الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

تليفزيون «دليفرى»

من المحاسن العظيمة للعزلة المنزلية لفيروس «كورونا»، أنها جعلتنى أستعيد وأستمتع بالدراما التليفزيونية التى أنتجها التليفزيون المصرى فى فترات الثمانينيات والتسعينيات وحتى بدايات الألفية الثالثة، وخاصة أعمال المبدعين: أسامة أنور عكاشة، ويسرى الجندى، ووحيد حامد، ومحفوظ عبد الرحمن، وعاطف بشاى، ومحمد فاضل، وإنعام محمد على، وإسماعيل عبد الحافظ، وعمار الشريعى، وميشيل المصرى، وعبدالرحمن الأبنودى، وسيد حجاب، وفؤاد نجم، وعلى الحجار، ومحمد الحلو.. الأمر ليس مجرد حنين للذكريات، بل بحث داخل الذات حول تأثير هذه الدراما، وماذا بقى منها داخل  العقل والنفس من قيم وأفكار ومشاعر بعد مرور كل هذه السنوات؟؟.. واكتشفت أن الرصيد الباقى ثمين للغاية.. لا أحد يستطيع أن ينكر الدور الأساسى الذى لعبه التليفزيون فى التكوين الثقافى واتجاهات الرأى العام السياسية والاجتماعية والدينية لأغلب الأجيال التى ولدت فى مصر بعد  1960،  عام ميلاد التليفزيون المصرى الوطنى، خاصة أن معدلات قراءة الكتب والجرائد لم تزل ضعيفة بين المتعلمين، ونسب الأمية ما زالت مرتفعة فى الريف..  والسؤال: هل يلعب التليفزيون المصرى دورًا فى تكوين الأجيال الشابة، كما كان بالنسبة للأجيال الأكبر؟.. وهل ما زالت نشرتا أخبار السادسة والتاسعة فى القناة الأولى هما مصدرا الأخبار الأساسية؟.. وهل ما زال الناس يتابعون مسلسل الساعة السابعة وينتظرون أفلام السهرة والمسرحيات والحفلات الموسيقية بنفس الحماس والشغف؟.. وهل ما زالت البرامج الحوارية السياسية والاجتماعية تشكل مصدرًا أساسيًا للمعرفة وتكوين الرأى.  الإجابة المؤكدة: أن السنوات العشر الماضية شهدت تراجعًا كبيرًا فى وزن وتأثير التليفزيون المصرى لدى فئات عديدة من المشاهدين وخاصة بين النشء والشباب.. والأسباب معروفة منها: بيروقراطية وترهل جهاز التليفزيون القومى من جهة، والإيقاع السريع والخصوصية والتنوع  لعالم الإعلام الإلكترونى الذى استحوذ على قطاعات كبيرة من المشاهدين من جهة أخرى، مما يجعل المنافسة من قبل التليفزيون المصرى أمرًا صعبًا للغاية.



تليفزيون لكل مواطن 

المشهد المعتاد اليوم للأسرة المصرية فى الطبقات الوسطى، وهو أفراد الأسرة المجتمعة فيزيقيًا فى مكان واحد، لكن كل واحد فيهم فى دنيا مختلفة ثقافيًا وشعوريًا من خلال توحده مع جهازه الإلكترونى، سواء كان «موبايل» أو«تابلت» أو «لاب توب»،.. حيث يصير الإنسان والجهاز وحدة واحدة غير منفصلة. وكل واحد من أفراد الأسرة لا يعرف ماذا يشاهد الآخر وما هى مصادره السياسية والدينية والترفيهية..  هذا المشهد يختلف بالكلية عن مشهد الأسرة المجتمعة فى الماضى القريب حول جهاز التليفزيون  يشاهدون القنوات الأولى والثانية والثالثة المصرية التي  تنقل توجهات الدولة السياسية والاجتماعية من خلال الأخبار والبرامج الحوارية، ولديها معايير فنية ملتزمة أخلاقيًا فيما تنتجه من دراما فلا تسمح بالمشاهد أو الملابس أو الألفاظ التى تجرح القيم العائلية. وتكتم الصوت وأحيانًا تقطع المشاهد الخارجة فى الأفلام السينمائية والمسرحيات..  فى إطار هذا المشهد كان يمكن للتليفزيون المصرى أن يؤثر فى صياغة وعى جمعى سياسى وقيمى وفنى لأغلب المشاهدين..  أما اليوم فهناك صعوبة بالغة أن يستمر التليفزيون الرسمى فى لعب هذا الدور،  وقد صار لكل مواطن تليفزيون خاص وبرامج خاصة به، وصار كل مواطن يمتلك قناة على اليوتيوب والتيك توك، يستطيع من خلالها لعب دور المذيع والممثل والمعلق السياسى والرياضى والفني!!

التوعية الاجتماعية

شكل دعم التليفزيون الرسمى لحملات التوعية الاجتماعية المختلفة  أحد الأدوار المميزة له فمن منا ينسى حملات تنظيم الأسرة، وتطعيم شلل الأطفال، ومكافحة الجفاف، وعلاج البلهارسيا، ومناهضة ختان البنات، ومن الحملات الحديثة علاج الالتهاب الكبدى الفيروسى (سي)، والوقاية من فيروس «كورونا».  وتثبت أغلب الأبحاث الاجتماعية والإعلامية أن التليفزيون المصرى كان  مصدر المعلومات الأساسية للجمهور فى مثل هذه القضايا الاجتماعية والصحية. وأن بعض هذه الحملات الإعلامية نجحت ليس فقط فى توصيل المعرفة والمعلومات بل فى تغيير سلوك المصريين بالفعل وتخفيض حدة المشكلة على المستوى القومى.. يواجه هذا الدور - رغم أهميته - تحديات كثيرة، أهمها التمويل الخاص باستمرارية الحملات وتكرارها على فترات زمنية طويلة لتحقيق التغيير المطلوب.. وأتمنى بمناسبة احتفالنا بالعيد الستين للتليفزيون أن نفتح حوارًا مجتمعيًا جادًا حول كيفية تجديد دور التليفزيون رغم كل هذه التحديات والصعوبات؟.. وقد قصدت استخدام تعبير تجديد الدور وليس استعادة الدور والريادة والقيادة الإعلامية. لأنه لا يمكن استعادة الدور إلا اذا تم استعادة السياق السياسى والاقتصادى والإعلامى الذى أنتجه، وهذا هو المستحيل ذاته.. الممكن الآن هو تجديد الدور، بمعنى فهم مستجدات السياق الراهن من احتياجات المجتمع وتوجهات الأجيال الجديدة وتحيزاتها وهمومها. ومن ثم تحديد القيمة المضافة والدور المميز للتليفزيون المصرى، والذى أتصوره أن يصير حاضنة للكوادر الإبداعية والإعلامية الشابة، من حيث التكوين الرصين وتراكم الخبرات وإتاحة الفرصة للتعبير وإطلاق طاقاتهم للتغيير والتجديد.