السبت 11 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الحكيم يبدأ المعركة

لم تتأخر الحرب كثيرًا ضد «جمال عبدالناصر» فقد بدأت بعد شهور من وفاته بانقلاب السادات الشهير بـ « ثورة التصحيح » فى 15 مايو عام 1971 والذى بدأت معه مصر عهدا آخر قال عنه المصريون وعلى سبيل السخرية كعادتهم: «السادات ماشى على خط جمال عبدالناصر بأستيكة». ومنذ رحيل عبدالناصر لم تهدأ المعركة ضده، تلك المعركة التى يهيل فيها خصوم «عبدالناصر» التراب على مجمل التجربة وعلى ما تم إنجازه فيها سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا. 



لم تبدأ الحرب على عبدالناصر، وبالتالى الدفاع عنه، وعن تجربته فى حكم مصر بداية هادئة فقد أشعلها «توفيق الحكيم» وهو الكاتب الكبير، الذى يعنى دخوله حلبة الهجوم، التأسيس والإعلان عن انتقال البلاد إلى مرحلة أخرى، وهو ما حدث بالفعل. وكان أن أطلق الكاتب الكبير مدفعيته الثقيلة، التى تستمد ثقلها من اسمه ومكانته ضد «عبدالناصر» بعد وفاته بعام وعشرة أشهر فى كتابه الشهير «عودة الوعى» وفيه  يرصد الكاتب ويقيم عشرين عامًا من تاريخ مصر، أى منذ قيام ثورة يوليو 1952 وحتى يوليو 1972. وعن الكتاب يقول مؤلفه: «هذه السطور ليست تاريخًا، هى مشاهد ومشاعر استرجعت من الذاكرة ولا يستند إلى أى مرجع آخر للفترة ما بين هذين التاريخين من يوم الأربعاء 23 يوليو عام 1952 إلى يوم الأحد 23 يوليو عام 1972». بالفعل لا يضم الكتاب وثيقة واحدة ويعتمد فى معلوماته على الأقوال المتداولة ومشاعره الشخصية، والكتاب يشرح كيف أن وعى المصريين كان مفقودًا طوال عهد «عبدالناصر» وقد عاد للشعب وعيه بعد وفاته.

 أو بعد أن استقر السادات على مقعد الحكم وعن هذا الوعى المفقود يقول الحكيم فى كتابه: «لقد بهرنا - يقصد عبدالناصر- وجعلنا نسير خلف هذه الثورة بغير وعى»، ويضيف لتأكيد حالة فقدان الوعى أو الاستلاب: «كنا نحبه، ولا نعرف دخيلة فكره، ولا الدوافع الحقيقية لتصرفاته. كان القلب منا يخترق الستار إليه ولكن العقل ظل بمعزل عنه».

ويستعرض الحكيم فى كتابه كيف أن الثورة أو «عبدالناصر» تحديدًا قد قضى على السياسة: «ومن يدرس بعناية الأحداث السياسية والعسكرية والاجتماعية التى وقعت فى مصر، يجد أن المحرك الخفى الحقيقى لها كان هو الانفعال ورد الفعل وليس التفكير الهادئ الرصين المبنى على بعد النظر. عبدالناصر لم يكن رجلاً سياسيًا ولم تكن له طبيعة الرجل السياسى».

الطبل والزمر

 ويواصل الكاتب الكبير شارحًا  كيف أن عبدالناصر «أصبح معبودًا» وفقًا لتشخيص الحكيم للوضع وكيف أصبح الشعب فاقدًا للوعى فيقول: «وجعلتنا أجهزة الدعاية الواسعة بطبلها وزمرها وأناشيدها وأغانيها وأفلامها، نرى أنفسنا دولة صناعية كبرى، ورائدة العالم النامى فى الإصلاح الزراعى، وقوة ضاربة فى الشرق الأوسط».

ومن تجليات الخديعة والدليل الدامغ عليها أن الشعب آمن بمشروع السد العالى فيقول: «هو مشروع كان موجودًا فى أدراج حكوماتنا السابقة، ولكن الثورة تبنته فآمنا به جميعًا. ولم نسمع بأحد عارضه إلا مهندس كبير هو الأستاذ الدكتور عبدالعزيز أحمد، ويظهر أنه أحس بغضب الثورة عليه، فغادر البلاد ولم نعرف بشكل مفصل أسباب معارضته للمشروع، لأن الآراء المعارضة حتى فى المسائل العلمية لا تأخذ حظها فى النشر».

ويكشف «الحكيم» عن أداة أخرى من أدوات «عبدالناصر» استخدمها حتى يفقد الشعب وعيه ألا وهى «تأميم قناة السويس» فيقول: «صدر قرار تأميم قناة السويس مع دفع التعويضات فى وقت لم يبق فيه سوى أقل من عشرة أعوام، لانتهاء امتياز هذه القناة وعودتها قانونا إلى ملكية مصر «بالمناسبة مازال خصوم عبدالناصر يرددون  نفس الرأى بِشأن السد العالى وتأميم القناة»، وفى تقييمه للمكاسب الاجتماعية للثورة، وهى كما يراها من الأدوات التى أفقدت الشعب وعيه، فيرى أن الإصلاح الزراعى لم يغير وضع الفلاح البائس، وأن التأميم والاشتراكية ماهى إلا إزاحة طبقة لتحل محلها طبقة أخرى، ولم ير فى إقامة المصانع سوى لافتات مكتوب عليها أسماء شركات.

سقط مغشيًا عليه

ولم يترك الحروب التى خاضتها مصر فى فترة حكم عبدالناصر دون أن يدلى بدلوه فيها.  مؤكدًا أن عبدالناصر ليس رجل حرب وأن أقصى ما يقدر عليه هو «التهويش بالحرب» استخدم الكلمتين أكثر من مرة «التهويش بالحرب»، ولكننا لا بد أن نذكر أنه وقبل أن يعود له وعيه قال فى رثاء عبدالناصر: «لقد دخل الحزن كل بيت تفجعًا عليك لأن كل بيت فيه قطعة منك لأن كل فرد قد وضع من قلبه لبنة فى صرح بنائك»، وفى يوم تأبينه «سقط مغشيًا عليه».

«العالم» يرد على الحكيم

 لم يمر كتاب الحكيم بهدوء، بل أثار عاصفة من الهجوم والنقد والرد من كتاب ومفكرين، ليس فقط من انتموا للفكر الناصرى، بل تم الرد أيضًا من بعض ممن اختلفوا مع عبدالناصر، ومنهم من سجن فى عهده ومن هؤلاء الكاتب والمفكر الكبير الشيوعى الذى اعتقل فى سجون «عبدالناصر» «محمود أمين العالم».

فى إطار تحليله لأعمال «الحكيم» فى كتابه «توفيق الحكيم مفكرًا وفنانًا» ومن بعض ما جاء فيه: «وعندما مات عبدالناصر عام 1970 أصدر فى ظل المرحلة الجديدة كتاب «عودة الوعى» يدين التجربة الناصرية، ويتهمها بأنها لم تكن إلا سلطة قمع، وأن الشعب فقد خلالها وعيه.. على أن الكتاب فى الحقيقة يتجنى على المرحلة الناصرية فهو لا يكاد يكشف فيها غير السلبيات، وهو فى نقده للسلبيات لا يحسن تحليلها اجتماعيًا وتاريخيًا، وإنما يكاد يردها جميعًا إلى شخص جمال عبدالناصر، وهو لا يكاد يبصر الدلالة الوطنية التقدمية لهذه المرحلة الناصرية، بل يكاد يغض من قيمة بعض منجزاتها العظيمة».

ويضيف العالم: «ولكن صدور هذا الكتاب فى مرحلة أخذت تتكالب فيها الرجعية الداخلية والإمبريالية العالمية، للانتكاس بكل منجزات المرحلة الناصرية، بل لضرب ثورة مصر الوطنية الديمقراطية، وإعادتها مرة أخرى إلى حظيرة التبعية يجعل من هذا الكتاب ومن اسم توفيق الحكيم، سلاحًا مسمومًا.

وتواصلت المعركة التى تم تسجيل وقائعها على صفحات الجرائد وفى صفحات الكتب ومن أهمها  كتاب «الوعى المفقود» للمفكر الناصرى «محمد عودة»، وكما رد الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل ود . لطيفة الزيات وغيرهما.  لا تتسع المساحة المتاحة لعرضها، هى إذا معركة  بدأت ومازالت مستمرة منذ نصف قرن وتتجدد على الأقل ثلاث مرات فى السنة.