الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الاستفزاز وأنت ماشى!

الابتزاز له أنواع عديدة، يأتى على رأسها النوع العاطفى، وصولاً إلى الابتزاز المادى وأحيانا الجنـسى، لكن.. ما علينا.



برعت فئات عديدة فى استخدام الابتزاز أفضل استخدام، بل يمكننا القول إنهم «نحتوا» كل معنى ممكن لهذه الكلمة، واستخدموه فى أمور عديدة، وأبرزها «الشحاتة»، حتى صارت فنًا يمكن أن نطلق عليه «فن الشحاتة»، وبالمناسبة يتساوى فى ذلك بعض الأفراد والشركات.

 

أول شكل من أشكال الابتزاز قد تتعرض له، يكون داخل جدران بيتك، فعندما تجلس هادئًا مطمئنًا لا بك ولا عليك، تجد فجأة أحد أبنائك الصغار يقبل عليك ضاحكًا باسمًا، ومن دون مناسبة يفاجئك: «بابا.. أنا بحبك أوى، أو بابا حبيبى.. واحشنى»، فلا تندهش، فقط حاول أن تتماسك حتى يصل الموقف إلى منتهاه، لأن هذه الوصلة العاطفية الحميمة، إن لم تنته بتجريدك مما فى جيبك من جنيهات، فإنها حتمًا ستنتهى بغضب ومقاطعة إلى حين.. وفى النهاية هتدفع بردو، وكل أب أو أم أدرى بما فى جيبه أو الـ«بوك» من نقود.

هذه المرة.. المشهد مختلف تمامًا، وسأحكيه بتفاصيله مثلما حدث معى، أمام باب جامعة القاهرة الخلفى بجوار محطة المترو، أريد اللحاق بموعد العمل، فأشرت لأول تاكسى فتوقف، بمجرد أن أغلقت الباب، شعرت أنى ركبت تاكسى مختلفًا تمامًا عن جميع تاكسيات العاصمة ذات اللون الأبيض، حادثت نفسى «كويس أنه وقفلى»، الزجاج مغلق تمامًا، التكييف رائع، سألنى: «على فين»، فقلت «شارع قصر العينى»، تعبيرات وجهه تقول «أنت المفروض لما توصل تصلى ركعتين شكر إنى ركبتك معايا».

هو شاب، تشعر أنه «لمونة قرفانة فى حلة زفرة»، يرتدى «نظارة شمس»، ولأننا كنا وقت الغروب، رفع النظارة عن عينه كأنها منظار طبى فى معمل تحاليل بطريقة كلها كبرياء، ثم مد يده ليمسك بالجراب، وأخرج النظارة الطبية ووضع مكانها النظارة الشمس، مسح العدسات بالفوطة الطبية بكل حساسية كأنه يمسك بفص لؤلؤ نادر، يتعامل مع عصا الغيارات «الفتيس» كأنها فرشاة ألوان، هو ـ بالمناسبة ـ لم يكن قد شغل العداد، وبالتالى فالأجرة سيتم تحديدها بشكل تقديرى، كانت فى يده سيجارة، تبقى منها النصف، وحتى يطرد الدخان كان يفتح نصف زجاج النافذة التى بجواره، ولما انتهى منها أغلق الزجاج كاملاً. 

وصلنا إلى المكان المحدد، اعتدت ألا أدفع فى هذا المشوار أكثر من 10 جنيهات، فالعداد قلما يتجاوز هذا الرقم بقروش معدودة إلا فى مرات نادرة ـ طبعا بيكون العداد مش تمام. كنا قد توقفنا فى الطريق أكثر من مرة بسبب الإشارات. وعند الوصول، حانت لحظة الحساب ـ ويا ويلك ياللى تركب مع واحد زى صاحبنا، لأنك راكب مع رئيس مجلس إدارة التاكسى، يعنى طلباته أوامر.

مددت له يدى بالعشرة جنيهات، وعينك ما «تشوف إلا النور»، واشتغلت أسطوانة المنّ والإحسان، كأنه انتشلنى من أدغال إفريقيا وأنقذنى من الوحوش الضارية، وأخذ يقول: «يعنى أنا جايبك من جامعة القاهرة للمنيل للقصر العينى ومشغل التكييف وتدينى عشرة جنيه»، فقلت: «وأنا مالى بالتكييف، أنت أصلاً مشغله لنفسك، ثانيا المشوار عمره ما بيعدى العشرة جنيه، ثالثا أنت عاوز كام»، فرد «أنا عاوز 20»، ليه إن شاء الله.. هو مشوارك 10 جنيه، وممكن أديلك 2 أو 3 جنيه زيادة عشان الانتظار فى الإشارات، آدى 15 جنيه.. هات الباقى»، رد «مش معايا فكة».. فقلت «الله يسهلك.. وأنا مش مسامح».

أنبوبة  أكسجين

اضطرتنى الظروف فى أحد اللقاءات أن أجلس فى كافيه ـ سياحى كما يقولون، المكان مميز فى ديكوراته وفى التخصص «الشىء لزوم الشىء»، الجارسون الذى سيتلقى منك طلباتك، غير المسئول عن الشيشة، غير المسئول عن «الولعة»، فى نهاية «اللقاء» عندما هممت بالانصراف، طبعا طلبت الشيك، «وكل شىء مكتوب، المشروب، واللىّ الطبى، والشيشة، والخدمة، والضريبة كمان»، أخذت أحسب الحسبة، فوجدت أن اللى والخدمة الذى منه، تتجاوز قيمتها نصف المبلغ الإجمالى، «إزاى مش فاهم»، وأخذت أتساءل ـ بينى وبين نفسى طبعا: «هو اللىّ دا أصلا مش جزء من الشيشة، ولا هو فى شيشة من غير لىّ، يمكن عشان طبى، طب وإيه يعنى؟!. فى النهاية دى شيشة مش أنبوبة أكسجين، طب الضريبة ماشى، ليه بقى الخدمة، هو المفروض إنى أخدم نفسى».. مالها القهوة البلدى! 

وفجأة اختفى

طوال ما يقرب من 5 سنوات أو أكثر، فى الطريق إلى مقر عملى فى وسط القاهرة، أمر بأحد الميادين الشهيرة، فى هذا الميدان، وعلى أحد الأرصفة، كنت أشاهد امرأة تحمل على يديها طفلاً رضيعًا، وتنادى على جميع المارة واحدًا تلو الآخر «لو سمحت يا أستاذ»، كثيرون يتعاطفون معها، وينتهى الحوار القصير بينها وبين «الأستاذ»، بأن يضع يده فى جيبه ويعطيها «اللى فيه النصيب»، إلى هنا والأمر عادى «وهنياله فاعل الخير»، لكن السؤال: «هو الرضيع دا ما بيكبرش، خمس سنين وهو فى اللفة، طب وهى طول الخمس سنين ما جمعتش فلوس الأجرة اللى توديها بلدها، طيب هما الأساتذة ما بيتعلموش؟».

فى المكان نفسه وفى الميدان نفسه وعلى الرصيف نفسه، وبعد أحداث يناير، الرضيع اختفى، يبدو أنه كبر فجأة، وبدلاً منه أصبحت أرى امرأتين منقبتين، ترتديان عباءتين سوداوين، يبدو أنها استيراد الخليج، لامعة، مقسمة، مجسمة، أما عن النقاب، فهو قصير، تبدو منه العيون كحيلة، واسعة، نظرتها مستعطفة، والأهم، أنها تناديك بكل حنان «أستاذ.. لو سمحت»، فاكتشفت أن الأساتذة أصبحوا أكثر من ذى قبل، ومن باب اللياقة، أعتقد عيب أنك «تطلع من جيبك أقل من 10 جنيه!».

الواجب صيف شتا

فى شارع قصر العينى.. ظللت طيلة ما يقرب من 7 سنوات، أشاهد امرأة مسنة، تمسك بيدها كيس علاج، ملامح وجهها دائما مرسومة بشكل باكٍ، لكنها لا تبكى، وطوال هذه السنوات، لم يتغير كيس العلاج، ولا هى بكت، فى البداية كان ينتابنى غضب داخلى لأجلها، باختصار، قلبى بيتقطع، لكن بعد ما يقرب من العام، اكتشفت إن قلبى هيفضل يتقطع علطول.

عند أى محطة مترو، أو بجوار بعض الجوامع التى تقع فى أماكن هادئة، دائمًا هناك طفل يذاكر ويمسك بقلمه «عشان يعمل الواجب»، وبجواره أيضا «شوية أكياس مناديل»، لا الواجب بيخلص، ولا المدرسة بتخلص، صيف شتا دايما فى واجب بيكتبه». 

ظاهرة أخرى للابتزاز والاستفزاز منتشرة بين البعض من سائقى التاكسى، تركب بجواره، فتسمع كلامًا هادئًا رقيقًا، تشعر أن الدنيا ما زال بها بعض العقلاء القانعين بأرزاقهم، لكن ما أن تصل إلى محطة الوصول، فدائما «مش معاه فكة»، والأهم تلك الابتسامة الناعمة والعين المنكسرة، فتضطر للنزول من دون جدال، ولما تكرر الأمر، قررت أنى «مش مسامح فى الباقى!».

إن وأخواتها

أكثر الإعلانات استفزازًا لى بشكل شخصى، كان ذلك الإعلان الذى يأتيك فيه الصوت «اتصرف لك فى أربعين ألف جنيه وتعالى خدلك شقة فى تجمع..»، حينئذ تتجمع على لسانى جميع السباب والشتائم التى تخطر ببالك، لكنها لا تتجاوز شفتىّ لأن اللى كتب الإعلان غير حاضر أمامى، «ويا سلام لو شفته..آآآآه!». 

هى الأربعين ألف جنيه دى أربعين قرش، وأتصرف فيها إزاى يعنى، أسرقهم، ولا أستلفهم، ولا أبيع عفش البيت، على أساس يعنى إنى حشترى شقة فول!. ثم يختم الإعلان بأنه «أقل قسط شهرى، وأقل فايدة هتلاقيها فى مصر كلها، جميع البنوك والشركات تستخدم نفس الجملة» أقل قسط شهرى فى مصر»، ارحمنا يا رب «الكذب البيّن.. والابتزاز الحنين» فى إعلانات «الشقق والعربيات!».

هذه المرة، تشعر أن المعلن «قلبه عليك وعلى فلوسك»، وأقصد هنا إعلانات شركات الاتصالات المختلفة، التى تقدم لك عروضًا غير مفهومة، وأنهم يريدون مصلحتك، وأن عروضهم «مافيش فيها إنّ»، فى حين أنهم يمثلون «إن وأخوتها»، ويأتيك الصوت، «أقل سعر مكالمة محمول فى مصر»، وجميعنا لا يلحظ جملة «تطبق الشروط والأحكام»، يعنى «الضريبة يا ناصح»، وكدا كدا هتدفع زى الباشا اللى هيقولوك عليه، بعد ما تتفاجئ ساعة دفع الفاتورة.. وتسمع جملتين ثابتين، دا النظام الخاص بالشركة يا فندم.. حضرتك تقدر تشتكى.. بس لما تدفع لأن الخدمة هتقف»، وِقف قلبك منك له يا شيخ!

السادة خبراء التسويق فى هذه الشركات يدركون جيدًا كيف تفكر عقلية المواطن البسيط، فهو يخاطبك بأرقام بسيطة تدور فى فلك القرش والقروش، أو «جنيه واحد بس طوال اليوم»، لكنه جنيه بملحقاته، وما شابه، والشركة ـ يا عينى ـ لا ذنب لها! 

عزيزى المواطن، هذه الشركات تجمع منا القروش، و«قرش على قرش، يتحول لسمكة قرش»، ويمكننا أن نفعل الكثير بهذه القروش.