الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الأيام الأخيرة فى حياة ساقـى الأرواح

الأيام الأخيرة فى حياة ساقـى الأرواح
الأيام الأخيرة فى حياة ساقـى الأرواح


بصوت ملائكى رنان وبأسلوب مميز عرف به، تربع الشيخ أحمد التونى على عرش المديح والإنشاد لسنوات طويلة، ومن قرية الحواتكة مركز منفلوط بالصعيد علا صوته ليفرض نفسه على الساحة ليصبح أشهر وأكبر منشدى الصعيد، حيث أطلق عليه لقب «ساقى الأرواح» و«سلطان المنشدين»، واستطاع بأدائه المتميز الخروج من المحلية إلى العالمية بمشاركته فى العديد من المهرجانات الموسيقية فى أوروبا والولايات المتحدة والبرازيل والأرجنتين وسائر دول شمال أفريقيا، بالإضافة إلى سوريا حتى إن له تمثالا يحمل اسمه فى باريس..
 
 وكانت له الكاريزما فى أسلوب مديحه مما جمع حوله العشاق لهذا الفن الأصيل، وحمل طابعا خاصا بمزجه اللغة العامية باللغة الفصحى وكان الوحيد الذى علا مديحه بالوحدة الوطنية، وبتوجيه مدحه للسيد المسيح، والسيدة العذراء ليكون أول مداح يصمم على الاحتفاظ بالخاصية والحضارة المصرية فميز المديح المصرى عن غيره من المديح الصوفى.
 
وبرحيله منذ أيام كانت الحواتكة مسقط رأسه بمثابة جمع كبير لكل مريديه وعشاقه لتقديم العزاء، وكان من الضرورى الاقتراب من العزاء الذى كان أشبه بعرس كبير - على حد وصف ابنه المنشد محمود التونى - حيث اجتمع فيه محبوه وتلامذته وعلى رأسهم الشيخ ياسين التهامى.. وكنا شغوفين بالتعرف على شخصية الشيخ التونى وتفاصيل أيامه الأخيرة من ابنه الملاصق له فى كل تحركاته وأثناء فترة مرضه الشيخ محمود التونى فكان لنا معه هذا الحوار:
 
∎ حدثنا عن إحساسك اليوم بعد عودتك من جنازة والدك الشيخ التونى وقد كنت من أقرب الناس له بشهادة كل من يعرف الشيخ رحمه الله؟
 
- وفاة الشيخ التونى كانت حالة خاصة فلم أكن اليوم فى جنازة، بل فى «فرح» نعم فرح إنه كان مقاماً فى مركز شباب اختاره أهل البلد ومحبو الشيخ ولم يكن لى رأى ولا للعائلة حتى إن الصف الأول من متلقى العزاء لم نكن نحن، وإنما محبوه كالشيخ ياسين التهامى واستقبلنا ناس غريبة عن البلد من أماكن بعيدة ومختلفة جمعهم حب الشيخ ملأوا مركز الشباب وكأنها ليست وفاة وإنما بالفعل عرس كبير فى حب الشيخ فلم أقبل فيه تعازى فهو فى فرحة تمام رسالته وحسنت خاتمته ومن يحزن فهو أنانى ولم أرض أن أبكى فلو بكيت لكان كل عشاقه انهاروا، لذا لم أنزل معه للقبر وخفت ألا أصمد فأبكى ولم أتقمص دور أن أصبر الناس ومن يقول «اقرأ له الفاتحة» أرد أنه هو من قرأ الفاتحة علينا جميعا.
 
∎ كنت من الملاصقين للشيخ فى أيامه الأخيرة وفترة مرضه كلمنا عن تلك الفترة؟
 
- أعتقد أن معاصرتى للشيخ فى مرضه نفحة اختصنى الله بها، وكنت قد أغلقت تليفونات الشيخ فى فترة مرضه الأخير حتى لا يسمع أحد صوته وهو مريض لأنه لا يريد أن يحزن عليه أحد فقد كان يشفق حتى علىّ أنا من رؤيته مريضا، ودعينى أخبرك أننى كنت أطهر قدميه طول الوقت وكأننى أدمنت تطهيرهما بالفعل من التقرحات التى يسببها مرض السكر وكان يحاول منعى ويخاف علىّ من أن أشعر بتألمه فكان يغنى للشيخ مصطفى إسماعيل طول الوقت ليثبت أنه موجود ثم يدخل فى غيبوبة السكر التى تلازمه ثم لا يلبث أن يغنى للشيخ مصطفى إسماعيل ليطمئننى وكان دائم التلاوة للآية الكريمة «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم فإن تولوا فقل حسبى الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم» وأقسم بالله أنه كان يكررها خلال الأربعين يوما الأخيرة مع كل نفس كررها أكثر من 1500 مرة فى اليوم وكنت عندما أقول له يا مولانا انتظر لا تتحدث لتستطيع التنفس يعلو صوته: «لا..لا أوصيك بها يا بنى لو بتموت قلها» ومن عشقه للشيخ مصطفى إسماعيل كان طوال الوقت يريد أن يستمع إلى إنشاده وإلى تلاوته    لسورة مريم، مما جعلنى أشغلها له على جهاز بسيط وبسبب انقطاع النور الذى كان يمنع تشغيل الجهاز نزلت موقعا كاملا لحفلات الشيخ مصطفى إسماعيل، وكان عند انتهاء الآيات يتنبه الشيخ التونى ويخبرنى بالعودة للبداية ويقول: «أقسم بالله يا محمود الشيخ مصطفى إسماعيل أزاح عنى الألم ويغنينى عن الأكل والشرب والعلاج»، وكان فى عز مرضه إذا زاره أحد أكثر ما يضايقه أن يظل أحد واقفا لا يجلس أو لا يشرب الشاى ويأخذ واجبه ولآخر الوقت يظهر صامداً رغم ألمه.
 
∎ وماذا كانت أقرب أناشيده لقلبه؟
 
- كان يردد قبل وفاته مباشرة بساعات «اللى يفوح العشق من قدمه» واكتشفت معناها اليوم بعد وفاته عندما أكد أكثر من ستين فردا شاهد على ما حدث منهم الشيخ ياسين التهامى أن بعد نزوله للقبر فاحت رائحة المسك على الناس كلها وأقسم بالله أن ساعة الغسل لم يكن هناك أى من تقرحات السكر التى كانت موجودة وكأنها كلها اختفت وحلت محلها رائحة المسك.
 
∎ كلمنا عن حياته وعشقه للإنشاد وهل كان يشغله مستقبل الإنشاد فى مصر؟
 
- أبى هو «الرجل الذى لا يحزن» فمنذ ساعة ولادتى لم أره قد حزن يوماً قط، بل عاش ومات ولم تشغله هموم الدنيا. كان أهم ما يشغله هو أن يقف لينشد ولم يكن يتشبع من الإنشاد قط وكل ليلة يحييها كأنها أهم ليلة فى حياته وفى عز مرضه فى آخر أيامه كان يسألنى عن الليلة التى كان سيحييها يوم 2 أبريل القادم فى نزلة عبدالله بأسيوط ويسألنى كم بقى عليها لالتزامه الشديد ويعد الأيام على أصابعه رغم تأخر حالته، ولكنه هو كان عشقه للإنشاد يفوق أى شىء، وكان أيضا لا يفرق معه سن فقد كان شاباً فى الخامسة والتسعين من عمره وآخر ليلة أداها كانت منذ خمسة عشر يوما على كرسى.. أما عن قلقه من حال المنشدين فلو كنت قلت هذا أثناء حياته من باب الدعاية إلا أننى بعد وفاته سأكون دقيقاً ولن أتفوه بحرف واحد غير صحيح فالشيخ التونى لم يشغله حال الدنيا وهمومها، إنما يشغله أن ينشد كل ليلة كأهم ليلة وشغله عشقه عن كل شىء.
 
∎ كيف كنت تشاركه الإنشاد وتؤدى أمامه وكيف ستسير على نهجه بعد وفاته وتحيى ذكراه؟
 
- كنت دائماً أذهب معه حتى إن تعب أقوم مكانه بإحياء الليلة ولكن بصدق كنت أذهب كثيراً بالقميص والبنطلون حتى يصعب أن أغنى بدلا منه لأننى سأكون فاشلا بالعشرة أمام الشيخ التونى، وفى الليلة التى كان مقدرا أن تكون فى أبريل القادم طلبت ألا تكون الدعوة موجهة لى وإنما أوصيتهم بأن تكون للشيخ التونى وابنه فكيف أنشد فى حضوره وكيف أقول «فى الخمر يا ليل» والشيخ موجود فهو الأصل، ولكن بعد وفاته بعدما رأيت أن الناس من ثانى أيام الوفاة تعزى وتتوسل لأى رائحة من الشيخ التونى وكنت أتوقع انقطاع هذا الطلب بعد وفاته إلا أننى فوجئت فى الخمس عشرة ليلة العزاء الناس تقول: «هذا هو الشيخ التونى» وحباً فى الشيخ سأراضى الناس وإذا كان لى أسلوبى سابقاً إلا أننى سأتقمص حركاته وأداءه وكلماته حتى لفة الشال الخاصة به سأقلدها وأتقن لأوصل معنى وليس جملا،   وسأعطى من وقتى لاستقبال المحبين كما كان يفعل ولن أعبأ كم سيكلفنى هذا من وقت، بل سأجامل محبيه على حساب وقتى مع أولادى وأقابلهم كما كان يفعل ولن ألتفت للماديات كما كان يفعل فى صحته فقد كان «يبوظ أى اتفاق» فبعد اتفاقى أنا على الماديات يمسك بسماعة التليفون ويجعل الاتفاق نصف الثمن.
 
وسأعمل خلال العشرين يوماً القادمة على إنهاء الكتاب الذى أعمل عليه منذ فترة وبدأته بالفعل حول حياة الشيخ ونشأته وقصة كفاحه وعن فترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات فى حياته وسفرياته، وسأنهيه بالفصل الأخير حول فترة مرضه ووفاته وسأقدمه لكل محبيه ومريديه فأولاد الشيخ أكثر منى بكثير وسأستعين بهم فى اختيار اسم الكتاب وسيكون إن شاء الله يوم 28 أبريل يوم تكريم الشيخ التونى بدار الأوبرا المصرية وسنحيى الليلة لكل محبيه وعاشقيه.
 
∎ هل ترى من أولادك من يشبه والدك وتتنبأ بأنه سيسير على نهجه؟
 
- ابنى يوسف الأصغر بين أولادى الثلاثة عامان ونصف العام، كان دائما ما يقفز فوق كتفى جده وينادى الشيخ التونى قائلا: «طلعه يا محمود من الغرفة»، ثم لا يلبث بعد أن أخرجه أن ينادى جده عليه «يا يوسف تعال» أشعر بأن به نفحة من والدى وكان دائماً ينادى على جده كما يطلق عليه الناس: «عم الشيخ أحمد».