الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

 هجاء ثم رثاء بنفس الحرارة

 أبوه صعيدى وفهم قام طلعه ظابط / ظبط على قدنا وع المزاج ظابط



فاجومى من جنسنا/ ما لوش مرا عابت/ فلاح قليل الحيا/ إذا الكلاب سابت

ولا يطاطيش للعدا/ مهما السهام صابت/ عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت/ وعاش ومات وسطنا/ على طبعنا ثابت/ وان كان جرح قلبنا كل الجراح طابت/ ولا يطولوه العدا/ مهما الأمور / جابت.

     أبيات نظمها الراحل أحمد فؤاد نجم فى رثاء الزعيم جمال عبدالناصر، لم تخل من ألم وحزن تملك الشاعر العامى الذى لم يسلم من السجن فى عهده، كما لم يسلم فؤاد حداد صاحب ديوان «استشهاد جمال عبدالناصر».

  شخصية ناصر الجدلية امتدت إلى الأوساط الأدبية، للدرجة التى جعلت أكثر من شاعر يهاجمه ويتعرض للسجن فى عهده، ثم يرثيه بنفس الحرقة والشاعرية، ولا يوجد أدل من تعبير نجم «وإن كان جرح قلبنا كل الجراح طابت». ربما جرحت نجم وحداد وقبانى النكسة وحرب اليمن، لكن الجرح لم يعميهم عن السد العالى ورفض الخضوع وتأميم القناة.

 د.صلاح السروى أستاذ الأدب المقارن والحديث بجامعة حلوان، يتوقف عند الشعراء الذين مدح بعضم عبد الناصر فى حياته، ثم نقدوه بعد مماته. «غالبية الشعراء والكتاب الذين انتقدوه فى حياته اهتزوا بشدة لوفاته، وكتبوا قصائد رثاء بالغة القوة منهم صلاح عبد الصبور ونزار قبانى الذى هجاه بعد قبول معاهدة روجرز، ثم رثاه ب «الهرم الرابع مات» و«قتلناك يا آخر الأنبياء»، ومثلهم عبدالرحمن الأبنودى وفؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم، نجد عندهم نفس الموقفين رغم تعرض الأبنودى ونجم للسجن بل التعذيب مثل حداد».

 إذًا فظاهرة هجاء ناصر ثم رثائه بنفس الحرارة، تواجدت بأمثلة عديدة على الساحة الأدبية فى جدل يفكك السروى غموضه بعدة اسباب:

 أولًا :موضوعية هؤلاء الشعراء أثناء النظر إلى تجربة ثورة يوليو بشكل عام والناصرية بشكل خاص. رغم مواقفهم الشخصية مع الفترة الناصرية وما لاقوه فيها، إلا أنهم غلبوا الروح الوطنية وجنبوا الشخصنة والذاتية فنظروا إلى التجربة الناصرية بمعزل عن آلامهم الخاصة.

  ثانيا: الفجيعة بمصاب الأمة برحيله، لأنه لم يكن رئيسًا عاديًا فى ظروف عادية، كان استثنائيا، قلب الواقع رأسًا على عقب محققًا ثورة اجتماعية وسياسية كبرى فى الداخل المصرى. بدأت بالإصلاح الزراعى والقضاء على الإقطاعية ثم الجلاء والموقف البطولى بتأميم قناة السويس، ثم العدوان الثلاثى 56 والوحدة وثورة التصنيع، كلها محطات كبرى غيرت الحياة فى الداخل وامتدت آثارها على الخارج أيضًا مثل موقفه مع حركات التحرر فى أفريقيا والعالم الثالث، لدرجة أننا نجد الاحتفاء بعبد الناصر فى بلدان أمريكا اللاتينية وأفريقيا بل بعض بلدان آسيا يكاد يفوق الاحتفاء به فى مصر. 

 مثل هذه الشخصية كان من الطبيعى أن يقف الناس إزاءها موقف المأخوذ والمؤيد والمعارض فى ذات الوقت، المؤيد يدعم بوجه عام الثورة ونشيدها للحرية والعدالة، والمعارض ينتقد بعض الإجراءات التى قد تبدو مجافية لمنطق العدالة. 

 ثالثا:  عبدالناصر يشبه البطل التراجيدى بالمعنى الإغريقى للكلمة، شخصية نبيلة تهدف أسبابًا سامية، لكنه يخطئ وتفلت منه بعض الأشياء، ونتيجة لذلك يلقى عقابًا فادحًا مثل نكسة 67، أو حتى رحيله المشكوك فى طبيعته بالسم أم بالوفاة الطبيعية وهو أمر مازال قيد الاختلاف.

  تلك الشخصية التراجيدية تدعو للتعاطف كما أوضح أرسطو فى كتابه فن الشعر، شخصية البطل النبيل تؤدى لإثارة عاطفتى الخوف والشفقة، حتى أن عبد الله السناوى شبهه بـ «أخيل» أحد أبطال الميثولوجيا الإغريقية بطل شجاع خالد، لكنه يمتلك نقطة ضعف لا تذكر فى عقبه -كعبه- أُجهِزَ عليه منها.

 شخصية ناصر تدعو للاحترام والإجلال فى مسعاه الحميد لكنها لا تمنع الخلاف معه فى بعض النقاط، وكان هذا هو السبب الذى دفع الشعراء للتعاطف الإنسانى مع وفاته.

 رابعا:  أن ناصر قدم من الإنجازات ما عجز كثيرون عن أن يأتوا به فى مدة أطول من الـ 14 عامًا التى قضاها فى الحكم، لازالت إنجازاته شاهدة عليه حتى الآن، وأهمها السد العالى الذى يذكرنا مشهد الفيضانات المؤلم فى السودان بأهميته.

 توافقت شخصية ناصر الساعية نحو الحرية والعدالة والنقمة على الاستعمار مع أهداف الفن، من جمال وانتصار للإنسانية، فكان موقف الكتاب تجاهه على محورين شخصى وإنسانى بشكل عام، منهم من غلب الموقف الشخصى إن كان أُضِير فى ماله أو حريته ومنهم من غلب الجانب الإنسانى وإن لم ينس الجرح الذى تعرض له فى حقبته كما أشار نجم «وإن كان جرحنا كل الجراح طابت»، كان موقفه متناقضا نسبيًا إلا إنه منصف، تعامل مع الموقف من منطلق الضمير لا من منطلق الانفعال.

امتاز عبد الناصر بحضور آسر، بطوله الفارع ونظرته الثاقبة ووجهه المعبر والملاحة المصرية السمراء جعلت الكثيرين يرونه المُخَلِص كما قالت أم كلثوم «البطل اللى جابه القدر». قوة إقناعه وحميميته الخاصة فى لقائه مع الجماهير، بل مع الكثير من الشخصيات التى كتبت عن حضوره الطاغى، فكان من الصعب على الكثيرين ألا يتعاطفوا معه ومع توجهه الوطنى النهضوى فغفروا له أخطائه.