أين أختفي الكاريكاتير؟!
عبدالرحمن أبوبكر
تطور هذا الفن بمرور الأيام، كأى «كائن حى» يؤثر ويتأثر. لكنوبالتدريجبدأ فى الهبوط و«التلاشى» شيئًا فشئ، حتى أصبح جزء «مكمل»، بعد أن كان «حجر أساس».
لم تكن الظروف المحيطة هى العامل الأساسى والأوحد لهذه الظاهرة،لكن هناك عوامل اخرى، تنطوى على «صانعى» هذا الفن ومتابعيه أيضًا.
مما أدى إلى اتساع « فجوة» الثقة بين المواطن وصحيفته؛ لأنها أصبحت لا تعبرعنه ولا عن مشاكله، فأصبح يرى «صورة» باهته منه.. وأن وجدت.
تاريخ ورواد
بدأ هذا الفن بمصر فى ١٩١٥، إبان الحرب العالمية الأولى، بمجلة « اللطائف» المصورة والتى كانت تعتمد على ترجمة الكاريكاتور الأجنبى ونشره على صفحاتها، ثم تطور الأمر بظهور الرسام الإسبانى «خوان سانتيس» المدرس بمدرسة الفنون الجميلة آنذاك، فرسم بمجلة«الكشكول» وغيرها من إصدرات تلك الحقبة الغنية بالأحداث، وكذلك انتشرت أعمال الفنان التركى على رفقى، واليهودى «برنى» مبتكر شخصية «سمير».
وفى عام١٩٢٩ ابتكر الفنان الأرمنى «ألكسندر صاروخان» بمساعدة السيدة فاطمة اليوسف – روز اليوسف – والصحفى الكبير محمد التابعى، شخصية «المصرى أفندى» وهى الشخصية الكرتونية التى كانت تعبر عن «العقل الجمعى» المصرى وقتها، ثم دبالخلاف بين التابعى وروز اليوسف، فانتقل على أثره «صاروخان» إلى دار أخبار اليوم عام ١٩٤٥ رسمًا بمجلة آخر ساعة، وزميلًا لأول رسام كاريكاتير مصرى الفنان الكبير الراحل محمد عبدالمنعم رخا.
ثم صدر العدد الأول من مجلة «صباح الخير» فى 17 يناير 1956 بشعارها الشهير «للقلوب الشابة والعقول المتحررة» الذى صاغه «أحمد بهاء الدين» الذى ترأس تحريرها،وهو أبن السادسة والعشرين، وتعد مجلة روز اليوسف وصباح الخير «المرحلة الأقوى» فى تاريخ فن الكاريكاتير المصرى، حيث بزغت نجوم هذا الفن أمثال: زهدى العدوى، عبدالسميع عبدالله، محى الدين اللباد، حجازى، بهجت عثمان، رجائى ونيس، صلاح جاهين، جورج البهجورى، صلاح الليثى، جمعة فرحات، رمسيس وغيرهم.
ووصف العديد من النقاد الفنيين، رسامى مجلة صباح الخير بــ «خط الدفاع ضد العدوان الإسرائيلى». نظرًا للرسومات التى أبدعوها فى الفترة من نكسة يونيو 1967 حتى انتصار أكتوبر 1973.
حيث حرصت المجلة وقتها أن تقف بجوار الجيش فى معركته ضد الكيان الصهيونى وعدم الانجراف فى « السخرية» التى كانت موجهة ضد الجيش المصرى عقب النكسة.
وعلى صعيد آخر كانت مدرسة «أخبار اليوم»تؤكد مدرستها «الكاريكاتورية»، عن طريق أحد أقوى فنانيها وهو الراحل الكبير مصطفى حسين، الذى بدأ حياته الفنية عام 1952 بمجلة «الاثنين والدنيا» الصادرة عن دار الهلال، ثم جريدة المساء عام 1956 حتى عام 1963، ثم رسامًا بمجلة «آخر ساعة» وجميع إصدرات مؤسسة أخبار اليوم منذ عام 1974 وحتى وفاته عام 2014. حيث اختير كأحسن رسام صحفى من قبل مجلة صباح الخير عام 1980 ولم يكن أحد رساميها.
لمع نجم مصطفى حسين أثناء فترة حكم الرئيس الراحل حسنى مبارك، وكان لذلك تأثير كبير على «صنعة» الكاريكاتير، وهو ما سنوضحه بالتفصيل فيما بعد، ظهرت أيضًا فى تلك الحقبة، إحدى التجارب الصحفية المميزة وهى جريدة « الدستور» التى صدرت عام 1995 وترأس تحريرها إبراهيم عيسى – احد ابناء مؤسسة روز اليوسف – حتى توقفت عن الصدور عام 1998. وعاودت الصدور عام 2005 كجريدة أسبوعية، ثم يومية عام 2007.
ترأس قسم الكاريكاتير وقتئذ أثناء الإصدار الثانى للجريدة، الفنان عمرو سليم، والذى يعد صاحب «آخر» مدرسة عنت بأظهار نجوم جدد فى سماء فن الكاريكاتير مثل : مخلوف،عبدالله، دعاء العدل، وغيرهم. زامل سليم فى هذة التجربة الفنان وليد طاهر والفنان هانى شمس.
جاءت بعدها ثورة 25 يناير 2011، وظهرت موجة من «السخرية» على مواقع التواصل الاجتماعى، مثل «اساحبى» وغيرها من الصفحات، التى احتلت مكانة النجوم فى عقول المواطنيين المرهقه نفسيًا وفكريًا، وظهر على سطح الأحداث، فن «الكوميكس» وهو عباره عن اقتصاص أجزاء من مشاهد احد الأعمال وتركيب نص الكلام عليه. وهو مفهوم مغلوط، بعيد كل البعد عن مفهوم وفن «الكوميكس» الأصلى.
تراجعت قيمة فن الكاريكاتير كثيرًا فى تلك الفترة، وقل مبدعيه واستبدل الشعب أو بالأحرى استسهل قبول «الكوميكس» المغلوطة عن الكاريكاتير، ووجدوا فيه سلوتهم فى التعبير عن مشاعرهم. أدى هذا الوضع أيضًا إلى تراجع الإصدارات الصحفية بقوة بسبب عزوف المواطنيين عنها، وكانت هى نقطةالبداية لاختفاء فن «الكاريكاتير» بقوه.
دورة حياة
لكل عمل «إبداعى» دورة حياة خاصة به. ففى «الكاريكاتير» يبدأ الأمر بوجود «موهوب» أولًا، يرى الأشياء من حوله بطريقة مختلفة. وتحمل خطوطه كمًا كبيرًا من الغضب الممزوج بالسخرية وغيرها. يأتى بعد ذلك دور «كاشف المواهب» وهو يحمل طباع خاصة كالموهوب، فهو « كبير» النفس والفن أيضًا، واسع المعرفه، يعلم كيف يوجه الموهوب؟ ومتى يتركه كى يتطور نفسه بنفسه.
فهو يعمل على «البحث» عن «فلتات» هذا الفن الأصيل من الموهوبيين، من أمثال هؤلاء العظام: عبدالغنى أبو العينين، الحسين فوزى، حسن فؤاد، جمال كامل، عبدالسلام الشريف، حسين بيكار وغيرهم.
بعدها يتم زرع هذه «البذرة» الصغيرة الموهوبة، بأرض خصبة مناسبة «إحدى الإصدارات الصحفية». ثم ريها بالغزير من «التثقيف» والمعرفة اللازمة لتكوين «وعيها»، ويغلف هذا الرى بالكثير والكثير من «التشجيع والنقد البناء» والتجريب، داخل مناخ ثقافى مميز.
حتى تصبح تلك «البذرة» نبته، ثم تأخذ فى الكبر، حتى تصبح «شجرة» وارفة الظلال، ناضجة «الثمر» لاذع المذاق. ثم تبدأ تلك الثمار فى التساقط بانتظام وقوة، كنقاط الماء،فتُفتت «صخور» الجهل، والفساد، والمحسوبية، والغلاء، وغيرها من الصخور التى تجثم على صدور وعقول « المواطن» المصرى البسيط.
قيمة و» قامة»
حضر الرئيس الراحل حسنى مبارك افتتاح «المبنى الصحفى الجديد لأخبار اليوم» فى أوائل التسعينيات، بدعوة من رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة الكاتب الراحل إبراهيم سعده، تفاجأ الرئيس بلوحات كاريكاتورية تزين المدخل الرئيسى لبهو المبنى، وشخص طويل القامة يقف بجوارهم فى خجل ويبتسم للرئيس، توجه هذا الشخص صوب مبارك بعد أن همس إبراهيم سعده باسمه فى أذنه.
مازحه مبارك قائلًا: ما كنتش أعرف انك «طويل» كده يا مصطفى!
فا أستطرد مصطفى حسين: أسف يا ريس، والله ما كنتش أقصد.
كانت تلك بداية إحدى علاقات الكاريكاتير بالسلطة ونجوم المجتمع، وكذلك الحال مع رسامى مؤسسة روز اليوسف، فلا تستغرب عندما تعلم أن الموسيقار محمد عبدالوهاب بشخصه قد هاتف الفنان الفنان جورج البهجورى لإيصال رساله من الست أم كلثوم لاستيائها من رسم البهجورى لها بأسلوبه على غلاف الصبوحة. أو العلاقة الوطتيدة التى جمعت العم «أحمد طوغان» بالرئيس السادات والتى ترجع أصولها منذ أن كان السادات «بكباشى» وكان همزة التعارف بينهم المبدع الكبير زكريا الجارى. تلك العلاقات صبغت «الكاريكاتير» ورساميه، بصبغة نجوم المجتمع الكبار، وهو ما أعلى من قيمة هذا الفن فى ذاك الوقت وبدأ هذا الفن يفقد جزء من بريقه، برحيل أحد هؤلاء النجوم، فاانفرطت حبات العقد الفريد، وانفرطت معهم تلك الصبغة، فأصبح الكاريكاتير وفنانيه أشخاص مُجهله، لا يعرفهم أحد ولا يشعر بوجودهم.
لكن «وعى» هؤلاء الرسامين هو ما جعلهم يعيشون إلى الآن؛ أضعاف ما عاشوا فى حياتهم الحقيقة، فمدرسة مصطفى حسين «الكاريكاتورية» كان لها مريديين كُثر منهم من أصبحوا نجوم الوقت الحالى أمثال الفنانيين: عمرو فهمى،محمد عمر، أحمد عبدالنعيم، حسنى عباس،ومنهم من جيلى الشاب: إسلام رجب واحمد قاعود. وكانوا جميعهم من مراسلى صفحة «حاول تبتسم» التى كانت تعرض رسوم القراء وكان مصطفى حسين يُعنى بنفسه لإبداء رأيه فى أعمالهم.
كذلك بريد القراء بمجلة صباح الخير التى أرسل لها يومًا أحد الموهوبين رسومه، فأشاد بها الفنان الكبير حسن فؤاد وتنبأ له بمستقبل فنى كبير، وقد تحققت نبوءته وأصبح هذا الهاوى هو المخرج الكبير الراحل فهمى عبدالحميد، صاحب الروائع الفنية. وأيضًا مجلة روز اليوسف التى احتوت داخل صفحاتها مجموعةجديدة من الفنانيين مثل: د.شريف عرفه، مصطفى سالم، عماد عبدالمقصود وغيرهم.
تلك الصفحات اندثرت اليوم رغم أهميتها فى العثور على مواهب جديدة بالمجال ولم يتبق منه حاليًا إلا صفحة «طنش وابتسم» والتى يشرف عليها الزميل عمرو فهمى.
«صحافة» بديلة
فى عام 1990 صدر العدد الأول من مجلة «كاريكاتير» برئاسة تحرير كلًا من أحمد طوغان، مصطفى حسين. الصادرة عن الجمعية المصرية للكاريكاتير، وفى رأيى انها مطبوعة كانت تسبق عصرها بمراحل، فقد حوت داخلها كل رسامى مصر و كاتبيها الساخريين الكبار،فكانت «تربة» خصبة بديلة عن الإصدارات القومية، التى اكتفت بعدد الرسامين المعيينين، فنشأ جيل كامل من فنانى الكاريكاتير والبورترية المميزين جدا، ومنذ وفاة الفنان الكبير مصطفى حسين واعتذاره عن منصب رئاسة الجمعية المصرية للكاريكاتير، صدرت المجلة فى ثلاث أو أربعة إعداد، ثم توقفت نظرا لعدم وجود تمويل أو إعلانات لاستمرارها، وأعتقد أن بوفاة هذا العظيم تأثر المجال اجمع.
لكن الشيء المبشر، أن مجموعة من الشباب جددوا التجربة، فى إصدار «صحافتهم» البديلة، فأصدروا مجلة «توك توك» فى عددها الأول عام 2011، كأول مجلة كوميكس للكبار،. وكان صاحب الفكرة هو الفنان محمد الشناوى، واشترك معه فى الرسم والتحرير الفنانيين:
مخلوف وانديل وهشام رحمه وحفناوى وغيرهم. ولم يقعوا بفخ «التمويل» فاصدروا العدد بالتمويل الذاتى،حتى لا يتدخل احد فى كتابة أو تحرير المحتوى.
وظهر أيضًا فن «الجرافيك نوفيل» بقوة، خاصة بعد ثورة ٢٠١١، من وكان من أشهر تلك الروايات المصورة «تأثير الجرادة» لمؤلفه الكاتب الراحل د.أحمد خالد توفيق، ورسوم الزميلة حنان حسنى الكاراجى.
فقد تحور «الكاريكاتير» حينئذ واتخذ من تلك «البدائل» متنفسًا له.
كلمة أخيرة
وجب على كل الفنانيين الحاليين وانا منهم،تقديم خبراتهم وتجاربهم الذاتية «وتوثيقها» فى كتب ولو كانت إلكترونية، ولا أقصد هنا «توثيق» أعمالهم. لكن ما اقصده «توثيق» كيفية إيجاد الفكرة، وكيف تتحور داخل عقل الفنان وصولًا لظهورها على صفحات الجرائد أو على صفحات التواصل الاجتماعى.
فهو ما يبحث عنه الفنانيين الجدد فى بداية طريقهم لاحترافهم، فا أنت توافرت كل السابق ذكرها فمن المؤكد أننا سوف نحصل على جيل من رسامى الكاريكاتير الواع، وهو ما نبحث عنه دائمًا.