الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

التونى.. ساقـى الأرواح وسلطان المـــداحــين

جسدٌ نحيف، ووجهٌ ذو ملامح صعيدية أصيلة، يقف على المسرح، يُحرك رأسه يمينًا ويسارًا، ويُمسك بيده اليُمنى مسبحة، يقرع بها كأسًا صغيرة بيده اليسرى، ليصنع إيقاعًا مميزًا يلتحم مع إيقاع الطبلة والدُف والمزمار فى تناغم فريد، بينما يرتفع صوتٌ شجى رنان، ينشد بإحساسٍ صادق التواشيح الدينية والأناشيدالصوفية، فينخرط الجميع معه، يرددون اسم الله، عبر طقوسٍ تلهب النفس، وتصعد بالأرواح فى «مدارج العاشقين» للإنشاد الصوفى.



 

إنه  المنشد  الشيخ  أحمد التونى سليمان، أشهَر وأكبر منشدى صعيد مصر، الذى لُقِبَ بـ«ساقى الأرواح» و«سُلطان المدّاحين» و«شيخ المنشدين»، واستطاع بأدائه المتميز الخروج بالإنشاد الصوفى من المحلية إلى العالمية، إذ دعى للمشاركة فى العديد من المهرجانات الموسيقية الروحية. 

وُلِدَ الشيخ التونى الذى ينتهى نسبه إلى عائلة الأشراف، عام 1932م بقرية الحواتكة التابعة لمركز منفلوط بمحافظة أسيوط، ولم تكن طفولته رغدة، فقد أنهى حفظ القرآن مُبكرًا فى الكُتّاب، وكان يذهب من حينٍ لآخر إلى سهرات الصوفية فيحفظ كلماتهم، ويُقلد أداءَهم، كما كان معجبًا بالعديد من المنشدين أمثال الشيخ أحمد حسّونة والشيخ الشبيطى والشيخ مرزوق، والشيخ القبيصى.

بدأت علاقته بالإنشاد من خلال شيخه الشبيكى الذى كان يرافقه فى موالد الذِّكر والإنشاد، ومع مرور الوقت أصبح له أسلوبه المتفرد، المتعدد الأداءات، القائم على الارتجال بشكل فطرى لما يحفظه من أشعار كبار أئمِة التصوف، ومنهم «أبو العزايم، ابن الفارض والحلاج»، مُستخدمًا فقط صوته الذى يجذب القلوب والأسماع، والإيقاع الذى يُحدثه عبر النقر بمسبحته التى لا تفارق أنامله على كأس زجاجية صغيرة، وهى الطريقة الأولى التى استخدمها فى بداية دخوله مجال الإنشاد الدينى.

ولمّا أدرك الشيخ التونى أهمية استخدام الموسيقى فى نشر رسالة التصوف التى يحملها، أدخل الموسيقى للإنشاد الدينى عبر إيقاع الدف والرِق والطبلة والناى والكمان الذى أضفى على تجلياته شعرًا وتنويعًا بين المقامات الموسيقية جمالية أخاذة، فضلاً عن أدائه الصادق الذى لا يختلف سواء كان خلال بروفة أو إنشاد حى.

قَدّم التراث القديم كما جاء على ألسنة الأولياء والعارفين بالله، ومنهم «الجندى،  الرفاعى، الدسوقى والجيلانى»، وغيرهم، ومن أشهَر أناشيده التى لا تزال تتردد فى ذهن أحبابه ومريديه «أهل الكرم، وناديت، وكريمة ياللى مقامك حلو، ويا خمار، والله محبة»، وغيرها، فيما يعتبر المنشد الصعيدى الشيخ ياسين التهامى أحد أشهَر تلاميذه.

كان الشيخ التونى يجد متعته فى الغناء المتواصل لساعاتٍ طويلة فى موالد «السيد البدوى» و«الحسين» و«السيدة زينب»، وكل ذلك ارتجالاً مما يحفظه من الشعر دون أن ينشد فى ليلتين متتاليتين نفس الأشعار، إلا أنه أصبح يقتصد فى الإنشاد مع تقدم السّن وفى الوقت ذاته يحافظ على نفس طريقته فى الإنشاد.

واللافت للنظر أن الشيخ التونى لم يكن ينظر للمقابل المادى الذى سيحصل عليه بعد الإنشاد، حتى إنه كان يقوم بعض الحفلات الدينية من دون مقابل لرغبته فى مدح النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المقام الأول وإيصال رسالته فى المقام الثانى، ورُبما شغفه بما يُقدِم كان سببًا فى انتشاره فى الدول العربية والأجنبية.

استطاع الشيخ التونى بتفرُّده وبفضل أدائه المتميز أن ينقل الغناء الصوفى من المحلية إلى العالمية، وتمت دعوته للمشاركة فى العديد من المهرجانات الموسيقية الروحية فى الخارج، منها المشاركة فى الدورة الـ12 لمهرجان فريبورغ الدولى للموسيقى الروحية يوم 10 يوليو عام 2008م، والتى أحيا فيها حفلاً أقبل عليه الجمهور السويسرى بكثافة وصفق له بحرارة.

وكانت دعوة الشيخ التونى وفرقته للمشاركة فى هذه التظاهرة ‏الثقافية الدولية، اعترافًا بحُسن الأداء، وإقرارًا بقدرةِ الإنشاد الدينى على مد ‏جسور التواصل مع جمهور يولى لهذه التعابير الثقافية اهتمامًا ويظهر شغفًا ‏متزايدًا بها.‏

وعندما ذهب لإحياء حفلٍ آخر فى إسبانيا، غمر التعجب أهل قريته «الحواتكة» الذين تساءلوا وقتها «إزّاى شيخ يسافر علشان يغنى للأجانب!»، لكن ما لم يعلمه أهل القرية وقتها أن الشيخ التونى كان يريد من خلال الإنشاد إيصال رسالة التصوّف الإسلامى إلى العالم كله، كما كان يرى أن التصوف مرتبط بالسلام الذى لا يحتاج أُناسًا يتحدثون نفس اللغة التى ينشد بها لكى يفهموه، ومع الوقت تحوّل العجب لفخرٍ بالمنشد الصوفى.

وستظل بصمة الشيخ التونى فى الإنشاد الدينى علامة مسجلة فى تاريخ الإنشاد، فهو المنشد الذى نشر رسالة التصوف التى يحملها، وبلغت عبر صوته مسارح باريس ودول أوروبا والولايات المتحدة ودول الأمريكيتين ودول شمال إفريقيا.

توفى الشيخ التونى يوم 17 مارس عام 2014م، تاركًا وراءه مُحبين كُثُر، قصصهم التى عايشوها معه لا تزال حاضرة، يروونها عند اللزوم، كأنه ترك تفاصيل أكثر رحابة من الأناشيد والغناء.

وفى شهر رمضان الكريم تعود سيرة الشيخ التونى للحياة، فتارة يجتمع أبناء قريته «الحواتكة» فى مركز الشباب لذبح العجول وتوزيعها تصدّقًا على روحه المُتصوّفة وقلبه الذى كان يسع ألفًا من الأحباب، وتارة أخرى يجلس مُحبوه ليسمعوا أناشيده المسجلة، أو يأتى بعض المنشدين ليتغنّوا بأناشيده التى ستبقى تمس العقول والقلوب على مَرّ الزمان.