الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

سمّيناك باسمها مريم

ريشة الفنان: محسن رفعت
ريشة الفنان: محسن رفعت

قلقت كثيرًا فى الليلة الماضية، كانت أحلامها مبهجة ومقبضة، اختلط الابتهاج بالانقباض، فقامت من نومها قلقة. رأت أمها فى صورة واضحة أعطتها شيئًا، قالت لها كلمة، ابتهجت لرؤيتها فى الحلم. ابتسمت لهذا الشىء الذى أعطته لها، والكلمة فسّرتها على أنها مباركة، لا بُدّ أنها تبارك عيد ميلادها الخمسين، لفت ذراعيها حول صدرها، همست: كل سنة وأنت طيبة يا مريم..



 ابتسمت لتصرفها التلقائى.. فتحت الشرفة واستنشقت نسمات منعشة صباحية.. حكاية اسمها سمعتها كثيرًا منذ طفولتها وفهمتها فى شبابها ووعتها من دراستها العلمية. لقد حملت بها أمها وهى تقترب من عمرها الخمسين.. كانت تظن أن دورتها الشهرية انتهت، ولم تكتشف حملها إلا فى الشهر الثالث. لم تصدق الطبيب عندما أخبرها.. سألته إذا كان يمكن إجهاضها.. قال إنها أنجبت ثلاثة ذكور.. والجنين تكوّن وعليها أن تتحمل فربما تكون بنتًا. كانت العادات زمان أن تضع الوالدات أطفالهن فى بيوتهن بواسطة الدايات أو الحكيمات.. ولأن الأم كان حَملها على غير عادتها يتعبها، فقد قرر الأب أن يولدها الطبيب المعالج وهو ابن خالتها وقد رضعا معًا من أمه فيعتبر أخاها.. وقرر الأب أن تكون الولادة فى البيت على أن ينقلها إلى المستشفى إذا وجد خطورة عليها.. تعثّرت الأم فى ولادتها.. هرع الطبيب إلى الأب لينقلها إلى المستشفى.. كان الأب يستمع إلى القرآن الكريم من الراديو.. كانت سورة مريم.. جاء صوت القارئ الشيخ رفعت الحنون العميق إلى أذن الأم.. اعترتها قوة مفاجئة وهى تتذكر عذاب السيدة العذراء فى الولادة.. تخيلت وجهها المبتسم بالوداعة كأنها تبتسم لها وتشجعها.. وكانت صرخة لطلقة قوية.زهرع إليها الطبيب وبين دهشته وفرحته خرجت الطفلة بين يديه.. سالمة.. قال بصوت مرتفع: بنت.. قالت الأم: مريم.. زغردت الممرضة المساعدة.. وجاء الأب على صريخ المولودة وصيحة الطبيب: بنت، وقال هو أيضا: مريم.

•••

صادف ذلك اليوم إجازة مريم الأسبوعية.. نظرت إلى صورة أمها.. تذكرت حلمها.. حاضر يا أمى سأذهب إلى كنيسة العذراء لأضىء شمعة.. لن أخلف الموعد هذا العام، نعم لم أذهب منذ عشرين عامًا.. لم أنس أنك سميتنى باسمها مريم.. لا بُدّ أنك كنت تعلمين بالظروف الصعبة التى مررت بها وسنوات الغربة عن بلدى.. وانتقالى إلى شقة بعيدة عن هذه الكنيسة للعذراء.

•••

آخر مرة ذهبت منذ عشرين عامًا.. فى عيد ميلادها الثلاثين.. كانت مجموعة من الراهبات يتدربن على التراتيل.. يومها كانت حزينة لاكتشاف الخيانة الرائعة فى علاقة خطيبها بصديقتها المقربة قبل أسبوعين من موعد عقد قرانها فى عيد ميلادها الثلاثين.. لم تصدق أى تبرير قاله أو قالته صديقتها.. اختفت الصديقة، أما الخطيب فقال لها أحد إخوتها محاولاً التخفيف عنها إنه ركب طائرة وشرد.. فهو شارد.. وعلمت أنه سافر للخارج.. لم تسع لمعرفة أى شىء عنه.. واختفى من حياتها تمامًا.

•••

قررت مريم أن تشترى هدية ذهبية لها مادامت وصلت إلى يوبيلها الذهبى.. لتذهب إلى حى الصاغة فى الحسين.. تردد سائق السيارة الأجرة فى توصيلها، ثم ابتسم وقال على شرط أن تقرأ له الفاتحة فى الحسين.. وعدته مبتسمة، سألته عن اسمه.. قال: لفتحى أن يفتح الله عليه.. فى آخر يوم أقام لها كبير إخوتها حفلاً يليق بيوبيلها الذهبى.. وفى الليل قبل انتهائه وقفت فى شرفتها.. السماء صافية، نجوم متلألئة.. نظرت إلى الخاتم الجديد فى إصبعها لامعًا.. أخذت شهيقًا عميقًا.. شعرت أنها خفيفة وهى تخرج زفيرًا ببطء.. كأن ليس لها ماضٍ.. لا فشل واجهته.. ولا عمل مضنيًا قامت به ولا سفريات كثيرة.. ولا حبيبًا أحبته وخانها.. كأنها فى بداية حياة جديدة ستبدأها .. غدًا.