فى حضور عبدالناصر كنا «قراء»!
رشاد كامل
لم يكن واردًا فى حوارى هذا الأسبوع مع الأستاذ صلاح حافظ «أن يحتل كتاب جلال الحمامصى أسوار حول الحوار مساحة من حوارنا»!!
فليس جديدًا على الحمامصى أن يشكك فى ذمة جمال عبدالناصر المالية وقد سبق له ذلك وبعد البحث والتحرى اتضح أن اتهامه لم يكن سوى «دخان فى الهواء»!! ولكن السطور التى هاجم فيها روزاليوسف وكان صلاح حافظ وقتها رئيسًا للتحرير قفزت بالسؤال إلى مقدمة الحوار.
الحمامصى يتهم روزاليوسف بالدفاع عن ذمة عبدالناصر!
وصلاح حافظ يؤكد الاتهام ويقول لى:
الدفاع عن ذمة جمال عبدالناصر تهمة لا ننكرها وشرف لا ندعيه!
و.. تفاصيل الحوار كما جرت أرويها لكم.
القذافى وكرباج السادات!
قلت: ما حكاية حديث السادات معكم!!
قال: نشرنا فى «روزاليوسف» عددًا كبيرًا من الأحاديث الصحفية للرئيس السادات، أجرى بعضها الأستاذ عبدالرحمن الشرقاوى،والبعض الآخر أجراه الأستاذ عبدالستار الطويلة، وكما قلت نشرنا هذه الأحاديث كما سمعناها بالضبط، وكتبناها دون أى تدخل من جانبه! ولا أعرف إذا كان هذا موقفه مع الصحفيين الأجانب أم أنه موقف اختص به صحفيى مصر ربما لأنه يعرفهم شخصيًا، أو يثق أنهم لن يقولوا على لسانه كلامًا لا يقصده، وربما من باب الثقة فى هذه الأسماء!
وذات يوم عاد الزميل عبدالستار الطويلة من رحلة خارج مصر، وقبل عودته كان قد أجرى حوارًا صحفيًا مثيرًا مع العقيد القذافى،وفى ذلك الوقت كانت العلاقات مع ليبيا فى أسوأ درجات التوتر، وأخذنا نقرأ الحديث وكان بالفعل سبقًا صحفيًا هامًا وخطيرًا، وفيه يقول القذافى معلومات مثيرة، كانت كل واحدة تصلح لمانشيت صحفى يكون حديث الناس فى مصر والخارج..
• قلت: مثل ماذا؟!
ابتسم وقال بعدها: إن القذافى يقول مثلاً السادات أخى الأكبر ومن حقه أن يمسك بالكرباج ويضربني!!
المهم قررنا أن يكون غلاف المجلة هو هذا السبق الصحفى الخطير، وأعددنا الحديث للنشر، ثم قال لنا الأستاذ الشرقاوى رئيس مجلس الإدارة: أعتقد أنه من الذوق أن نرسل نسخة من هذا الحديث إلى السادات ليطلع عليها لأن ما فى هذا الحديث يهمه شخصيًا، وفعلاً أرسلنا نسخة من الحوار إلى رئاسة الجمهورية، وكانت المفاجأة أن يتصل بى الرئيس السادات نفسه قائلاً فى التليفون:
- أنا قريت الحديث بتاع الولد ده؟!
وقلت للسادات: ما رأيك فيه يا ريس؟
قال السادات: الحديث ده مليان أكاذيب وافتراءات!
قلت: أكاذيب إيه ياريس اللى فى حديث القذافى.
ضحك الرئيس السادات وقال: لا.. يا صلاح دى مسألة يطول شرحها ومينفعش الكلام فى التليفون.. أنت تجيب عبدالستار الطويلة وتعالوا إسكندرية نتناقش فيه!
لحظة صمت.. عاد بعدها صلاح حافظ يقول: كان ذلك فى شهر رمضان وسافرت أنا وعبدالستار إلى الإسكندرية، وصلنا ليلاً، توجهنا مباشرة إلى استراحة الرئيس فى المعمورة بعد الإفطار.. قابلنا السادات وكان يرتدى جلابية بيضاء صيفى ذات أكمام واسعة.. عانق عبدالستار ثم عانقنى وسألنا عن الصحة والأولاد وعاملين إيه فى الصيام وكده.
ثم جلسنا، وجلس السادات وتربع على «كنبة» وطلب لنا شايًا وبدأ يتحدث:
- أنا قريت الحديث يا أولاد.. وعارف إنه لقمة صحفية كويسة.. ومش عاوز أحرمكم منها.. وأنتم أحرار تمامًا تنشروه أو لا تنشروه.. بس عاوزكم تعرفوا القذافى كذاب فى إيه وإيه من الكلام اللى قاله فى الحديث..
يكمل صلاح حافظ: وأخذ السادات يتحدث لمدة أربع ساعات كاملة معنا وبين وقت وآخر ينادى على من فى البيت قائلاً: عاوزين شوية شاى.. أنتو بخلاء ولا إيه وكان السادات نموذجًا بحق للرجل الريفى البسيط المضياف.
وأخذ السادات فى هذا الحوار الطويل يفند كل ما قاله القذافى ثم قال لنا: أدى الحقائق قلتها لكم علشان تكونوا فى الصورة إنما أنتم أحرار فى النشر، وأذكر أننى قلت للسادات يومها: ولماذا لا ترد عليه يا ريس بهذه المعلومات التى قلتها لنا، وضحك السادات وقال لى: طبعًا ما هو أنتو عاوزين ترفعوا التوزيع وتعملوا سبق صحفي! بالطبع فهم السادات أن اقتراحى هو اقتراح صحفى يحقق خبطة صحفية عالمية، القذافى يقول والسادات يفند ما يقول فى نفس العدد من المجلة.
وقال السادات لى: لا يا صلاح أنا مش هأرد عليه.. دى معلومات لكم أنتم واتصرفوا كما تشاءون.
انتهى اللقاء مع السادات وعدنا للقاهرة وقررنا نشر الحديث كاملاً وكتبت تعليقًا فى صفحتين من خلال بابى «قف» عنوانه من الأرشيف السرى لمعلومات روزاليوسف: العقيد أمام الكاميرا.. ووراءها!..
واستفدت من المعلومات التى رواها السادات فى كتابته ولم أنسب معلومة واحدة مما سمعناه من السادات، ونسبنا المعلومات إلى أرشيف معلومات روزاليوسف، أذكر أننى قلت فى هذا المقال: إن المشكلة مع العقيد القذافى كانت دائمًا سرعة التحول فى مواقفه، والتناقض المثير ما بين دوره أمام الكاميرا ودوره وراءها.
وكان الهدف من نشر مقالى مع حديث عبدالستار مع القذافى أن الحديث يجب أن يكون متوازنًا بين طرفى خصومة.
وهنا ندرك أن السادات كان أكثر قربًا للصحافة من عبدالناصر وأى حاكم سابق وأنه كان يدرك أهمية الحديث الصحفى الذى يدلى به للصحفى أو للصحيفة ولذلك لم يقل مثلاً لا تنشروا الحديث بل قال: أنا مش عاوز أحرمكم من هذه اللقمة الصحفية الشهية، وأعتقد أن أى حاكم لا يفعل هذا الموقف إلا إذا كان صحفيًا.
الحكومة ترفضنا كيسار حكومي!
• قلت: ورغم ذلك مثلاً اتهم العقيد القذافى «روزاليوسف» أنها يسار حكومى،وبعض فرق اليسار نفسها فى مصر والعالم العربى اتهمت «روزاليوسف» بنفس التهمة؟ ماذا تقول؟!
قال: نعم طلبة الجامعة أيضًا قالوا لى هذا الكلام، وأذكر أنهم كانوا فى زيارة «روزاليوسف» وقالوا: أنتم يسار حكومى،ويومها قلت لهم ياريت! يسمع منكم ربنا ستدفع الثمن استجابة لبعض ما ينادى به المشكلة ليست فى أن الحكومة تريد أن تشترى اليسار، المشكلة أصلاً أن الحكومة ترفض تمامًا أن تشتريه.
• سألته بدهشة: اليسار يعرض نفسه للبيع والحكومة ترفض الشراء!! لماذا يا سيدي؟!
قال: لأن الحكومة عندما تشترى اليسار.. على الأقل سوف تجامله تنفذ شيئًا مما ينادى به، المشكلة أننا نسعى سعيًا حثيثًا وبإصرار إلى إقناع الحكومة بأن تقبل وجود اليسار.. وفى اليوم الذى تقول فيه الحكومة أنها قررت شراء اليسار «ستزغرد» وحنعمل فرح فى كل حتة المشكلة أن الحكومة تعتبر اليسار نوعًا من السرطان تتجنبه وتتجنب التعامل معه، وإذا كلمته تضع بينها وبينه لوحًا من الزجاج حتى لا تصيبها عدوى أفكاره.
• قلت: ولماذا يعتبركم الشباب دائمًا يسارًا حكوميًا؟! هل هو نوع من المراهقة فى التفكير السياسي؟
قال: أيوه.. هذا نوع من الحماس والتطرف، والشباب دائمًا متطرف، وأنا شخصيًا كنت مثلهم تمامًا عندما كنت شابًا، والمشكلة كما قلت أن الحكومة لا تريد أن تقتنع أو حزبها يقتنع أن الحلف الوطنى الحقيقى هو حلفها مع اليسار، لأن اليسار وطنى،وأرفض تمامًا أى ادعاء بأن هناك يسارًا وطنيًا وآخر غير وطنى،وأقول أيضًا إن وجود اليسار ضرورة، لأن اليسار بكل فرقه يجمعه شيء واحد أنه المطالب بالتغيير، إذن فوجوده ضرورة، ولو تصورنا مصر بدون يسار سيصبح الصراع فيها بين أنصار الماضى «اليمين» وأنصار بقاء الوضع كما هو عليه، أما فى وجود اليسار فهناك ثلاثة احتمالات: الرجوع للوراء.. أو البقاء على نفس الأوضاع أو المستقبل.. إذن اليسار ضرورة اجتماعية، وعندما يقولون أننا يسار حكومى أقول ياريت لأن هذا يعنى أن الخطوة القادمة فى التطور ستكون فى اتجاه يسارى،وكنت أقول لطلبة الجامعة إحنا مشكلتنا أن الحكومة مش راضية تشترى اليسار!!
ولم أكن أقصد بالشراء طبعًا أن تأخذ الحكومة من اليسار أشخاصًا يتخلون عن برنامجه ويصفقون لأخطائها، فهذا ليس شراء، وأنما استمرار للحرب، وأسر لبعض قوات اليسار، ولو قبل اليسار كل صفقة مع هذا النوع لكان هو المشترى،لأنه هو الذى سيكون قد دفع الثمن! جيهان السادات والصحافة!
• قلت: فى حياة الرئيس جمال عبدالناصر لم نقرأ حديثًا واحدًا للسيدة الجليلة زوجته، وفى حياة الرئيس السادات قرأنا عشرات الأحاديث الصحفية للسيدة جيهان، وأطلقت عليها الصحافة لقب «سيدة مصر الأولى» هل قرأت السيدة جيهان الأحاديث التى أجريتموها معها فى «روزاليوسف» قبل النشر.
قال بحسم: لا.. لا.. اطلاقًا!
عدت لأسأل: ولا فى الأحاديث التى تناولت بعض الأمور الشخصية للرئيس السادات؟
قال: اطلاقًا.. أية أمور شخصية تقصد؟
قلت وقد نفد صبرى: أن تقول السيدة جيهان مثلاً فى حديثها إلى الزميلة مديحة عزت: أنا أصبحت مقصرة ومشغولة عن البيت.. ولكن الرئيس يشجعنى.. أنه زوج مريح جدًا لزوجته.. ليس له مطالب خاصة، ولا يطلب عناية مبالغًا فيها!
ضحك صلاح حافظ وعدت لأقول متسائلاً: ألم تعرضوا على السيدة جيهان قبل النشر كلماتها عن السادات: عندما يكون مزاجه مستريحًا فأنه يدندن على خفيف.. ويغنى أيضًا فى الحمام.. وغالبًا من ألحان عبدالوهاب!
جلجلت ضحكة صلاح حافظ من أعماق قلبه وقال:
- صدقنى لم يحدث ولم نستأذن فى نشر هذا الحديث بالذات.. والسيدة الزميلة مديحة عزت انفردت بمثل هذا النوع من الأحاديث التى تقتحم به بيوت وقلوب وضمائر الذين تتحدث معهم وعنهم، وأذكر أنها بدأت هذا الاتجاه بحديث مع الأستاذ العقاد، ونجحت فى أن تجعله يتحدث على راحته وعلى حريته فشتم جميع الناس ونشر الحديث وكان عنوانه «العقاد يشتم كل الناس».
عاد صلاح حافظ ليقول: انفردت السيدة مديحة عزت بهذا النوع من الأحاديث الجذابة، تقابل رجل السياسة فتحدثه فى الأمور المنزلية! تقابل فنانة فتكلمها فى السياسة! وكان هذا ما فعلته مع السيدة جيهان السادات، فقد قابلتها وأجرت معها الحديث كزوجة وربة بيت، وهو جانب يستعذبه القراء ويحبونه، فنحن عادة نعرف عن المشاهير ورجال السياسة آراءهم وأفكارهم ولكن لا نعرف عنهم كيف يعيشون داخل البيت، وماذا يأكلون.. إلخ، وأعتقد أن الصحف التى نشرت عن عبدالحليم حافظ أشياء أخرى غير الغناء والموسيقى مثل أسرته.. وأخوته.. وأمه ويتمه قد باعت أكثر.
• قلت: ربما كانت الدهشة مبعثها كلمات السيدة جيهان عن غناء السادات فى الحمام مثلاً؟ قال: كان نشر مثل هذه التفاصيل شيئا لا يسمح به شخص آخر غير السادات نفسه الذى هو صحفى ويدرك معنى المادة الصحفية التى تجذب القراء، كما أنه كان بالقطع يدرك أن القارئ المصرى عندما يعلم أنه يغنى فى الحمام فهذا لا يقلل من قدره، بالعكس قد يسرنى هذا- كقارئ- لأننى أنا أيضًا أغنى فى الحمام.
ملحوظة: صوت صلاح حافظ من أرق الأصوات بشهادة الموسيقار عبدالوهاب نفسه!
والجماهير تحب الحاكم أن يكون قريبًا منها، فإذا كانت مثلاً من عشاق أكل الفول المدمس بالزبدة يسرنى كمواطن وقارئ أن أعلم أن الحاكم مثلى يتناول فى إفطاره فولاً بالزبدة ولن تسيء هذه الحقيقة إلى الحاكم!
أتدرى ماذا كان أكثر ما نفذ إلى قلوب أوسع الجماهير المصرية مما كتب الأستاذ هيكل عن عبدالناصر؟ كان قوله أن طعام عبدالناصر المفضل كان الجبن الأبيض والخبز الجاف ويوم نشر هيكل هذه الحقيقة البسيطة عرف بها فى نفس اليوم حتى الذين لا يقرأون وتهلل الناس لها، وجدوا عبدالناصر مثلهم.. ابتسم صلاح حافظ وعاد يقول: أذكر وأنا طفل صغير- وكنا نعيش فى الفيوم- أن الملك فاروق وكان وقتها أصغر من السن القانونية ولذلك شكل مجلس وصاية للحكم إلى أن يبلغ السن القانونية، ونشر يومها فى إحدى الصحف أن وجبة فاروق المفضلة هى الفول المدمس.. وسعدت سعادة شديدة بذلك، لأنه مثلى يأكل الفول المدمس، وأننى لا أفترق شيئًا عن الملك، وكان من جيراننا بالصدفة رجل يعمل فى مطبخ السراى الملكية، وفى إجازته كان يأتى إلى الفيوم، وأذكر أننى سألته بطفولة ساذجة يومها: هل صحيح يا عمى أن الملك يأكل فول مدمس؟! ولدهشتى قال نعم ولكن بطريقة مختلفة، حيث كان يتم نزع قشر الفول ثم يدهك وبعدها يسيح قدر من الزبدة ويلقى فيه هذا الفول المدهوك، ويترك قليلاً على النار ثم يضاف إليه قدر من اللبن الحليب.. وأذكر أننى ظللت ستة أشهر كاملة وأنا لا أطلب من أمى سوى أن تصنع لنا الفول بهذه الطريقة «الفاروقية».
• قلت ضاحكًا: أهدى طريقة صنع هذا الطبق لزوجاتنا العزيزات؟
قال ضاحكًا: اسأل زوجتك أولاً كم يتكلف اللبن والزبد اللازمان لمثل هذا الطبق الآن، فقد أصبح طبقًا ملكيًا بالفعل!
وأضاف: مغزى هذه القصة التى رويتها لك أن تصوير الحاكم فى حياته اليومية كإنسان يأكل ويشرب مثلنا فهذا يكسبه شعبية أكثر وليس كما يتصور الفاشيست وأمثالهم من ضرورة تصوير الحاكم كشيء فوق مستوى البشر، وفى عصر عبدالناصر كان معاونوه حريصين على تصوير عبدالناصر فى الصورة الإلهية، أما السادات كصحفى فقد كان أذكى وترك وشجع كل صحافة وقلم صوره فى الصورة البشرية، فكان حرصه على ارتداء الجلابية، وأن يمسك بالعصا مثل أى فلاح مصرى لأنه يدرك أن هذا يلمس قلوب الناس أكثر.
عبدالناصر عن قرب: أنجح!
• قلت: ألا يفيد الزعامة أن تنسج حولها هالة من التمجيد؟
قال: الدليل على أن الخطة الدعائية التى تحاول تصوير الزعيم على أنه فوق مستوى البشر هى خطة فاشلة ولا تلمس قلوب الناس، إننى عندما كنت رئيسًا لتحرير مجلة آخر ساعة، كانت قد انتهت مدة عبدالناصر كرئيس للجمهورية، وسوف يتقدم مرة أخرى،جميع المجلات والجرائد أصدرت أعدادًا خاصة عن منجزات عبدالناصر السياسية والاقتصادية.. إلخ.. وخطر فى بالى فكرة مغايرة تمامًا، أن نصدر عددًا من آخر ساعة يصور عبدالناصر فى بيته ومع أولاده وفى حياته اليومية.. وأرسلت بعثة من الصحفيين إلى بلدته «بنى مر» فى أسيوط لترى أهله هناك على الطبيعة وكيف يعيشون، وعاد فاروق إبراهيم المصور بكمية هائلة من الصورعن أهل عبدالناصر البعض يعمل فى الغيط ومن يسوق الجاموسة وهكذا.. وأرسلت محررًا من المجلة ليقرأ بريد عبدالناصر اليومى ويكتب عنه موضوعًا صحفيًا، وكان بالفعل بريد عبدالناصر الذى يأتى إليه بريدًا عجيبًا ومضحكًا: مثلاً امرأة زعلانة من جوزها فترسل تشكوه لعبدالناصر، كما أعددنا تحقيقًا صحفيًا رائعًا عن حياة عبدالناصر اليومية: متى يستيقظ من نومه؟ ماذا يفطر؟ كيف يعمل؟ ماذا يقرأ؟ أن يستقبل زواره وضيوفه؟ وطلبنا من المصور حسين بكر أن يمدنا بكل ما يملك من صور صحفية، واخترنا منها مئات الصور.. وعثرت على صورة نادرة ملونة لعبدالناصر وهو يرتدى قميصًا صيفيًا ويقف على ساحل البحر المتوسط فى المنطقة التى كان يقضى بها الصيف بعيدًا عن القاهرة وأصدرنا عدد آخر ساعة وغلافه كانت هذه الصورة وعنوان واحد فقط: عبدالناصر عن قرب!
وكانت كلمة «عن قرب» هى مفتاح هذا العدد، لأن الناس كانت تعرف عبدالناصر «عن بعد» ولا يعرفونه «عن قرب».. ونفد العدد فى الحال، فطبعنا ضعف ما كنا قد طبعناه ونفد أيضًا.. هذه التجربة «عبدالناصر عن قرب» أكدت لى كصحفى ما كنت أعرفه، وما كان يعرفه السادات أيضًا أن الحاكم القريب من الناس، الذين يمكنهم أن يتوحدوا معه وأن يشعروا أنه مثلهم هى الصورة الأنسب للحاكم من صورة الكوكب المطل من عليائه.
تحولنا فى حضور عبدالناصر إلى قراء!
عدت لأسأل: وهل كان عبدالناصر على معرفة بهذا العدد.. وهل اطلع على مواده وصوره وهل كانت له ملاحظات مثلاً؟!
قال: بعد أن تم إعداد العدد تقريبًا.. أخذت كل الصور التى حصلنا عليها وذهبت لمقابلة السكرتير الخاص لعبدالناصر وكان «محمد أحمد» وقتها وعرضت عليه الصور التى حصلنا عليها من حسين بكر وفاروق إبراهيم، ثم أخذها ودخل إلى عبدالناصر وغاب لمدة ثم عاد وقال لى: الريس موافق على كل الصور وبلاش صور موضوع بنى مر خالص!
• قلت لصلاح حافظ: ولماذا؟
قال: فيما بعد سمعت أن أهل عبدالناصر فى «بنى مر» كانوا قد تجبروا وأصبحوا إلى حد ما غير مرضى عنهم من أهل القرية والناس متضايقة منهم!
• قلت: ولم تقابل عبدالناصر أيضًا فى تلك المرة!!
قال: اطلاقًا.. طول حياتى لم أقابله مقابلة شخصية، أنما رأيته فى مؤتمر صحفي!
• قلت بإلحاح: وخلال المؤتمر الصحفى ألم تخاطبه.. تسأله مثلاً؟!
قال: اطلاقًا.. لم يحدث أن خاطبته على الإطلاق، وحتى هذا المؤتمر كان من أغرب المؤتمرات الصحفية، كان المؤتمر فى أعقاب الأزمة مع إسرائيل وبعدها بفترة قليلة نشبت حرب يونيو 1967، حضر هذا المؤتمر الصحفى مراسلون وصحفيون من كل أنحاء العالم.. ودعى رؤساء التحرير المصريون لحضور المؤتمر.. وأخذ كل صحفى يكتب أسئلته وتسلم إلى الأستاذ محمد فائق الذى كان يجلس بجوار الرئيس عبدالناصر، وكتب الصحفيون المصريون ما لديهم من أسئلة وسلموها أيضًا لمحمد فائق، وبدأ المؤتمر الصحفى بأن يقدم فائق الأسئلة إلى عبدالناصر ليجيب عليها.. وسلم محمد فائق كل أسئلة الصحفيين والمراسلين الأجانب إلى عبدالناصر وأجاب بدوره عليها جميعًا.. ولم يسلم له أسئلة الصحفيين المصريين.
• سألت: لماذا؟
قال: لا أدرى يا سيدى.. ولكن ما أدريه أننا فى هذا المؤتمرالصحفى لم نكن صحفيين وإنما كنا «قراء» أتينا نستمع لأسئلة الصحافة الأجنبية وإجابة عبدالناصر عليها، ونتفرج على ذلك كله.
لهذا أقول إن الصحافة المصرية على اطلاقها كانت تشعر بالمذلة وأنها صحافة من الدرجة الثانية إذا ما قورنت بالصحافة الأجنبية ولو كانت صحافة بلاد أقل قدرًا من الصحافة المصرية!!
• قلت: بعد صدور قانون تنظيم الصحافة صار التنظيم السياسى المالك للصحيفة هو الذى يعين رئيس التحرير.. ويطرح البعض ضرورة اختيار رئيس التحرير بالانتخاب! ما هو تصورك لهذه المشكلة؟!
قال لى صلاح حافظ: أنا رأيى أن قضية انتخاب رئيس التحرير هذه قضية مبنية على سذاجة! وعدم فهم كامل لمهنة الصحافة، لأن رئاسة التحرير مسألة تشبه إخراج الفيلم السينمائي- وأنا أتكلم من الناحية المهنية البحتة- فلا يمكن عند إخراج الفيلم أن نأتى بكل العاملين فيه ونطلب منهم انتخاب المخرج، فمن الممكن جدًا أن يكون مثلاً عامل الإضاءة قد قام بتسليف كل العاملين فى الفيلم مبالغ نقدية لذلك سوف ينتخبونه مخرجًا!!
وليس شرطًا أن يكون رئيس التحرير هو أحسن كاتب أو صحفى،وإذا نظرت لمجلات مثل «التايم» أو «النيوزويك» لن تجد رئيس التحرير كاتبًا معروفًا! لكن رئيس التحرير هو «مايسترو» ناجح فهو يعرف أن فلانًا ينجح إذا كتب الموضوع الفلانى، وفلانًا ينجح إذا رسم حملة معينة.. وهكذا.. وفى نفس الوقت لابد أن يتوافر لدى رئيس التحرير حس نقدى ممتاز، فيدرك أن هذا الموضوع لذيذ أو بايخ وأن هذه النكتة سخنة أو باردة ودمها ثقيل!! وهذه كفاءة ضرورية لرئيس التحرير لن تأتى بالانتخاب، ولكن إذا أجريت انتخابات داخل الصحيفة لاختيار رئيس التحرير فسوف ينجح صاحب أعلى كفاءة انتخابية وليس صاحب أعلى كفاءة فى النقد والتذوق والحس المرهف وتحميس الناس وشحنهم وقيادتهم، ومن الضرورى أيضًا أن يتوافر فى رئيس التحرير جزء إدارى ناجح وكذلك جزء قيادى ناجح، بصرف النظر عن كونه كاتبًا أم لا!!
فمثلاً توفيق الحكيم كاتب عظيم، ولو أعطيته رئاسة تحرير جريدة، فلن تنجح لأنه رجل فنان وإذا طلبت منه رئاسة جمعية مثلاً يجرى منك ويصرخ: ابعد عني!!
وكما أنك فى جميع المهن الأخرى تختار القيادة الكفء فكذلك الصحافة!!
والنقطة الثانية أن رئيس التحرير لابد أن يكون لديه سلطة مطلقة لأنه أولاً هو المسئول قانونًا عما يكتب وينشر فى الصحيفة أمام الرأى العام والمسئولين والقانون.. وليس من المنطقى أن يكتب الصحفى ما يشاء ثم يحبس ويسجن رئيس التحرير!
إذن رئيس التحرير مطلوب أن يتوفر فيه الكفاءة، ومطلوب إعطاؤه سلطة، ومن هنا فإذا اخترت رئيس التحرير بالانتخاب فستصبح سلطته دائمًا مقيدة، لأن حدود سلطته خاضعة للناخبين وليس لتقديره كصحفى هذه مهنته وهو يفهمها أكثر من غيره.
وسيكون رئيس التحرير فى وضع فريد من نوعه، مسئوليته أمام القانون مطلقة، وسلطته فيما يجرى باسمه مقيدة، وأذكر أن بعض الصحف المقاتلة قبل الثورة- ومنها روزاليوسف، كانت تحمى رئيس تحريرها الفعلى باختيار رئيس تحرير شكلى تكتب اسمه على الصحيفة، حتى يسجن بدلاً منه! وكان هذا مما نتنذر به، ولا أظن أن من الحكمة بعد- خمسين عامًا- أن نكرر نفس النادرة.. أخيرًا لابد أن نحترم المثل الشعبى المصرى القائل: «اعط العيش لخبازه ولو يحرق نصفه»!!
حكايتى مع الكاريكاتير!
• قلت: فى رسالة دكتوراه عن الكاريكاتير السياسى فى السبعينيات للدكتور عمرو عبدالسميع أكد فيها أن أكثر رؤساء التحرير فهمًا لوظيفة الكاريكاتير وإمكان استخدامه السياسى هم: هيكل، ومصطفى أمين، وأحمد بهاء الدين، وصلاح حافظ، ومكرم محمد أحمد ما حكايتك مع الكاريكاتير؟!
قال أنا أعتقد أن الكاريكاتير أداة تعبير مهمة مثل المقال أو الصورة كما أنه أداة تعبير ممتعة كما أن تأثيره عميق، ولقد شاركت فى صياغة أفكار الكاريكاتير فى روزاليوسف مع الأستاذ إحسان عبدالقدوس فى الاجتماع الذى كان يحضره عبدالسميع، بعد ذلك عايشت وصادقت واحدًا من أخطر أصحاب الأفكار الكاريكاتيرية وهو الفنان مأمون الشناوى وياما جلسنا مع زهدى وآخرين وكان مأمون الشناوى يأتى كل ثانية بعشرات الأفكار الكاريكاتيرية، مأمون ابن نكتة.
وأنا فى معالجتى للكاريكاتير سواء كرئيس تحرير أو غيره أننى أنظر للكاريكاتير، عندما أحس أنه فى أهمية مقال أقرر نشره فى صفحة كاملة، كاريكاتير آخر ممكن يكون بمثابة مانشيت فاعمله غلاف المجلة.
• قلت: ذات يوم وفى أعقاب صدور قانون تنظيم الصحافة وعندما اجتمع الرئيس عبدالناصر بالقيادات الصحفية أمسك مجلة «صباح الخير» وقال فى غضب: الصورة الكاريكاتورية اللى بتمثل الزوجة على أنها خاينة لأنها حطت ثلاثة فى دولاب.. أبدًا مش دم مجتمعنا.. أنا معرفش أنا مش متصور أن مجتمعنا فيه زوجة تحط ثلاثة رجال فى الدولاب.. وعلشان كده بتحط لهم تكييف هواء.. ده مجتمع مين أنا معرفش.
ضحك صلاح حافظ وقال: وكان هذا الكاريكاتير أيضًا للأستاذ حجازى المهم بالنسبة للكاريكاتير عمومًا هناك قاعدة المفروض أن يلتزم بها رؤساء التحرير والحكام، لابد أن يعرفوا أن الكاريكاتير ليس خبرًا لا يقول حقيقة علمية، إنه فن يبالغ ويضخم، لأن النكتة مبنية على المفارقة والخيال والوهم، أما إذا رسم نكتة لمسئول ما ومناخيره كبيرة شوية قد تجد المسئول يصيح: مؤامرة.. لأنه لا يدرك أن الكاريكاتير يعنى الدعابة والمبالغة، ولما تيجى الدولة تحاسب رسام الكاريكاتير عندما يقول مثلاً إنه مفيش رز على أنه كذاب ويزيف الحقائق هنا يحدث له إحباط وقد يهاجر.. وهذا ما قلته للسادات بشأن كاريكاتير لحجازى. • قلت: ماذا تقول عن حجازي؟!
قال: واحد من عباقرة الكاريكاتير فى مصر ونموذج نادر، رشيق الفكرة، رشيق الخط، ساخر بالفطرة، وهو فنان أكثر منه سياسى.
• قلت: وصلاح جاهين؟
قال: فنان موهوب، والفكرة العادية عندما يرسمها تصبح فى منتهى الطرافة، وكاريكاتيره شديد البساطة، لذلك فهو قريب من الشارع.
• قلت: وبهجت؟
قال: من الموهوبين فى الكاريكاتير الاجتماعى،موهوب للنكتة الجميلة جدًا، وهو من النماذج التى تأثرت بالجو العام فاتجه ناحية الكاريكاتير السياسى،ولا أدرى لماذا يتجه كل الرسامين إلى مجال السياسة، لأن هذا أضعف الكاريكاتير الاجتماعى وهو لا يقل أهمية عن الكاريكاتير السياسى يعنى كونك تنقد علاقتى بزوجتى لا يقل أهمية عن نقد الشعب للحكومة.
ومن العيوب التى أصابت الكاريكاتير المصرى أنه انصرف إلى الاتجاه السياسى وأصبح الكاريكاتير الاجتماعى قليلاً وكذلك الفنى،يعنى ابتسامات «رمسيس» عن التليفزيون حلوة ولذيذة لأن زى ما بقولك الكاريكاتير أداة تعبير مثل الكتابة، وتصور مثلاً أن جميع الكتاب بقوا يكتبوا سياسة ومحدش كتب فى الفن أو الأدب أو الحموات.. مش معقول طبعًا.. وتبقى الحياة بايخة قوي!
• قلت: عبدالسميع؟
قال: ابن نكتة، باحث دائمًا عن الجديد ولا يدفن نفسه فى إطار مذهب فنى،يعنى لو زهق من الرسم يكتب قصة، ولو زهق من كتابة القصة يؤلف مسرحية أو زجلاً رياضيا وهكذا. • قلت: وإيهاب؟
قال: كاتب يقول وجهة نظره بالكاريكاتير.. ولا أذكر أنى راجعته فى أى كاريكاتير قدمه لى خاصة شخصيته فرقع لوز.
• قلت: وزهدي؟!
قال: نحات خطير جدًا وهو بارع فى الكاريكاتير السياسى،وهو فنان محب للكاريكاتير، ومصر خسرت كثيرًا أنه لا يوجد فى ميادينها تماثيل من صنع زهدى.. وهو يأتى وراء المثال مختار مباشرة، وهو أكثر فنان مظلوم فى مصر من حيث الشهرة والدخل.
• قلت: وناجي؟
قال: فنان وهو كنز من المقدرة التشكيلية، كاريكاتيره لا يؤذى أحدا، لأن ناجى شخصيًا لا يستطيع أن يؤذى أحدًا، والكاريكاتير لكى يكون لاذعًا لابد أن يكون فيه «حتة شر»!!
• قلت: ومصطفى حسين؟!
قال: رسام عظيم وفنان أعظم ولا أدرى إيه خلاه انصرف إلى الكاريكاتير لأنه فنان تشكيلى ممتاز بالظبط زى حالة الأديب اللى يكتب فى الصحافة الليثى،رجل ابن بلد وابن نكتة وصارخ بالآلام، وهو لم يكن رسامًا بل كان كاتبًا، وكانت الناس تقرأ السطر الذى يكتبه لا الرسم الذى يعلوه.
رؤوف: فنان يمسك بعود ومازال يجرب أى نغماته التى يستقر عليها، وأعتقد أن رؤوف يعيش الحياة ويستمتع بالحياة وقتًا أطول مما يقضيه فى الرسم.
رمسيس: دمه خفيف ولديه المقدرة أن يرى النكتة غير المتوقعة، ويقول فكرته بأقل عدد ممكن من الخطوط، وهو من القلائل الذين لم يبتلوا بعد بداء السياسة.
اللباد: أستاذ فنان مستغرق فى القيم الجمالية والتشكيلية، ولكى تفهم كاريكاتيره لابد أن تكون مثقفًا فنيًا ومتذوقًا للفنون التشكيلية!
شريف: لا يرتفع أحد إلى مستواه فى البورتريه الكاريكاتيرى،لم يصل أحد إلى هذا المستوى منذ «سانتس» وزهدى.
محسن وجمعة: كلاهما يضبط أوتاره ويتهيأ للعزف.. أعتقد أنه سيكون جديدًا وممتعًا.
•••
ماذا يبقى من حوارى مع صلاح حافظ؟!
أغضب الكثيرين.. نعم! أمتع الكثيرين نعم.. هل قال كل ما عنده ربما..
كان حوارى معه فيما أتصور محاولة لرصد ما كان يجرى فى كواليس الصحافة ودهاليز الثورة.
ولكى أكون أمينًا معه ومنصفًا له لم أنسى قبل الختام أن أسأله: هل لديك أقول أخري؟!
قال: نعم يجب أن تقول لقرائك إن هذا الحوار كله لم يكن سياسيًا، وأنما هو حوار مهنى بحت، أى أننى تناولت السياسة بمنظار المهنة الصحفية ولم أتناول الصحافة بمنظار سياسى،كان تصورى طول الوقت أننى اصحفى عجوز يتحدث إلى صحفى شاب على سلم المطبعة أو حول رخامة التوضيب وضجيج العجلات وهى تلتهم الورق وتلتهم أيضًا نصف ما يتبادلان من كلمات ومعانٍ.
وقد كنت دائمًا ضد بدعة الأحاديث التى يدلى بها صحفيون إلى صحفيين مثلهم، ولكنك نجحت فى استدراجى إلى ما كنت أعيه على غيرى،هذا دليل جديد يضاف إلى آلاف الأدلة على أن جيلكم أكثر ذكاء منا.
ثم ابتسم وأضاف:
- وأنا أعدك بكل إخلاص ألا تستدرجنى مرة أخري!
رشـاد كامـل