السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

«ثرية وقوية.. وشابها أخطاء»

امتازت معظم مبادئ ثورة يوليو 1952 بأن عددا كبيرا منها كان له طبيعة اقتصادية، مثل القضاء على الإقطاع، وسيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة الاقتصاد، واستمرت محاولات تطبيقها طوال فترة حكم عبدالناصر الثمانى عشرة سنة، كانت فى مجملها إيجابية، ولكنها مثل كل التجارب والخبرات، لها وجه سلبى.. . ولأن التاريخ لايزال كتاباص مفتوحا، كما يقول المفكر الاقتصادى،  ووزير التضامن الاجتماعى والتموين الأسبق.  د. جودة عبدالخالق، معترفا بأنه مدين لنظام عبدالناصر بما هو فيه، ولكنه يحاول أن يكون موضوعيا فى إعادة قراءة التجربة.



 

«سعى عبد الناصر لتحقيق الاستقلال الوطنى، الذى لم يكن ليتحقق بمعزل عن البعد الاقتصادى، وتوسيع تنوع القاعدة الاقتصادية والاهتمام بالزراعة وبالصناعة،  بالإضافة لدور الدولة النشط مع القطاع الخاص، ولم يكن ضد القطاع الخاص - وهذه نقطة يجب أن تحسب فى سجل عبدالناصر- بل كان يخطب وده منذ عام 1952ويعلق عليه آمالاعريضة». ظل هذا الوضع حتى بدأ تطبيق الخطة الخمسية الأولى  للتنمية  الاقتصادية والاجتماعية عام 1957  بالتركيز على التصنيع  فى ظل الكثير من التوقعات والحسابات الخاصة بالقطاع الخاص، إلا أن القطاع الخاص نفسه تردد ولم يتجاوب.

وكما يشرح د. جودة: تحقق معدل كبير للنمو الاقتصادى  فى مصر، بلغ 7 % على مدى سنوات الخطة الخمسية، وفقا لرأى بعض الخبراء غير المصريين مثل السويدى بنت هانسن Bent Hansen  صاحب واحدة من الدراسات المهمة التى ذكر فيها أن الاقتصاد المصرى بقى يراوح مكانه على امتداد نصف القرن السابق لعام 1952، بينما عمل عبدالناصرعلى تحريك الثوابت الاقتصادية بوتيرة سريعة لأول مرة منذ نصف قرن، وقد بنيت القلاع الصناعية بالتوازى مع القاعدة الصناعية التى خلفها طلعت حرب.

ويتابع د. جودة: رغم ما يحسب لعبدالناصر من تحقيق نمو اقتصادى،  وتحسن مستوى العدالة الاجتماعية، لكن المشكلة كانت تكمن فى الخلط بين موقفى الإدارة العامة وإدارة الأعمال. 

«كان التأميم منذ 1960 - 1962 ضربة قاصمة للإنجاز الاقتصادى الذى حققه عبدالناصر، بعدما امتد لنطاقات غير مسبوقة، وطال مشروعات كانت على قدر عال من الكفاءة مثل مجموعة بنك مصر، والمحلة الكبرى، وكفر الدوار وغيرها.

ونشأت سُنة سياسية جديدة بعد التأميم، وهى تعيين أهل الثقة بدلا من أهل الكفاءة، فتراجعت الإنتاجية، وتدهور الوضع الاقتصادى وقلت أرباح المشروعات بل تحول الكثير منها لخسائر، ولم يكن السبب فى طبيعة القطاع العام، بل فى أسلوب التطبيق الذى تم بهذه الطريقة».

أما ما يخص الإصلاح الزراعى،  فإجراءاته كانت سريعة جدا، حيث اتخذت بعد شهرين من الثورة، ولا أحد ينكر أنه قانون جيد وله مبرراته، ولكن المشكلة إن ذلك القانون لم يراعِ الخيط الرفيع بين الصواب والخطأ، حيث نصت إحدى مواده على تأبيد العلاقة التجارية بين من يملك عقد إيجار أرض فيملكه للأبد هو وورثته وورثة ورثته، مع قدر من تجميد الإيجارات الزراعية، فبدأت عيوب هذا النظام تظهر مع الوقت، وصارت قوة مستأجر الأرض أكبر من قوة مالكها فاختلت العلاقة الإيجارية.

أما سوق الإسكان، فبدأ التدخل الحكومى بتحديد قيمة الإيجارات، فكانت المحصلة هى نتيجة تفاعل قيمة قوى العرض والطلب، ما تسبب فى الإقلال من العائد على المستثمر، فانخفض العرض، وحينما بدأ المعروض من الوحدات السكنية يقل، ظهر موضوع خلو الرجل، إلى أن انتهينا بالتمليك. 

ويختتم جودة: «تجربة عبدالناصر تجربة ثرية ومتميزة فى وقتها، وإذا كان قد شابها أخطاء، لا بد من دراستها، بكل ما لها وما عليها».

واقع وإمكانيات.. رغم نبل الأهداف

أما الخبيرة الاقتصادية د.سلوى العنترى،  فتؤكد على ما أقرته العديد من المصادر المعنية، بأن الفترة الناصرية شهدت نقلة نوعية وتحسنا فى حياة الناس، وحدوث تغيير حقيقى فى حياة القاعدة العريضة من أبناء الطبقة المتوسطة، وازدياد متوسط  دخل العاملين فى الزراعة والصناعة والعاملين فى الحكومة، وحدوث حراك اجتماعى أدى لانتقالهم من طبقة إلى طبقة، ومن شرائح دنيا لشرائح متوسطة، بل استطاع أولاد الناس العاديين فى تلك الفترة أن يصلوا للمناصب المرتفعة، تحقيقا لمبدأ تكافؤ الفرص. وهكذا ارتفع مستوى معيشة الناس فى الطعام، والملبس، والمسكن، وتعليم الأولاد، والعلاج، وإيجاد عمل للخريجين، مع تيسير فرص الزواج وبناء بيت، ورغم ذلك النجاح، تقول د.سلوى.. لم تخل التجربة الناصرية من بعض الأخطاء الخارجية والداخلية، التى أدت فى النهاية لانحسارها وعدم استمرارها.

أما استمرار تقييم التجربة الناصرية والبحث عن آثارها لوقتنا هذا، فيعنى أنها ضخمة ومؤثرة فى عمق المجتمع المصرى رغم مرور 68 سنة على وقوعها.

«عملت موازنة التجربة الناصرية لصالح الأجيال الحاضرة حينها على حساب المستقبل، دون معرفة  إلى أى مدى كان هذا الاختيار سليما وفقا لآراء الاقتصاديين وحسابات التوفيق بين الجيلين».

وتستدرك: منذ عام 1967 كان لدينا الوعى بالقوى الخارجية التى تستهدفنا، ولكن الخطر كان من الأخطاء فى الداخل، وكان أبرز ها الطموح الشديد، والسباق مع الزمن لإحداث أكبر إنجازات وتغيرات ممكن حدوثها فى حياة الناس فى أقل فترة زمنية ممكنة، حيث لم تتفق هذه الطموحات مع الواقع الاقتصادى والقدرات الخاصة بالبلد فى ذلك الوقت، فرغم نبل الأهداف.. كان هناك شيء لا يجب إغفاله اسمه الواقع والإمكانيات.

أما الخطأ الآخر فى رأى د. سلوى، فكان بعدما أحدثت مجانية التعليم نقلة نوعية، واحتاج الكثير من الخريجين للعمل الذى يناسب مؤهلاتهم، فأجبر النظام على تحميل المشروعات العامة- سواء شركات صناعية أو  بالجهاز الحكومى للدولة  بهؤلاء الخريجين، وكان هذا عبئا جديداعلى الموازنة العامة للدولة، على حساب الموارد التى كان يجب أن تذهب للاستثمار والتنمية والمشروعات الضخمة التى كان من المقرر تنفيذها.

وهكذا لم يزد الإنتاج بنفس معدل زيادة الدخل فتولدت الفجوة الكبيرة بين القوة الشرائية وبين الإنتاج الموجود.

الرقابة الشعبية

فى ورقته البحثية، بعنوان «التوجهات الاجتماعية لجمال عبدالناصر» تناول دكتور محمد نور الدين المدير السابق للبحوث الاقتصادية بالبنك العربى (مصر) العديد من القضايا التى تلامست مع التجربة الاقتصادية الناصرية، بدءا بتجربة القطاع العام، الذى أكد أن هيمنة البيروقراطية، بالإضافة لغياب المشاركة والرقابة الشعبية هى التى أفسدت جوهر التجربة الاقتصادية فى ذلك الوقت، الذى شهد إقامة قطاع عام قوى ينتج ما يشبع الحاجات المحلية للسكان بأسعار تتناسب مع دخولهم وفق خطة محددة، وتحقق وحداته نوعا من التكامل فيما بينها!

إلا أن هذه التجربة رغم كل ما يمكن أن يوجه إليها من نقد.. فقد استطاعت تحقيق معدلات نمو معقولة خاصة فى النصف الأول من الستينيات، والأهم أنها مكنت الحكومة من التوسع فى اتخاذ القرارات المستقلة نسبيا عن السوق الدولية، فتمكنت من رفض المعونات المشروطة، وواجهت الضغوط الدولية. ورغم هزيمة 1967؛ فإن هذه التجربة هى التى مكنت مصر من الصمود طوال سنوات حرب الاستنزاف، وحرب أكتوبر 1973!

على أن الأهم فعلا كان هو التغير الذى طرأ على أوضاع الفلاح المصرى وأسرته حيث تم إنشاء المدارس والوحدات الصحية وارتفعت نسبة الوعى ومعدلات التعليم وتحسنت الأوضاع الصحية والاقتصادية فى الريف.

كما كانت السلطة الجديدة تعطى الأولوية لإحكام سيطرتها على البلاد، وبعد نجاحها فى كبح وتقييد نشاط النقابات العمالية؛ عملت على استرضاء الطبقة العاملة، فقامت برفع الحد الأدنى للأجور، كما التزمت الدولة منذ 1962 بتعيين جميع الخريجين، وأصبح فصل العامل فى حكم المستحيل من الناحية القانونية.

أما أحد التوجهات التى تُذكر بشدة لعبدالناصر، فهى قيامه بتعميم نظام التأمينات الاجتماعية منذ 1964.

أدرك عبدالناصر أن الطريق الحقيقى لإحداث تنمية اقتصادية فى مصر لا بد أن يتحقق عن طريق الإنتاج الصناعى لا الزراعى، وكان تبنى جمال عبدالناصر لرؤية التصنيع، ضربة شديدة للآراء المحلية والعالمية التى كانت ترى أن مصر بلد زراعى.

 طالب عبدالناصر بتذويب الفوارق بين الطبقات!. ففرض الضرائب التصاعدية، والضرائب النوعية،  إلا أن المعادلة تضمنت ضرورة تغاضى المواطنين عن غياب الديمقراطية والمشاركة السياسية، مثلما تطلبت تغاضى العمال عن حق تنظيم النقابات المستقلة،  وعن حق الإضراب والتظاهر من أجل مشروع قومى دغدغ أحلامهم فى التنمية والعدالة، وفى تحقيق كرامة الوطن، وارتقائه بين دول العالم وامتلاك صوت عال  للدفاع عن حرية الشعوب واستقلالها.