الإثنين 30 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الإبداع المصرى فى الثقافة العربية

 للعطاء المصرى طابع خاص فى الثقافة العربية، وتأثير كبير فى جميع مجالات الفكر والأدب والفن والثقافة، فقد كانت مصر مركزًا مهمًا من مراكز الثقافة، بحيث يمكننا أن نقول إن هناك مدرسة أدبية مصرية كانت ظاهرة الأثر فيما حولها  من ثقافات.



وتعد المخطوطات المصرية على أوراق البردى، والتى سجل فيها المصريون ما جمعوه من الأحاديث النبوية وسجلوه من الصحابة الذين جاءوا إلى مصر إبان الفتح العربى من أقدم ما اكتشف من مخطوطات، بل أقدم المخطوطات العربية فى جميع متاحف العالم.

تأثر وتأثير

فقد كانت مصر للعرب الفاتحين مدرسة تعلموا فيها الكثير، ونقلوا عنها الكثير، وتجمع لهم من التلقى والترجمة والنقل مادة غزيرة تأثروا بها  كما تقول د. نعمات فؤاد.

 وفى مسجد الفسطاط كانت علوم الدين من تفسير القرآن الكريم، ورواية قراءاته هى أول ما تم تدارسه، وكان للصحابة الذين شهدوا فتح مصر أثر بارز فى هذا المجال وحرص المصريون على السفر والتعرف على العلوم الدينية فسافر عثمان بن سعيد المعروف باسم «ورش» إلى المدينة المنورة، ودرس القراءة القرآنية عن نافع، بل إن نافع نفسه قد أقام بمصر مدة طويلة فقد أرسله إلى مصر الخليفة عمر بن عبدالعزيز، ومدرسة نافع كان لها أثرها فى مصر، وكان للمصريين أثر واضح فى القراءات، وعن القراء المصريين أخذ القراء فى المغرب والأندلس، كما يقول كامل حسين فى كتابه «أدب مصر الإسلامية – عصر الولاة ».

أما عن الأثر المصرى فى القراءات فيقول عبدالعزيز البشرى: إن متقدمى القراء فى مصر كانوا لا يبدأون قراءاتهم إلا من مقام «البياتى»، وبه دائما يختمون ولعل ذلك يرجع إلى أن «البياتى» هو نغمة البلد الأصلية أو هو من أصل النغم التى تعتاده حناجر المصريين، وهذه النغمة فوق سعة أفقها، وتقبلها لكثرة التصرف والتلوين فيها مما جعلها قريبة إلى القراء المصريين.

بل أسهمت مصر فى تفسير القرآن فيقول الشيخ أمين الخولى: «إن كل ما نملكه من المصنفات المفردة فى بلاغة القرآن إنما يرجع الفضل فيه إلى المدرسة الأدبية المصرية التى كانت ظاهرة الأثر فيما حولها من الشرق القريب».

«نعمات فؤاد» : 1989، «شخصية مصر»، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 130

فى علوم الحديث

ومن الصحابة الذين جاءوا إلى مصر عبدالله بن عمرو بن العاص أكثر الصحابة رواية للحديث، ولأهل مصر عنه أكثر من مائة حديث.

ومن أوائل جامعى الحديث عبدالله بن وهب المصرى صاحب كتاب « الجامع فى الحديث»، ووجد كتابه فى مدينة «إدفو»، ويُعد من أقدم المخطوطات العربية فى جميع متاحف العالم إن لم يكن أقدمها جميعا، ويرجع تاريخ كتابته إلى القرن الثالث

الهجرى، وقد ولد عبدالله بن وهب فى مصر، وسافر إلى المدينة المنورة عام 148 هجرية، وأخذ علمه عن الإمام مالك، والذى عرف منزلة بن وهب ولقبه  بلقب «المفتى».

وقد أفرد ابن عبدالحكم المؤرخ المصرى فى كتابه «فتوح مصر» فصلًا خاصًا بالأحاديث النبوية التى رواها المصريون، وكذلك سجل السيوطى ما رواه الصحابة فى مصر من أحاديث فى كتابه «دُر السحابة فى من دخل مصر من الصحابة».

« محمد كامل حسين: « أدب مصر الإسلامية - عصر الولاة»، دار الفكر العربى  القاهرة، ص37 – ص 39.

فى الفقه 

وقد كان الأثر المصرى واضحًا فى مجال الفقه، فقد كتب الإمام الشافعى رسالته الفقهية مرة فى العراق، وأعاد كتابتها فى مصر فقد كون مذهبه الجديد فى مصر. 

وقد أجرى فى رسالته بعض التعديلات التى تلائم الحياة المصرية، واستطاعت بذلك المدرسة الشافعية أن تنافس المدرسة المالكية بمصر، بل هيأت الشافعية جوًا جديدًا فى العلم إذ تمكنت من مناقشة المذاهب الأخرى فعرف المصريون المناظرات العلمية والحلقات الفكرية.

ويُعد الشيخ الطحاوى إمام المصريين فى مذهب الحنفية لكثرة تلاميذه، وخصب إنتاجه، ومن كتبه المهمة «المختصر فى الفقه».

ومن أبرز العلماء المصريين فى مجال الفقه أيضًا الليث بن سعد، والذى لقب بإمام أهل مصر فى الفقه والحديث، ولد فى مصر فى قرية قلقشندة  عام 94 هجرية، وسافر إلى مكة للحج وأخذ علمه عن نافع، وكان الليث فقيها مبرزا، وبينه وبين الإمام مالك مناقشات حول بعض المسائل الفقهية من خلال خطابات مدونة سجلها ابن القيم الجوزيه فى كتابه «أعلام الموقعين» كما يقول محمد كامل حسين فى كتابه «أدب مصر الإسلامية».

بل ومن الولاة اشتهر من العلماء والفقهاء والأئمة المجتهدين الخليفة عمر بن عبدالعزيز الذى ولد فى مصر عام 36 هجرية، وقد تفقه حتى بلغ رتبة الاجتهاد وله مناقب كثيرة كما ذكر السيوطى فى كتابه «حُسن المحاضرة»، وممن اشتهر بمصر أيضا يزيد بن حبيب، وكان فقيه مصر وشيخها ومفتيها وهو أحد ثلاثة فوضهم الخليفة عمر بن عبدالعزيز للإفتاء، ومن علماء مصر ومحدثيها وفقهائها أبو عبدالرحمن بن عبدالله الغافقى المصرى وولى قضاء مصر، حوالى عشر سنين (155 – 164 هجرية).

«سيدة إسماعيل الكاشف 1999: «مصر فى فجر الإسلام – من الفتح العربى إلى الدولة الطولونية»، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص318

 «كما اشتهرت الإسكندرية فى القرن السادس الهجرى بمدرستين كبيرتين للثقافة الإسلامية بعامة، وفى الحديث بصفة خاصة، وهما المدرسة العوفية نسبة إلى ابن عوف أحد فقهاء الإسكندرية، والمدرسة السلفية، وشيخها الحافظ بن طاهر السلفى.

 التصوف فى مصر

ويعد ذو النون المصرى هو أول واضع لأسس التصوف، فقد كانت الصوفية جديدة على الحياة الإسلامية فى القرن الثانى والثالث للهجرة، وقد فسر الحب الإلهى تفسيرا لا يزال إلى اليوم أساسا من أسس الصوفية.

وقد ولد ذو النون فى أخميم، من أسرة نوبية، وقد أفاد من الرهبان العلوم الفلسفية وقراءة النقوش المصرية على جدران البرابى، وأدخل من كل هذا تعبيراته فى الحب الإلهى، وسافر ذو النون إلى المغرب والحجاز واليمن ثم عاد إلى مصر، وقد تعرض للاضطهاد، وأنصفه المتوكل.

وذو النون الذى يراه الباحثون أول واضع لأسس التصوف ومنهم ماسينيون وبركلمان هو أول من أنشد شعر الحب الإلهى، وأول من وردت فى شعره مصطلحات الصوفية كما أنه أول من تحدث فى الأحوال والمقامات.

أما ابن الفارض فهو سلطان العاشقين فى الحب الإلهى، وقد شغلت قصيدته التائية الباحثين والشارحين، وعلى نهجها سار شيوخ التصوف مثل إبراهيم الدسوقى، والسيد أحمد البدوى، وقطب الدين القسطالى  كما تذكر د. نعمات فؤاد.

مركز علمى مهم

وقد أصبحت مصر مركزًا علميًا مهمًا خصوصًا فى عصر الولاة فكان يفد إليها الطلبة لتلقى العلم وخاصة من إفريقية والمغرب والأندلس، وبذلك أثرت مصر على المغرب والأندلس فى المذاهب والعلوم الدينية التى كانت تُدرس حين ذاك، ومن علماء الأندلس الذين تلقوا العلم على الفقهاء المصريين عيسى بن دينار، فكان فى قرطبة له رياسة ولا يتقدمه أحد فى الإفتاء، ومن أساتذة هذا العهد أيضا زكريا أبو يحى الوقار المصرى، وقد ذهب إلى إفريقية فعلم فيها ثم عاد إلى مصر، وتوفى عام 263 هجرية ، ولم يقتصر الأمر على تأثير مصر فى العلوم الدينية بل كان لها تأثير عميق فى الحياة العلمية فالفتح العربى لم يقض على مظاهرها فى الإسكندرية. 

وذلك بالرغم من أن معظم علماء الروم قد غادروها بعد الفتح، ومن الدلائل على النشاط العلمى ما ذكره ابن النديم من أن خالد بن يزيد بن معاوية حينما أراد تعلم الكيمياء أمر بإحضار جماعة من الفلاسفة اليونانيين الذين كانوا يقيمون بمصر ولهم إلمام بالعربية، وطلب منهم نقل كتب الصنعة «الكيمياء» من اليونانية والقبطية إلى العربية، فكان هذا أول ترجمة إلى العربية فى الإسلام، وابن أصيبعة قد ذكر فى كتابه «طبقات الأطباء» أنه كان فى الإسكندرية طبيب زمن الفتح اسمه ابن ابجر وكان يُدرس الطب بها، وأن بليطيان أحد علماء الإسكندرية المشهورين كان من الأطباء الذين استعان بهم الخليفة هارون الرشيد لتطبيب جارية له  كما ذكرت د. سيدة اسماعيل الكاشف.

وقد قامت مساجد مصر بدور كبير فى الثقافة الإسلامية، فكانت تُعقد مجالس العلم فى جامع ابن طولون، وجامع عمرو بن العاص، وفى الجامع الأزهر بعد ذلك، وقد انفرد بإمامة العلم فى بلاد الإسلام فكانت يُلقى فيه الدروس الكثير من العلماء ومنهم ابن خلدون، وعندما حدث الاحتلال العثمانى حفظ الأزهر للأمة تراثها من القرآن والسُنة واللغة والعلوم. نهضة أدبية

تمتعت مصر بنهضة أدبية جعلت لها الزعامة فى القرون التالية، فبالإضافة للعلماء الذين حرصوا على زيارة مصر والإفادة من علومها، كانت مصر مهد الكثير من المؤرخين الأوائل الذين أثروا الحياة الأدبية بما سجلوه من ألوان النشاط الفكرى والثقافى فعبدالرحمن بن عبدالله بن عبدالحكم هو أقدم مؤرخى الإسلام فى مصر وفى كتابه «فتوح مصر» استحدث فنًا جديدًا فى التاريخ هو فن الخطط.

وبرع «ابن الداية» فى التأريخ فكتابه «المكافأة» هو مصدر من مصادر التاريخ والأدب، وهو كتاب أدبى فيه طرائف ومكاتبات وأشعار وقصص، كما أن له أيضًا العديد من الكتب مثل «سيرة أحمد بن طولون»، و«أخبار الأطباء».

كما اشتهر من المؤرخين المقريزى والنُويرى، وقد ذكرهما غوستاف لوبون فى كتابه «حضارة العرب» فقال: «ألف المقريزى تاريخًا عن مصر يعد أحسن مصدر للبحث فيها، وهذا التاريخ قسم من ثمانين مجلدًا له فى التاريخ العام، وألف النُويرى المتوفى فى مصر سنة 1331 ميلادية موسوعة تاريخية كبيرة».

«غوستاف لوبون : 2000» حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 454

وقد وفد أشهر الشعراء إلى مصر وخاصة فى عهد  عبدالعزيز بن مروان الذى جمع حوله العديد من الشعراء فجاء إلى مصر: كثير عزة، وجميل بن معمر، وأبو نواس، والمتنبى، ومدح بعضهم حكام مصر فمدح جميل بن معمر عبدالعزيز بن مروان، ومدح أبو نواس والى مصر خصيب ومما قاله فيه:

«أنت الخصيب وهذه مصر / فتدفقا فكلاكما بحر».

وأبو تمام وفد إلى مصر، وحضر دروسًا فى المسجد الجامع بالفسطاط، وكان يُحاضر فيه وقتذاك الشافعى، والليث بن سعد، وابن هشام راوى السيرة، وابن عبدالحكم، ومن أجمل أبيات أبى تمام فى الحنين إلى مصر قوله :

«بالشام أهلى وبغداد الهوى وأنا / بالرقمتين وبالفسطاط إخوانى»

شعراء مصر

ومن أشهر شعراء مصر فى عهد خصيب، سعيد بن عفير، والمُعلى الطائى، ويحى الخولانى، والحسين بن الجمل الأكبر، ويوسف السراج كما ذكر محمد كامل حسين فى كتابه «أدب مصر الإسلامية».

وقد ازدهرت سيرة عدد كبير من الشعراء إبان الدولة الطولونية، ومن أشهرهم: سعيد القاص الذى نظم تاريخ الطولونيين فى قصيدة طويلة، وقد عُرف فى هذه الفترة شعر رثاء الدول بعد أن انتهت الدولة الطولونية، وعاد الأمر إلى الخليفة العباسى، ودُمرت القطائع فكتب بعض الشعراء فى رثاء أيام الطولونيين ومنهم الشاعر محمد بن طشويه.

ومن شعراء الزهد الشاعر منصور ابن الفقيه، وابن البصرى وله شعر كثير فى وصف الأديرة، وخاصة دير «نهيا» بالقرب من الجيزة، وابن طباطبا، وله أيضًا شعر كثير فى وصف الطبيعة.

ومن شعراء الغزل فى العصر الطولونى «ابن جدار»، ومن أرق ما كتب قوله :

«جاءت بوجه كالقمر / على قوام كأنه غصن / غنَّت فلم يبق فىّ جارحة / إلا تمنت لو أنها أذْن». ومن شعراء الرثاء المُعلى الطائى، وكان قد باع جاريته، وعندما أخبرها فقالت له:  والله لو ملكت منك مثل ما تملك منى ما بعتك بالدنيا وما فيها، كشفت له عن حبها، فأدرك ما وقع فيه، وأعاد المال، وبعد أن ردها بثمانية أيام توفيت فكتب فيها قصيدة من أرق قصائد الرثاء يقول فيها :

«فكأنها والنفس زاهقة / غصن من الريحان قد جفا / يا قبر ابق على محاسنها / لقد حويت البر والظُرفا».

 ويُنسب إليه أيضا البيت الشعرى الشهير الذى نردده حتى اليوم، وهو:

« وإنما أولادنا بيننا / أكبادنا تمشى على الأرض» إلا أن أبا نواس وقد كان معاصرًا له ينسبها إلى حطان بن المُعلى.

وقد ازدهر الشعر فى العصر الفاطمى والأيوبى أيضًا، فكان الشعراء المصريون أقطاب الشعر وذلك منذ أواخر القرن الخامس الهجرى فبرز ابن نباتة المصرى، وابن أبى حجلة، وشمس الدين الهوارى، وأسعد بن مماتى، ومن النساء المشهورات بالعلم والأدب تقية بنت غيث، وخديجة بنت أحمد الرازى.

فن تدوين السير

وقد نبغت مصر أيضًا فى فن تدوين السير الشعبية فبرز الأدب الشعبى المصرى كما تقول نعمات فؤاد فى كتابها «شخصية مصر»، ومن هذه السيرالمهمة «سيرة عنترة بن شداد»،  و«سيرة الهلالية»، و«سيرة الظاهر بيبرس»، بل والأجزاء المصرية فى «ألف ليلة وليلة»، وتقول عنها د. سهير القلماوى: «ولئن حملت كل النسخ التى بين أيدينا الأثر المصرى فما ذلك إلا لأن الكتاب آوى إلى مصر فيما آوى إليها من كتب كونت تراث المدنية الإسلامية، ولم يكن مكانه المكتبة  فقد آوى إلى العامة، وعاش عيشة مطلقة خارج جدران الكتب، وهنالك ترك  الشعب المصرى فيه أثره الحى القوى فلما رُد إلى الشعوب الأخرى التى كانت محتفظة لاشك ببقايا منه على الأقل، رُد إليها مصريًا قوى المصرية».

وهو ما لاحظه الرحالة الذين زاروا مصر ومنهم ديزموند ستيوارت الذى يقول: «والأحياء البلدية فى القاهرة هى بقايا حية لمسرح ألف ليلة وليلة، وإذا كان كثير من حوادث هذا العالم القصصى العظيم عند العرب قد وقع فى بغداد فإن المجتمع الموصوف فيه هو مجتمع القاهرة».

«ديزموند ستيوارت: 1987، «القاهرة»، ترجمة يحى حقى، وتقديم جمال حمدان، ص 154 وقد تواترت الدراسات الأدبية فى  مجال الأدب الإسلامى فى مصر إلا أن كثيرًا من النصوص تحتاج إلى التحقيق والبحث والدراسة للكشف عن الإبداع المصرى فى تلك المراحل التاريخية المهمة، ويرجع الفضل الأول فى الدعوة إلى دراستها إلى عميد الأدب العربى طه حسين الذى كان أول من نادى بدراسة الأدب المصرى  وأول من أنشأ كرسى الأدب المصرى بكلية الآداب، ويقول محمد كامل حسين فى مقدمته لدراسته الرائدة «أدب مصر الإسلامية فى عهد الولاة»، إن أستاذه طه حسين هو الذى شجعه على إنجاز هذه الدراسة المهمة.

الكثير من التفاصيل، الكثير من الدراسات لابد أن نقوم بها، ونعيد قراءة هذا التراث من العطاء المصرى المبدع فى مجالات المعرفة، وما أهدته مصر للثقافة العربية على مدى التاريخ من إبداع وفكر وفنون وعلوم.