الإثنين 17 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

إكسبريس منتصف الليل يفتح باب الهجوم علينا!

إكسبريس منتصف الليل يفتح باب الهجوم علينا!
إكسبريس منتصف الليل يفتح باب الهجوم علينا!


 
هذا الفيلم ملىء بالعنف والقسوة والتعذيب.
 
وقد لا يحتمل المتفرج رؤية هذا العنف والألم، ولكن ما يدفع الكثيرين إلى الاستمرار واستكمال مشاهدة الفيلم، هو الفضول لمتابعة موضوع يدور فى بلد إسلامى، حيث ترتفع قباب المساجد، ويتردد صوت المؤذن داعيا للصلاة.. وتختلط مشاهد العنف والتعذيب مع صوت المؤذن.. وكان المقصود بالتحديد هو إظهار هذا التباعد الحاد بين الدين، والمعاملة الوحشية التى نراها على الشاشة!.. وهذا التناقض الذى قصده المخرج الإنجليزى لا يأتى بالمصادفة ولا يأتى لمرة واحدة، لكنه يكرره فى كل مشاهد التعذيب، وهذا ما يؤكد نية الإصرار والترصد!
 
والفيلم تدور أحداثه فى تركيا، وبالتحديد داخل السجن التركى الكبير الممتلئ بالآلاف من المساجين المجرمين واللصوص، والمنحرفين، ويدير السجن مجموعة من الضباط والجنود الذين يتفننون فى طرق الإهانة والتعذيب وإهدار كرامة الإنسان، حتى تحول المساجين على أيديهم إلى أشباح آدمية هزيلة محطمة!
 
ويتعمد المخرج الإنجليزى أن يضع بين المساجين شخصية رجل مقزز، سمين للغاية، عارى الصدر، يضع العقال العربى على رأسه، ويربط فى رقبته جهاز راديو كاسيت، ويهتز جسده اهتزازات مخجلة ويغنى باللهجة العربية: «البحر بيضحك ليه.. وأنا نازلة أدلع أملا القلل»!
 
وكأن المخرج الإنجليزى لا يكفيه التلاعب بصوت المؤذن.. وإنما يتعمد وضع الخطوط لإبراز عدائه لهذه المنطقة!
 
قصة فيلم «إكسبريس منتصف الليل» وقعت بالفعل، وصاحبها طالب أمريكى «بيلى هيز» سافر إلى تركيا ضمن رحلة سياحية، وكانت معه صديقة، وعندما حان موعد عودتهما إلى أمريكا، فكر الشاب فى أن يهرب كمية من الحشيش معه حتى يستفيد من بيعها فى أمريكا، وبالفعل ربط كمية الحشيش «اثنين ونصف من الكيلو جرامات» داخل حزام ولفه حول صدره وبطنه، وعلى باب الطائرة انكشف أمره وقدم إلى المحاكمة، ثم بدأت التجربة المريرة داخل السجن التركى.
 
وقد سجل هذا الشاب «بيلى هيز» ما حدث له وما رآه فى السجن التركى فى كتاب صدر بأمريكا بعنوان «إكسبريس منتصف الليل»، وقد تحول هذا الكتاب الأمريكى إلى فيلم إنجليزى من بطولة الممثل الأمريكى الجديد «براد ديفيز» الذى يعتبرونه خليفة النجم الراحل «جيمس دين»، وأخرج الفيلم المخرج الإنجليزى «آلان باركر» الذى لم يتجاوز عمره 34 عاما وقتها.
 
ولا يمكن تجاهل المستوى الفنى الجيد الذى خرج به هذا الفيلم، ولا يمكن أيضا تجاهل كمية الإثارة والتشويق التى حملها الفيلم.
 
وفى نفس الوقت لا يمكن معاملة هذه النوعية من الأفلام بمنتهى البراءة وحسن النية!
فالبراءة أسلوب لم يعد معترفا به فى العصر الحديث، الشديد التعقيد، والذى تحكمه المصالح الكبرى بذكاء وخبث، مستخدمة كل إمكانياتها وخبراتها فى السيطرة على الرأى العام.. وفيلم «إكسبريس منتصف الليل» يستغرق الوقت كله فى تفاصيل المعاملة داخل السجن التركى الرهيب.. ولا أحد يدافع عن النظام الإرهابى فى السجون.. ولا أحد يرضى بهذه المهانة والقسوة والعنف.. فهذه أساليب مرفوضة إنسانيا وأخلاقيا.. ولكن القضية تكمن فى الروح العدائية التى تسرى فى الفيلم ككل.
 
فنحن منذ البداية نرى هذا الشاب الأمريكى وهو يستعد لارتكاب جريمة تهريب الحشيش.. وهو يدرك أن ما يفعله جريمة تستحق العقاب.. ولهذا يتخذ جميع احتياطاته حتى لا يثير حوله الشبهات، وتحاول صديقته الأمريكية أن تمنعه من هذا التصرف، وتحذره من النتائج، ولكنه لا يبالى، فهو يعتقد أنه لن يثير شبهات أحد، وبالفعل يمر من بوابات الجمرك والجوازات، حتى يصل إلى سلم الطائرة، ويتنفس الصعداء، فهاهو على بعد خطوات من الطائرة والرحيل، ولكن تحدث المفاجأة غير المتوقعة، فهناك مجموعة من الجنود تقف على سلم الطائرة تقوم بتفتيش الركاب تفتيشا ذاتيا، لضمان عدم وجود أسلحة معهم، خوفا من عمليات اختطاف الطائرات، وعندما يأتى الدور على هذا الشاب «بيلى هيز» يقوم أحد الجنود بالتحسيس على جسمه، فتصطدم يداه بالحزام المحشو الملفوف حول الصدر والبطن، وبسرعة يطلق الجندى صفارته للتنبيه، فتهرع إليه مجموعة من الجنود تحمل المدافع الرشاشة، ويحيطون بالشاب، بينما انبطح جميع من فى المطار على الأرض، خوفا من انفجار المفرقعات التى يحملها هذا الشاب! وفى ذهول شديد يخلع الشاب سترته تحت فوهات المدافع الرشاشة، ليكشف عن حقيقة الحزام الملفوف على الصدر والبطن.. إنه حزام محشو بالمخدرات!
 
وتقلع الطائرة تحمل ركابها ومن بينهم صديقته الأمريكية التى شهدت ما جرى، ولم تستطع أن تفعل شيئا، ويقتادون الشاب «بيلى هيز» إلى قسم الشرطة، ويتعمد المخرج أن يقدم هذا المشهد بطريقة مثيرة للسخرية، فنحن نرى ضابطا كبيرا يأمر الجنود بالوقوف صفا، ثم يؤنبهم على إهمالهم فى تفتيش هذا الشاب عند مروره من بوابات الجمرك والجوازات.. ثم يتقدم الضابط الكبير ناحية الجنود ليصفع كلا منهم على وجهه بالتوالى.. وتنهمر الشتائم فيما بينهم.. ثم ينقضون على الشاب ليضربوه بعنف.
 
ويتضح من هذا المشهد حالة الارتباك بين رجال البوليس التركى واللجوء إلى العنف لتغطية ارتباكهم!
 
رجال البوليس التركى يحاولون استدراج هذا الشاب الأمريكى «بيلى هيز» للكشف عن البائع الذى أعطاه المخدرات.. وتتحرك عربة البوليس وبداخلها الشاب فى حراسة عدد من الجنود إلى شوارع استانبول التجارية المزدحمة.. ولا أهمية لهذه المشاهد سوى الرغبة فى استعراض المدينة وبالذات هذه الأحياء الشعبية القديمة المزدحمة، حيث تنتشر أوكار المخدرات والمروجين لها من سائقى التاكسيات وبعض الباعة الذين يتخذون أماكنهم فى المقاهى علنا!
 
ويدخل الشاب إلى السجن التركى الرهيب المسمى «ساجا ميلكار» لتبدأ مشاهد العنف والتعذيب.. ففى أول ليلة بالسجن يشعر الشاب بالبرد.. فيذهب إلى الحارس ليطلب منه غطاء، ويجدها الحارس فرصة لتدشين «الزبون» الجديد فينادى زملاءه الذين يكتفون الشاب ويعلقونه من ساقيه ويضربونه بشدة حتى تتفجر الدماء منه.. وينطلق صوت المؤذن لصلاة الفجر!
 
وفى اليوم التالى يتعرف الشاب على بعض زملائه المساجين، ويسمع لأول مرة تعبير «إكسبريس منتصف الليل» وهو تعبير رمزى يطلقه المساجين على الهروب من السجن.. وسمع أيضا عبارة «كل شىء ممكن فى تركيا»، ويلتقى بمسجون أوروبى اسمه «ماكس» حول زنزانته إلى وكر خاص به، يحتفظ فيه بالمخدرات التى يحصل عليها من حارس الزنزانة نظير مبالغ كثيرة، وقد حولته المخدرات إلى إنسان سلبى متهرئ لا يقوى على الحركة ويكتفى بمداعبة قطة صغيرة يستأنس بوجودها بجواره ويطلق عليها اسم «حكمت»!
 
وذات يوم يفاجأ باختفائها، ويكاد يجن بحثا عنها، ثم يكتشف وجودها ميتة، مشنوقة من رقبتها فى سلك كهربائى معلق بالحائط وينهار «ماكس» فى بكاء مر.. وينطلق صوت المؤذن للصلاة!
 
وتركيبة هذا المشهد أشد خبثا، فقتل القطة أمر مرعب للمتفرج الأوروبى الذى يتعامل مع القطط والكلاب بحنان وعطف زائد.. ويجىء هذا المشهد ليوحى بالوحشية فى ظل الأذان للصلاة!
 
وتمضى أحداث الفيلم داخل هذا السجن الرهيب المزدحم بنماذج مختلفة من المجرمين والمنهارين، الذين استهلكتهم تماما المعاملة القاسية والجو الخانق المتعفن داخل السجن.. ويتمهل الفيلم طويلا أمام نماذج السجانين، ونهمهم للتعذيب والرشاوى.. ثم يقدم لنا مدير السجن «حميدو» فى صورة الرجل المفترس المتوحش الذى لا يكف عن الضرب والإهانة بسبب وبغير سبب!
 
∎ العقوبة.. والمفاجأة
 
ويبحث الشاب الأمريكى عن محام يستطيع أن يدافع عنه، ويقدم لنا الفيلم هذا المحامى التركى فى صورة ساخرة للغاية، فهو رجل سمين، لزج، عندما يضحك تظهر أسنانه الذهبية، ويكاد لعابه يسيل على منظر النقود!
 
ويصدر الحكم بسجن «بيلى هيز» أربع سنوات وشهرين.. ولا مفر من الاستسلام لهذا الحكم.. وتمضى الأيام والسنون وتتكرر مشاهد التعذيب مع صوت المؤذن! حتى يتبقى على انتهاء مدة العقوبة ما يقرب من الخمسين يوما.. وتأتى المفاجأة القاسية أن المدعى العام فى تركيا طلب استئناف النظر فى القضية، ليصدر الحكم من جديد بسجنه مدى الحياة!
وأمام المحكمة التركية نشاهد الشاب «بيلى هيز» وهو يفرغ كل معاناته فى كلمات عن الحق والعدل.. ثم يلعن المحكمة: «كلكم خنازير.. إننى أكره شعبكم.. إننى أكرهكم جميعا».
 
ويعود الشاب إلى زنزانته وقد قرر أن يفكر جديا فى «إكسبريس منتصف الليل» أو بمعنى آخر «الهرب»!
 
ويساعده اثنان من زملائه الأوروبيين المسجونين معه، فى حفر نفق تحت جدار السجن، ولكن ينكشف أمرهم وينالون أشد أنواع العقاب، ولا يحتمل الشاب «بيلى هيز» ما وصلت إليه الأمور، فيشتبك فى معركة مع أحد الجنود.. يتقرر بعدها نقله إلى عنبر المسجونين الخطرين، الذين فقدوا عقولهم، وأصبحوا نوعا من الكائنات المحطمة!
 
ويقضى الشاب أيامه وسط هذه الكائنات حتى يفقد اتزانه هو الآخر!
 
وتزوره صديقته التى رأيناها فى بداية الفيلم، إنها قادمة إليه من أمريكا تحمل له ألبوما من الصور خبأت فى داخله نقودا كى يدفعها رشاوى لتسهيل عملية هروبه.
 
ويصل المخرج إلى ذروة التعبير عن معاناة هذا الشاب فى لقائه مع صديقته، فهناك حاجز زجاجى يفصل بينهما، وهو يحاول أن يلمسها.. ولا يستطيع وينتهى المشهد ببكاء الاثنين.
 
∎ القتل.. والنهاية
 
ويلتقى الشاب بمدير السجن «حميدو» ويعرض عليه النقود كرشوة لتسهيل هروبه، ويبتسم مدير السجن ويصحب الشاب إلى غرفة جانبية ويغلق الباب عليهما، ويسفر مدير السجن عن كل وحشيته، لقد ظن الشاب أن الأمر قد انتهى، ولكن تصعقه مفاجأة مدير السجن أنه ينهال عليه ضربا ثم يحاول الاعتداء عليه جنسيا! ولا يحتمل الشاب مزيدا من الإهانة، فيدفع مدير السجن برأسه، وبكل ما تبقى من قوة.. فيتدحرج مدير السجن ليصطدم ببروز فى الحائط يهشم رأسه ويسقط صريعا!
 
وبسرعة يلتقط الشاب مسدس مدير السجن ويرتدى ملابسه، ويخرج إلى ممرات السجن، ويخدع الجنود الحراس بطريقة صبيانية ليفتح الباب الرئيسى للسجن، ويخرج إلى الطريق.
 
فى الطريق سيارة ضخمة تحمل زبائن جدد للسجن.. ويلتفت إلى الخلف كأنه غير مصدق أنه أفلت من هذا السجن الرهيب.. ويسرع بخطواته ثم يقفز فى الهواء كأنه يحتضن الحرية.. وتثبت الصورة على هذه النهاية.
 
وقد حضرت مؤتمرا صحفيا ضم مخرج الفيلم وممثليه، بالإضافة إلى صاحب القصة الحقيقية والتى نشرها فى كتاب.
 
وانهالت الأسئلة على المخرج والمؤلف.
 
بعض الأسئلة تبحث عن الفروق بين الكتاب والفيلم.. وأعلن المؤلف أن الفيلم التزم بـ 90٪ مما جاء فى الكتاب.. أما الاختلاف الـ 10٪ فجاء نتيجة طبيعة العمل السينمائى.
 
وحكى المخرج عن ظروف تصوير الفيلم، وكيف أنه سافر إلى تركيا لمعاينة هذا السجن، حتى يستطيع أن يحدد مكانا مشابها فى أى بلد آخر، حيث إنه كان من المستحيل تصوير الفيلم فى مكانه الحقيقى باستانبول، فزار إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وقبرص، وأخيرا عثر على قلعة قديمة فى جزيرة «مالطة» تشبه إلى حد كبير بناء السجن التركى.
 
بينما كانت وحدة تصوير ثانية تسجل بعض المشاهد فى الأحياء التركية، بحجة مختلفة تماما عن الهدف الحقيقى من التصوير.
 
ولكن أهم ما وجه إلى المخرج، هذه الانتقادات عما جاء فى الفيلم خصوصا هذه الإهانة البالغة ضد الشعب التركى من خلال خطبة الشاب «بيلى هيز» أمام المحكمة.. ثم محاولة المخرج تصوير نزلاء السجن التركى وكأنهم كلهم مجرمون وشواذ، بينما يضم السجن التركى فى حقيقته أعدادا من المسجونين السياسيين!
 
وحاول المخرج «آلان باركر» تفادى الوقوع فى براثن الأسئلة، فقال إنه لم يقصد أى إهانة للشعب التركى، وإنما قصد إبراز المعاملة الوحشية فى السجن التركى، وماذا أفعل إذا كانت هذه هى الحقيقة!
 
من أوراق مهرجان كان عام 78.