الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

رجاء: رقى المشاعر.. وأناقة الحكمة

شخصية فريدة عاشت حياة متناقضة.. ولدت فى أسرة أقل من المتوسطة، ولكن خالتها فى غاية الثراء الست/ تحية كاريوكا فى عز مجدها وجمالها وشهرتها، والتى رغم كل عطاءات الله حرمت من الذرية.. ومع مشاعر الأمومة المسيطرة عليها، وجدت فى بنت شقيقتها العوض.. لم تمانع الأم، لأن تحية ستوفر لابنتها حياة من المستحيل أن تستطيع توفيرها لها..فعاشت رجاء فى منزل خالتها حياة الأميرات..تأمر تطاع، ترتدى أغلى الثياب، و«دادتها» تستجيب لكل احتياجاتها.



حرصت الخالة على تربيتها تربية أرستقراطية، فتعلمت العزف على البيانو وألحقتها بأرقى المدارس.. فتعلمت عدة لغات وأصول الإتيكيت.. وعندما شبت، أخذها الحنين إلى العودة إلى أمها.. مما أثار الخالة وأغضبها، وخيرتها بين الحياتين: «إما معى..أو أتركك ولن أساعدك».. ولأنها تتمتع بإرادة حديدية، لم تبال بمباهج الحياة التى توفرها خالتها.. وعادت لترتمى فى أحضان أمها، تتمنى تعويضها عن الحرمان الذى عانته فى بعد ابنتها.. ولأول مرة تعرف الاحتياج، ولكنها رغم صغر سنها بحثت عن عمل حتى وجدت فرصة فى جراج، بمرتب ضئيل ولكنه أسعدها.. وقد حكت فى لقاء مع الإعلامية منى الشاذلى عن معاناتها وقالت: «أنا قبل ما أشتغل وربنا يكرمنى، مكنش عندى إلا طقم واحد بس، كل يوم بغسله وألبسه.. وألفت مقولة إن الموظف مينفعش يلبس إلا طقم واحد عشان كده.. عشان معنديش لبس».. وأكملت والدموع فى عينيها: «جزمتى لما اتقطعت قعدت 3 شهور رابطة رجلى على الجزمة، كأن رجلى وجعانى..عشان مكنش عندى فلوس أجيب جزمة.. الجزمة فى الوقت ده كانت بـ99 قرش عند كايزك فى شارع فؤاد.. تديله جنيه يديكى قرش صاغ.. وأنا مكنش معايا ده..لما بقى معايا فلوس واشتغلت، بقوا يبصوا عليا ويقولوا شوفوا جميلة وأنيقة.. أضحك وأفتكر الجزمة.. وبقول أى إنسان يمر بظرف صعب لازم مينسهوش أبدًا..عشان دايمًا يحس بالناس ويحس باللى بيعانى»..وحكت بخفة ظلها عن زواجها من كابتن مختار..ولم تخجل أن تصرح باشتراكهما فى شراء الدبل، وأنها لم ترتد فستان فرح إلا فى التمثيل وعروض الأزياء.. رجاء رحلة عطاء كبيرة، وقصة كفاح ملهمة توجت حين وقفت على المسرح أمام الرئيس السيسى وامتدح أناقتها.. وحين صفق الجمع وضحك.. استطرد الرئيس بأجمل الكلمات وأكثرها تعبيرًا عنها أنه قصد أناقة التصرفات والكلمات بجانب أناقة الملابس.. ردت على الرئيس باكية: «أنا خدت أعلى وسام النهارده»..والحقيقة هى دائمًا الأنيقة بلا ابتذال.. والتى تجبر الناس على احترامها.. وقد فوجئنا جميعًا بحبنا لها وحزننا عليها، وتعددت العزاءات ممن يعرفها وممن لم يقابلها يومًا.. ولا غرابة فى هذا الحب بعد كل ما قدمته فى حياتها.. ومشاركتها فى كل تبرعات المستشفيات، ورعاية الأيتام، وموائد الرحمن.. وبالغ الاهتمام بكل من يمرض أو تغدر به الأيام من زملائها.. وتعمل فى الخفاء أضعاف ما نعلمه عنها.. ومن حكايتها الطريفة والتى تدل على معدنها الأصيل، وطيبة قلبها، حكاية من أكثر من ٤٥عامًا.. طرقت الباب عليها طفلة عمرها ١٥ سنة، فتحت لها وجدت فى يدها مجلة عليها صورة رجاء الجداوى..قالتلها: «والنبى يا ستى أنا جيالك من المنوفية وأنا بحبك وعايزه أشتغل عندك هنا وأعيش معاك»..رحبت بها وعاشت معها وأصبحت مديرة البيت واعتبرتها بنتها وصديقتها..المفاجأة أن هذه البنت عاشت معها لمدة ٤٥سنة، إلى أن بلغت الستين!..ترافقها كظلها.. وعاشت أجمل أيامها فى بيت رجاء، التى لم تردها وتخيب رجاءها، وجبرت خاطرها.. حكايات كلها علامات تضئ الطريق، ولكن ساءنى ما قام به موقع «اليوم السابع» بعرض كل مراسم الدفن.. بلا أدنى احترام للخصوصية.. والتركيز على التحذير الذى كتب على الكيس الأسود الذى داخله الجثمان!!.. بلا مرعاة لمشاعر أسرتها ومحبيها!. دخلت رجاء إلى التاريخ بسيرة عطرة وذكريات جميلة لدى كل من عرفها.. لقد بكينا رجاء مع كلمات الإعلامى عمرو أديب، فى الحلقة المتميزة التى خصصها لتقبل العزاء فيها.. وتأثرت بكثير من كلمات العزاء على مواقع التواصل الاجتماعى، ولكن أكثرها تأثيرًا عزاء أمى (علا مكاوى) تحت عنوان (الثبات رغم الانهيار): «وقفت فى انهيار تام..وكل ذرة فى جسدها ترتعد.. ولا تريد إلا أن تؤدى الواجب كما ينبغى مع من لم تقصر يومًا، من أعطت وظلت تعطى حتى أوان الرحيل.. وقفت تتمنى أن تلمسها.. تقبلها.. تحتضنها!!.. ولكن..عز اللمس والهمس والاقتراب!.. أصبحا فى عالمين مختلفين لأول مرة.. تناشدها وترجوها أن تقوم كما عودتها دائمًا.. ولكن انتهى الوقت!.. ولا حوار بعد اليوم إلا من طرف واحد!..إنها (أميرة مختار) وحيدة الطيبة العاقلة المحترمة رجاء الجداوى.. وقفت لأنه لا بديل عنها يودع من أفنت العمر فى العطاء.. فأمها سيدة من زمن الأصالة والمشاعر التقية النقية.. والتى تعلم أن الله خلقنا للعطاء والتضحية ولإسعاد المقربين، والحفاظ على مشاعر خلق الله ولو من كلمة أو لفتة تجرح شعور.. وقفت أميرة تنظر إلى الجثمان الذى سيوارى تحت التراب وتحرم من رؤيته مرة أخرى!..زلزال فى جسدها.. وانهيار مكتوم.. وعيون تحتضن الصورة خشية أن تغيب.. وحضن بالقلب لمن لملمتها طوال العمر.. من حملت عنها أحزانها وقت فقد الأب.. من صانت وحمت وقوت فى كل أزمة ومحنة.. واليوم هو المحنة الحقيقية.. محنة فقد الحضن والسكن والأمان.. فقد الملجأ بعد الله سبحانه وتعالى.. الأم هى الملاذ الآمن الذى يستر ويجبر.. والذى يزيل الهم وإن عظم.. الأم هى الوطن الأول.. وبدونها الغربة الأبدية.. رحم الله أمى وكل أم.. والعزاء دائما لكل من فقد جسد أمه.. لأنه لا يفقدها طالما هناك نفس فى الصدر!.. ولكنه يفتقدها ويبحث عنها داخله كى يفكر بعقلها ويفعل ما يرضيها..خالص التعازى لأميرة مختار وابنتها الحفيدة الجميلة التى فقدت صديقتها، وستعانى فى صمت حتى لا تزيد مواجع أمها.. هذه الحفيدة التى ملأت حياة جدتها بالفرحة والسعادة وحب الحياة.. أعلم أن أكثر ما كان يقلق ويؤلم الفقيدة رجاء، خشيتها على ابنتها وحفيدتها من آلام الفقد والفراق.. لأنها تعلم كم هى سند وقوة لهما.. وبخبرة السنين تعلم قدر المواجع.. وماذا نملك إلا الإيمان والرضا بقضاء الله؟.. بكل صدق أدعو من قلبى إلى اليتيمتين (أميرة وروضة) بالثبات.. أعانكما الله على ثقل الأيام ولكنها سنة الحياة!».