلى بأنها كانت تناقش رسالة دكتوراه فى جامعة القاهرة، قائلة: كنت أريد أن أخلع حذائى وأنا داخلة الجامعة كنوع من القدسية، فهذا الصرح الكبير كان يضم قامات كبيرة كحكمت أبوزيد وسهير القلماوى وتفاجأت عندما وجدت جدران الجامعة مكتوب عليها ألفاظ نابية وبذاءات.
 
وترى زكريا أنه من الظلم أن نتهم الثورة بأحداث هذا الانفلات ولا الحرية لأن الشعب المصرى لم يكن مقهورا لهذه الدرجة التى تجعله يتخبط بهذا الإسفاف، فهو طيلة الوقت شعب جرىء لا يخشى أحدا ولا يمكن تجريم الحرية وإلا افتقدنا إنسانيتنا وأعطينا مبررا للذل والهوان.
 
والشعب المصرى «مؤدب ومتربى» ولكنه يعيش فى فترة دقيقة ويحاول لملمة نفسه وسوف ينجو والمتابع للتاريخ سيعى جيدا ما أقوله، فمصر مرت بفترات سيئة أيام المماليك والفاطميين ومرت أوقات أكل الناس فيها بعضهم.