السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

إعادة قراءة الموقف الأمريكى من السد

بالإنسان ترتقى الأمم. وبالذاكرة تنهض الشعوب. وبالتاريخ تنشط الذاكرة.  وإهمال التاريخ يعنى تفريغ الذاكرة الوطنية. فأمة بلا ذاكرة أشبه بقارب يبحر فى مياه متلاطمة الأمواج بلا بوصلة أو دفة أو رَفَّاص. فتكون عُرْضَة للهلاك. ومن هنا كانت الأهمية البالغة للتاريخ. فبدراسة التاريخ نُثَمِّن النجاحات السابقة، فنبنى عليها ونتحرك إلى الأمام. فنتقدم.



 

 وبدراسة التاريخ نستفيد من أخطاء الماضى، فلا نكررها فندفع الثمن مضاعفا (تذكر الحكمة التى تقول إنه لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين).وفى هذا السياق، نذكر أنه فى مثل هذه الأيام منذ نصف قرن، تم بالفعل إتمام مشروع السد العالى. ذلك المشروع الذى راود المصريين لسنوات وسنوات. الآن تحل ذكرى اليوبيل الذهبى للسد العالى، أكبر المشروعات القومية لمصر على الإطلاق وواحد من أعظم مشروعات سدود الأنهار خلال القرن العشرين.  فقد اكتمل العمل فى المشروع فى 15 يوليو 1970، وتم افتتاحه رسميًا فى يناير 1971. ولكن للأسف لم يُقدَّر لعبدالناصر افتتاح المشروع الذى بدأه ودشنه وناضل من أجله! «زى اللى غرق داره»

 لقد كان إنشاء السد ملحمة مصرية وإنسانية بكل معنى الكلمة. حلمنا به زمنا طويلا ليحمينا من غوائل الفيضان والجفاف (السنوات السمان والسنوات العجاف). وما زلت أذكر سنوات الطفولة والصبا فى قريتى ميت العز الواقعة مباشرة على فرع دمياط، عندما كان أهل القرية جميعًا يسهرون طوال الليل وقت الفيضان  لحراسة الجسر الذى يحمى القرية من مياه النيل. كما ما زلت أذكر المثل القائل « قاعد متنكد زى اللى غرق داره» وكانت لنا أغان وأهازيج نشدو بها لرفع درجة الحماس ونشر اليقظة والانتباه ولتقوية الشعور بالتضامن إزاء التهديد الوجودى الماثل خلف الجسر.

 فى كفاحنا لإنجاز المشروع عشنا أيامًا حلوة وأيامًا مرة. هتفنا خلف عبدالناصر فى 26 يوليو 1956 «تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية»، وغنينا مع عبدالحليم «قلنا ها نبنى وأدى احنا بنينا السد العالى». فى سبيل تحقيق حلم السد العالى، دخلنا معارك دبلوماسية مع القوى الكبرى، وتعرضنا لحصار اقتصادى، وواجهنا حربًا تجارية شنتها علينا الولايات المتحدة الأمريكية (بإغراق السوق العالمية بالقطن الأمريكى لخفض سعر القطن بقصد الإضرار باقتصاد مصر)، وأممنا شركة قناة السويس، وخٌضْنا حربًا ضارية ضد العدوان الثلاثى فى خريف 1956. وبعد نصف قرن من إنشاء السد العالى أرى أن علينا واجبين على الأقل. الواجب الأول هو دراسة موقف الولايات المتحدة الأمريكية  وتأمل دلالاته بمناسبة الخلاف الحالى حول سد النهضة الإثيوبى. والثانى هو مراجعة شاملة للتنظيمات المرتبطة بالسد العالى لتعظيم فوائده وتقليل أضراره.

 إن الموقف الأمريكى الحقيقى من مشروع السد العالى يحتاج إلى دراسة مستفيضة وإعادة قراءة فى ضوء الوثائق الأمريكية السرية المتصلة بمشروع السد العالى خلال الخمسينيات من القرن الماضى.

 فطبقًا لتلك الوثائق، لم تكتف الولايات المتحدة الأمريكية بالإيعاز للبنك الدولى والحكومة البريطانية بسحب عرضهما للمساهمة فى تمويل مشروع السد العالـى. بل إنها تآمرت علينا وسعت فى سرية تآمرية وتكتم شديد إلى تحريض كل من إثيوبيا والسودان على معارضة المشروع وإثارة المشاكل والاعتراض على المشروع فى المحافل الدولية.

 وقد تم رفع غطاء السرية عن هذه الوثائق بالفعل بموجب قانون حرية المعلومات (FOIA) . وهى كنز ثمين لكل دارس جاد للعلاقات المصرية الأمريكية فى تلك الحقبة الحساسة فى ذروة الحرب الباردة بين المعسكرين.

 وعندما كنت أستاذًا زائرًا فى كلية الدراسات الدولية المتقدمة فى واشنطن العاصمة (والتابعة لجامعة جونز هوبكنز) فى العام الجامعى 1988/89 قمت بالاطلاع على تلك الوثائق فى أضابير قسم دار الوثائق القومية (National Archives) فى مكتبة الكونجرس.

الخطة.. «مفاوضات»

 وأود أن أشير بالتحديد إلى البرقية (المرفقة) المرسلة من سفير الولايات المتحدة فى أديس أبابا إلى وزارة الخارجية فى واشنطن بتاريخ 29 مايو 1956. فهذه البرقية وثيقة كاشفة عن النوايا الحقيقية للولايات المتحدة الأمريكية بخصوص قضية مياه النيل. ومن المفيد جدًا قراءتها على خلفية المفاوضات الماراثونية الجارية منذ فترة بين مصر والسودان وإثيوبيا حول  سد النهضة الإثيوبى (انظر صورة البرقية). يقول السفير فى الفقرة 3 من تلك البرقية  بالحرف الواحد: «... إذا أعلنت الخرطوم وأديس أبابا التصريح (الذى نقترحه طبقا  لخطتنا بأن مشروعات مياه النيل يجب أن تناقشها كل دول الحوض) ثم بعده تكون «موافقتنا»، فلن يشك أحد فى المنطقة فى أننا قد دبرنا العملية بأكملها».

 أخيرًا، ومن قبيل أداء فريضة وطنية، فأنا أقوم حاليًا بإعداد كتاب حول هذا الموضوع يكشف النقاب عن محاولات الولايات المتحدة  المستميتة عرقلة تنفيذ المشروع بكل الطرق والوسائل العلنية والسرية. وآمل أن تسمح ظروفى الصحية بالانتهاء من الكتاب ونشره قبل نهاية هذا العام.

«لجنة إعادة كتابة تاريخ الثورة»

  أتمنى ألا يضيع الإعلام الوطنى  هذه المناسبة العظيمة، ويتجاهل حقيقة أن إنجازا عظيما كهذا قد حدث فى مصر بالفعل من نصف قرن!  وأطالبه أن يقوم بواجبه، وأن يبرز أن الشعب هو البطل الحقيقى، لذلك أنتهز هذه المناسبة وأدعو إلى تشكيل لجنة مستقلة لكتابة تاريخنا الحديث (كانت هناك لجنة إعادة كتابة تاريخ ثورة 1952  شكلها الرئيس الراحل أنور السادات فى 1975 برئاسة حسنى مبارك نائب رئيس الجمهورية وقتها. ولكن لم ينشر عن عمل هذه اللجنة شىء يذكر).

أما الواجب الثانى فيقتضى إعادة النظر فى المؤسسات والإجراءات التى اتخذنا لضمان حماية السد والاستفادة من نتائجه فى كل المجالات. هذا موضوع يطول شرحه، لكنى أطرح تساؤلات كرؤوس موضوعات. تم تهجير أهالينا فى النوبة، فهل قدمنا لهم التعويض المناسب عن التضحيات التى قدموها من أجل الوطن؟

 تم بمساعدة كريمة من المجتمع الدولى ممثلا فى هيئة اليونسكو نقل الآثار الواقعة فى طريق مياه بحيرة السد، وأهمها ملحمة نقل معبد  رمسيس الثانى إلى أبو سمبل. فهل نستثمر هذا العمل الجبار ونحن نحتفل باليوبيل الذهبى للسد؟

 تم تكوين بحيرة ناصر لتتيح مخزونًا هائلا من المياه والثروة السمكية. فلماذا نجحنا فى الاستفادة من المياه وفشلنا فى استغلال الثروة السمكية الهائلة؟

 كان من بين الآثار الجانبية للسد حرمان الأراضى فى الوادى والدلتا من الطمى الذى كان يأتى مع الفيضان.  فلماذا لم نتعامل مع كارثة تجريف الأرض الزراعية- أهم مكونات ثروة مصر القومية على الإطلاق؟

 وهل درسنا الجدوى الاقتصادية والآثار الجانبية للمشروعات القومية العديدة التى يجرى تنفيذها حاليا؟ مطلوب إعادة النظر فى دور الهيئة العامة للسد العالى وخزان أسوان التى أنشئت عام 1971 والتى تختص فقط  بأعمال التشغيل والموازنات والصياتة للسد العالى وسد أسوان.

وعلينا أيضًا تفعيل دور الهيئة العامة لتنمية بحيرة السد العالى، والتى أنشئت 1974،  لتنفيذ الأهداف القومية من إنشاء السد العالى بإحداث تنمية شاملة ومتواصلة فى الأنشطة الاقتصادية الزراعية والصناعية والسياحية وغيرها.