السبت 11 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

العودة للبيت واعتزال الفن..

..وهبّت رياح الصحراء

ريشة: أحمد وحيد
ريشة: أحمد وحيد

لعقد الثمانينيات وقعٌ أو تأثيرُ لايزال موجودا حتى الآن،  قد بدأت ملامحه تتحدد منذ منتصف السبعينيات، بموجب السياسات التى اتخذها الرئيس السادات أساسا وعنوانا لحكمه، فقد بدأ سياسة الانفتاح الاقتصادى ومعه الخطوات الأولى فى طريق بيع القطاع العام وتوقف خطط التنمية، التى توقفت بمجرد جلوسه على مقعد الرئاسة. وكان أن أسمى نفسه «الرئيس المؤمن» - وكأن من سبقوه كانوا غير مؤمنين ـ وفتح المجال العام بمنتهى الحرية والدعم للإسلام السياسى وأعاد بث الروح فى جسد جماعة الإخوان المسلمين، بل وأتاح ودعم التدريبات العسكرية للجماعات الإسلامية التى اغتالته فيما بعد.



وفتح  «السادات» نوافذ البلد لرياح الصحراء المحملة بأتربة ورمال الفكر الوهابى الذى استهدف ضرْب الوجدان والثقافة ومنظومة القيم المصرية. ولأسباب كثيرة تسلل فكر الصحراء ولم تتم مواجهته، فقد استكان له وفتح له مزيدًا من النوافذ والأبواب نظام مبارك الذى جاء مع عَقد الثمانينيات، والذى شهدت فيه مصر كثيرًا من مظاهر انهيار المنظومة القيمية للمصريين؛ خصوصًا فيما يتعلق بالمرأة.

المرأة الخيمة

 وانتقلنا من قيم احترام المرأة واحترام ورعاية حقها فى التعليم والعمل ومن قيم شكّلت الوجدان وغنّينا معها: «يابنت بلدى زعيمنا قال قوى وجاهدى ويّا الرجال» لقيم الصحراء التى تعتبر المرأة عورة ولا مكان للنساء إلا قعر بيوتنهن. واختفت نساء مصر الجميلات اللواتى كن يتميزن بالجمال والأناقة والبساطة، وأصبحن مجرد كائنان تسير متوارية ومتخفية أسفل ملابس قبيحة فضفاضة، تدارى أجسادهن اللواتى يعتبرنها عورة، حتى شعورهن الجميلة التى كانت أحد مظاهر الأنوثة الراقية قد اختفت تحت قطعة قماش، وفى هذه الفترة انتشرت محلات الملابس المخصصة للمحجبات، وشكلت ثقلا اقتصاديّا انتشر فى ربوع البلاد فارضًا الزى والذوق الموحدَين، واختفت الموضة التى لا تقل عن الموضة الباريسية، بل والتى تضاهى أحدث ما تنتجه بيوت الأزياء العالمية، وأصبحت نساء مصر كما وصفتهن الكاتبة الكبيرة أمينة السعيد، خيامًا تسير فى الشوارع.

وارتبطت هذه الرؤية بأنها من صحيح الدين وهى لمُرضاة الله، وجاء مع رياح الصحراء لينشر ويرسّخ لأسلمة المجتمع وفقًا للفقه أو العقيدة الوهابية الشيخ محمد متولى الشعراوى، وتبعه حشد من حاملى نفس الخطاب الذى حقّا أهان النساء وحط من شأنهن وجرّم وحرّم حقهن فى التعليم والعمل.

وكان هو الأقوى تأثيرًا، بداية لرؤية المجتمع لعمل المرأة أو فى دوره فى تحريم الفن ودفع الفنانات للاعتزال. وعن خطابه الذى انتشرعن المرأة فعندى يقين أنه عاد إلى مصر بهدف محدد وهو نشر المذهب الوهابى وأسلمة المجتمع بنشر الفكر والفقه الوهابى. فكان وبطريقته المسرحية البسيطة والقريبة من الوجدان الشعبى فى مهاجمة وتحريم عمل المرأة والسخرية والحط منه. وينقلب المجتمع الذى آمن فى الماضى القريب بحق المرأة فى التعليم والعمل إلى مناقشة قضية أعادته أكثر من قرن من الزمان إلى الوراء، فأصبح يناقش حرمانية عمل المرأة، بل تغيرت قيم النساء أنفسهن ورؤيتهن لأهمية العمل ولحقهن فيه وأصبح من العادى القول وبمنتهى الثقة واليقين: «الست مكانها البيت» و»ربنا خلق الست علشان تتجوز وتخلف وتخدم جوزها وعيالها»، ومن الصادم حقّا أن هذا العَقد شاهد أمهات عاملات فى كل المجالات، بينما بناتهن يعشن بين رفض العمل أو طرح أهميته للمرأة للنقاش.

كاسيت التحريم

وفتح «الشعراوى» الباب لهبوب رياح المعاداة للمرأة تحديدًا، فانتشر فى هذا العقد وحتى التسعينيات ظاهرة شرائط الكاسيت التى لم تترك نقيصة أو جرمًا إلا وألصقته بالمرأة، بداية من غلاء المعيشة وانحراف الأبناء وحتى أنهن حطب جهنم ووقود نارها. وكان لأئمة المساجد والزويا التى انتشرت منذ عهد السادات دور ومكان فى إهالة «السخام» الأسود على ذلك النوع الشيطانى من المخلوقات المسمى بالمرأة، تلك التى سكنها إحساس بالدونية فى المجتمع وفزع ورعب من العذاب الذى ينتظرها فى نار جهنم الحمراء.

طبعًا لا يفوتنا أن نتذكر صراخ وسُباب الشيخ كشك فى ميكروفون الجامع، ذلك السُّباب الذى لم ينج منه أحد.  مع هذه الهجمة الوهابية التى حملتها رياح الصحراء مع دعاتها ورموزها انتشرت الدعوة للحجاب، فى إطار الحط من المرأة بصفتها أسّ البلاء والفتنة والغواية وإن جسدها الشيطانى لا بُد أن يغطى على الأقل ـ هذا إن لم تستطع حبسه بين أربعة جدران ـ  ثم وبعد تهيئة المناخ العام تأتى خطوة ضرب قوة مصر الناعمة لتدمير تراث مصر الثقافى الفنى، وقاد «الشعراوى» حملة دعوة الفنانات للاعتزال، وأصبح الفن حرامًا تتبرأ منه الفنانات وأصبح تاريخنا الفنى العريق خطيئة لن يمحوها سوى التوبة عن الفن. وسرَت كالنار فى الهشيم ظاهرة الاعتزال هى وغيرها من مخلفات ثمانينيات القرن الماضى لاتزال تطل برأسها علينا فى الربع الأول من القرن الواحد والعشرين.