الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

قصص قصيرة

فجر النصر

تناهى لمسامع ليلى صوت اشتباكات بعيدة فيما تحدق بالأفق البعيد من خلال نافذتها، فأشد ما تحبه ليلى فى عملها هو إطلالة هذه النافذة، لامست ليلى بطنها الكبيرة المدورة بيد فيما تستند على المنضدة بيدها الأخرى، هامسة لنفسها: سيكون طفلى القادم فرحى الذى سيولد من رحم المعاناة والألم.



بدت أصوات الرصاص أقرب فأقرب.. فبادرتها زميلتها المتواجدة على الطاولة المجاورة لطاولتها قائلة: ليلى ألا تخشين أن تصابى بشظية قذيفة، أو برصاصة طائشة؟ الرجاء اختبئى خلف الجدار.

حركت ليلى كرسيها لتحتمى بالجدار، فسمعت أحد الزملاء فى غرفتهم الواسعة يقول بصوت جهورى: لننصت جميعاً.. مشيراً بيده لجهازه الخليوى الموصول بسماعات الأذن، وتابع قائلاً: لنستمع للأخبار، فقد ابتدأت المعارك لتحرير حلب من نير الإرهاب..

والنصر المؤزر سيكون لجيشنا السورى بإذن الله تعالى.

أنصت للمذياع باهتمام جميع الموظفين المتواجدين فى الغرفة، على الرغم من أن الصوت المنبعث من الجهاز الخليوى يُسمع بالكاد. قاطع الأخبار دخول امرأة تميل للبدانة، وترتسم علامات الوقار والجدية على محياها...رفعت يدها قليلاً ملقية التحية على جميع من فى الغرفة، ثم توجهت نحو منضدة ليلى هامسة: اسمعينى يا ليلى دون أن تقاطعيننى.. أطلق الإرهابيون اليوم قذيفة غادرة على مدرسة الوطنية فى حى الشهباء، مما أدى لاستشهاد ثلاثة طلاب وجرح أربعة عشر طالباً، ولعل الهدف القادم حينا هذا ،لذلك علينا المغادرة على وجه السرعة.. وعليك المكوث فى منزلك حتى يحين موعد ولادتك، وإيلاء نفسك المزيد من الاهتمام من أجل الجنين، ابن أخى الحبيب الذى طالما انتظرناه.

 فى إشارة منها لتأخر حمل ليلى بعض الشىء.

لعنت ليلى أخت زوجها فى سرها، وكم كانت خيبتها كبيرة بهند أخت زوجها التى أحبتها كثيراً، وكيف كانت أحاديثها تسيل عذوبة ورقة، وحين تقدموا لخطبة ليلى كانت كلماتها حلوة كالعسل، ولكن هند انقلبت بعد زواج ليلى لامرأة كثير التشكى والانتقاد لتبادرها بتعليقاتها اللاذعة وتلميحاتها المؤلمة فى أغلب الأحيان.

استأذنت ليلى مديرها المباشر للخروج من العمل بحجة شعورها بآلام المخاض، ورافقتها هند أخت زوجها الموظفة معها فى المديرية ذاتها، وإنما فى قسم آخر.

شعرت ليلى بالطمأنينة حال وصولها منزلها، ومع حلول المساء تحولت الكذبة لحقيقة وشعرت بآلام المخاض الحقيقية، واتصلت بطبيبها المتابع لحملها فطلب منها الحضور للمشفى، فتحاملت على أوجاعها وبدأت تجمع أغراضها بقلب حزين منكسر، إذ أخذت تتذكر والدتها متمنية وجودها إلى جانبها فى هذا اليوم، أمها التى هزمتها الحرب، فقد زادت من أمراضها وأوجاعها حتى توفيت، وتمنت وجود أخيها الغالى الذى سافر ليعمل خارج حلب فى مدينة أسرة زوجته بعد احتلال الإرهاب لمحله، وأخذت تنشج بأسى حين تذكرت والدها الحبيب الذى مات حزناً وكمداً لفراق زوجته وابنه.

إنها اليوم تواجه آلام المخاض وحيدة فلا أم ترافقها وتدعو لها، ولا أب يمسح العرق عن جبينها بحنو، ولا أخ يرافقها.

اشتدت آلام المخاض مع اشتداد أصوات الاشتباكات وأصوات الحرب.

ملأ الخوف كيانها بينما زوجها يقود سيارته باتجاه المشفى، حيث أخذت تتعالى من حولهم أصوات القذائف، وكم حمدت الله تعالى أنها وصلت المشفى دون أن تصاب بشظايا إحدى القذائف المتساقطة.

ارتأى الطبيب أن تلد ولادة قيصرية حسب ما اقتضى وضعها الصحى، وطلب من الكادر الطبى أن يجهز غرفة العمليات، فتضرعت ليلى لله عز وجل ألا تباغتهم قذيفة أثناء الولادة لئلا يتركها الطاقم الطبى وحيدة فى غرفة العمليات فتتعرض لخطر الوفاة لا قدر الله.

إلا أن ما حدث كان على العكس من توقعاتها، فأثناء ولادتها سمعت صوت دوى قذيفة فشعرت بدنو أجلها، فبالغ الطبيب بطمأنتها ومسحت الممرضة العرق من على وجهها، ومازحها الطبيب قائلاً: بما أن دعاء المرأة أثناء ولادتها مستجاب فأكثرى من الدعاء للجيش العربى السورى.

اطمأنت ليلى حال سمعت صوت الطفل الباكى، ولكنها كانت منهكة لا تستطيع الكلام، فقالت بصوت خفيض مفعم بالألم: أرنى الطفل يا دكتور.

فقال لها ممازحاً: سأعطيك الطفل للأبد حال انتهائى من خياطة جرحك.

ضحك كل أفراد الطاقم الطبى، وحال انتهائهم من العملية باركوا لها بسلامتها وسلامة المولود الجديد، وحين أعطوها طفلها عانقت ليلى الرضيع المنهك لامسة وجهه الناعم بكثير من الحبور متأملة ملامح وجهه الطفولية بفرح، ولسانها يلهج بالحمد والشكر وروحها مغمورة بالسرور.

فى المشفى قضت ليلى ليلة مرعبة مفعمة بأصوات الرصاص وأصوات المعارك، فكانت كلما أخذت إغفاءة تستيقظ مذعورة ليقوم زوجها بتهدئتها وطمأنتها.

بعد انقضاء ساعات الصباح الأولى تناولت ليلى وجبة الإفطار وطمأنها الأطباء على صحتها وصحة المولود الجديد.

أخبرها زوجها أن عليه المغادرة للاطمئنان على سير العمل فى محله، فبادرته بصوت مخنوق: هل ستتركنى وحيدة؟

وانحدرت دموع حارة على وجنتيها، وما هى إلا هنيهات حتى دخلت هند برفقة زميلات العمل حاملة باقة من الورد بيد وعلبة كبيرة مليئة بالحلويات الفاخرة باليد الأخرى.

ألقى زوج ليلى التحية عليهن واستأذنهن للخروج، فشعرت ليلى بالحبور يغمر روحها حال رؤيتها للزميلات حولها يهنئنها ويباركن لها.

جلست هند على حافة السرير قرب ليلى وبادرتها قائلة: أما الورود فهى هدية من الزميلات، وأما الحلويات فهدية من زوجك إذ طلبها منى ليلة البارحة.

وتابعت: فهل يعقل أن نتركك وحيدة فى يوم كهذا؟

وأردفت وابتسامة عريضة ترتسم على وجهها: وبعد قليل سيحضر بقية أفراد العائلة للمشفى ليقوموا بواجب التهنئة فأنت غالية.. أنت أم ولدنا.

همست ليلى لنفسها: لا تستطيع هند أن تكمل جملة واحدة دون إزعاج، ألا يحبوننى لذاتى؟ 

تنوعت الأحاديث بين الزميلات، حتى دخلت الممرضة للغرفة دافعة أمامها السرير المتحرك الصغير وداخله يرقد الرضيع النائم.

قالت الممرضة بصوت مليء بالبهجة وابتسامة تعلو وجهها: أحمل لكم خبراً سعيداً وأريد منكن مكافأة للبشرى.

صمت جميع من فى الغرفة بانتظار أن تبوح الممرضة بالأخبار المفرحة فتابعت: لقد حرر أبطال الجيش العربى السورى ليلة البارحة الجزء الشمالى الشرقى من مدينة حلب، وفى وقت مبكر من صباح اليوم فرض الجيش سيطرته على حى الحيدرية، وفى هذه الأثناء يتم تحرير حى الصاخور.

عمت الفرحة الغرفة، وبينما ليلى تقوم بإرضاع طفلها الحلو القسمات، قامت هند بتوزيع الحلويات على الزائرات، وأعطت الممرضة قطعتين كبيرتين.

وقالت موجهة الحديث للزائرات: ابن أخى الحبيب جاء حاملاً معه الخير والنصر لحلب ولسورية بأسرها.

عند حلول المساء عادت ليلى لمنزلها حاملة رضيعها بقلب مفعم بالفرح، ولسانها يلهج بالشكر للبارى عز وجل لتقابل بعد ذلك أياماً صعبة مفعمة بأصوات الحرب، مليئة بالذعر من القذائف الإرهابية، مزدحمة بأخبار المفاوضات حتى مساء الخميس الثانى والعشرين من شهر كان الأول للعام ألفين وستة عشر حيث أعلن الناطق باسم القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة السورية فى بيان متلفز السيطرة على مدينة حلب بالكامل لتنتهى بذلك أكبر مأساة عاشتها حلب فى تاريخها الحديث، وقد سميت العملية العسكرية تلك باسم فجر النصر.