الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

توصيل الأمل من المنازل إلى المنازل

 ليومنا هذا، علمتنا كورونا أن الأزمات وحدها كفيلة بإظهار معدن البشر! ففى تلك الأزمة رأينا أصحاب بعض المهن فى مرونة وشجاعة يحولون مسار أعمالهم لمهن أخرى، مثلما رأينا بعضهم ينكفئ على ذاته ويستسلم فى انتظار زوال الغمة! ولأن الحياة لا تنتظر أحدا.. فقد تزول كورونا ولا تزول خسارة الفشل فى القدرة على المواجهة والتحدي! تلك الصفات التى إن لم تجلب نجاحا سريعا، فعلى الأقل تحفز إرادتنا لتعلم الخروج الآمن من الأزمات بمكسب مادى أو معنوى! مثل بعض هذه النماذج التى غيرت كورونا مستقبلها!



 

صنع بالأمل Made with hope

 

هالة - مثلا- لاحظت انهيار إقبال زبائنها من البنات والنساء على شراء المشغولات الفضية والنحاسية، التى تخصصت فى إعادة تشكيلها لتبيعها بحسب أذواق السوق الحالية. حيث تتراوح الطلبية الواحدة بين عشرين إلى خمسين قطعة فضية أو نحاسية، تظل طوال الأسبوع مشغولة بإعدادها.. وعرضها وبيعها فى ركن صغير بمحل إكسسوارات البيوت الذى يمتلكه زوجها.

 

ولكنها لم تستسلم، وقامت بإنشاء صفحة على الفيسبوك لعرض منتجاتها! ورغم ذلك لم تتلق الاستجابة التى ترضيها وتحافظ على الدخل الذى تضمن به تدبير مصروفات مدراس طفلتيها الخاصة! وسريعا ما أضافت جملة «مع خدمة توصيل المنازل.. من المنازل»!  وهكذا استطاعت إثارة الإعجاب مرتين؛ مرة لإصرارها على العمل من بيتها.. رغم ظروف الجائحة، ومرة لتشجيع عملائها على الشراء من خلال توصيل منتجها إلى بيوتهم بمعاونة زوجها! تقدم منتجها فى كيس قماشى صغير يتضمن قطعة الفضة التى تبيعها، مرفقة بورقة ملونة صغيرة كتبت فوقها جملة مأثورة عن حب الحياة مذيلة بشعار «صنع بالأمل». على وزن الشعار المعروف «صنع بالحب» Made with love  الذى استبدلته بشعار Made with hope

 

الفلاحون يعملون من البيت

 

ولعل ڤيروس كورونا فرض سلوكا جديدا على  المزارعين فى بعض قرى الصعيد، لم يعهدوه من قبل؛ حيث اعتاد الفلاحون العمل طوال ساعات النهار فى الحقول، ثم تغيرت الأوضاع بعد كورونا، وصار المزارعون يعملون فى البيوت! وهو ما يحدث فى إحدى قرى محافظة بنى سويف، كما أخبرتنى إحدى رائدات العمل فى المجال الاقتصادى بإحدى الجمعيات الخيرية.. التى أوضحت أن كورونا فرضت على المزارعين العمل طوال الوقت حتى ساعة الحظر، ثم يعودون إلى بيوتهم حاملين محاصيلهم معهم، للبدء فى استكمال العمل بمرحلة الفرز التى كانوا فى العادة يقومون بها فى الحقول! بعدها يضعون المحاصيل فى أكياس ويبيعونها بأنفسهم للأهالى والتجار، بعدما كان البيع ينحصر فى التعامل مع تجار الجملة، إلا أن ظروف التباعد الاجتماعى وعدم السفر، والسماح بالانتقالات فى أضيق الحدود هى التى ساهمت فى تغيير سلوك الفلاحين هكذا، وإلا يضيع المحصول عليهم! مع عدم التوقع بأن يصبح توصيل المحاصيل للبيوت هو شعار الفلاحين... بعد كورونا، والله أعلم! 

 

ذكاء امرأة تخشى كورونا

 

منذ زمان وعبدالله يعلم أن العمل ليس فقط وسيلة لكسب العيش، بل وسيلة للتخلص من استعداده للاكتئاب كما أخبره الطبيب، حينما أصابته نوبة انقطاع نفس منذ سنوات ونُقل على إثرها للمستشفى. دونما يعلم أنه يعانى من الحزن الشديد بسبب وفاة والدته! فنصحه الطبيب بالعمل، خاصة وأنه ترزى وفنان متخصص فى صناعة الحقائب الجلدية والقماشية المشغولة! منذ ذلك الحين، وزوجته أمل تدرك أن نفسية زوجها على الشعرة كما أخبرها الدكتور، ناصحا إياه  بمساعدته على ألا يصاب بأى ألم أو ضغوطات، خاصة وأنه فى الخامسة والأربعين وليس محببا التعرض لأية أزمات! 

 

منذ حلت جائحة ڤيروس كورونا، بدأ عبدالله يهتم بالأخبارعن ذى قبل، ويتابع أرقم المصابين يوميا، رغم توتره مع معرفة أعداد وحكايات الوفيات التى كثرت.. حتى لم يعد الحزن يأخذ حقه على الذين ماتوا، كما كان يقول! وسريعا ما أقنع نفسه بضرورة العودة للعمل، بل وقام بكسر التباعد الاجتماعى الذى فرضته أمل وابنه وابنته عليه.. نظرا لضعف مناعته، وإصابته بارتفاع الضغط! فعاد للورشة، ملتزما بمواعيد الحظر، لكنه مع الوقت انغمس فى العمل أكثر، وأغلق الباب عليه، ليعمل فى هدوء!

 

انتهى عبدالله من صناعة جميع الشنط، وبدأ فى عرضها لعله ينجح فى تعويض الأسرة ماديا بسبب فترة التباعد! اتصل بزبائنه من أصحاب محلات الجلد وبائعى الأحذية والشنط، دونما فائدة.. فالإقبال منخفض! فرض أسعارا أقل، وعرض البيع بالقطعة.. وغيرها من المحاولات التى كانت تفلح بالكاد فى توفير بعض النقود! ثم لاحظت أمل زوجته كيف بدأت ألفاظه تتحول للسلبية، واليأس، وكيف بدأ يعانى من الوهم بأعراض كورونا، وهى تشجعه على الصمود! فلم تجد وسيلة لحمايته إلا بالنزول معه للورشة، ولكن لا فائدة.. السوق متوقف، ليس عند عبدالله فقط، ولكنها سمة الورش والمحلات الشبيهه! 

 

متعلمة أمل أكثر من عبدالله الذى خرج من المدرسة فى الصف الثانى الثانوى.. بينما حصلت هى على دبلوم فنى صناعى.. منذ 14 سنة، وبدأت تعمل فى ورشة مقص دار معروف، التى التقت فيها بعبدالله!  تخصصت هى فى قص الپنطلونات والچيبات الحريمى، وتخصص هو فى قص پنطلونات الرجال.. قبلما يقع فى غرام الشنط المشغولة والجدلية العادية والسياحية، ويترك التفصيل! مؤخرا، فوجئ عبدالله بزوجته تجلب رول قماش لينوه ملون، وبدأت العمل فى الچيبات الحريمى، مثلما أخبرته أنها بدأت تتعلم پاترون الفستان! فتعجب وسخر منها وتنبأ بفشلها، واتهمها بالخبل لأنها كبرت على التعلم (رغم أن عمرها لم يتجاوز الخامس والثلاثين)، فتخبره أن كلامه يزيدها إصرارا على المضى فى طريقها!

 

 مع الوقت، لاحظ عبدالله أن زوجته تحولت فجأة لتاجرة ماهرة، وبدأت تتصل بالنساء اللواتى تعرفهن، وتخبرهن عن استعدادها للعمل على إصلاح الملابس التى تحتاج تجديدا، كوسيلة جذب لعرض إنتاجها من الچيبات! وأنها ستأتى بنفسها لمنازل الزبونات لتلقى الطلبات.. مع الحرص على كافة الوسائل الاحترازية! وهكذا نجحت خطة أمل، وبدأت تعود لتفصيل الچيبات والفساتين! ما أجبرعبدالله على مساعدتها فى العمل، وفى الخفاء بدأ يتدرب على قص الپنطلون الرجالى ثانية!

 

 توصيل الخضار.. والأمل للبيوت

 

فى كل مرة كانت مدام بهيجة مسئولة لجنة البر والرحمة تقدم شنطة المساعدات الغذائية والملابس والاحتياجات الأخرى، إلا وتشعر بتأنيب ضمير ووجع قب بسبب دموع سعاد وألمها؛ لإحساسها بصغر النفس؛ وهى تندب حظها فى الدنيا التى جعلتها يتيمة،  وغير متزوجة، ولاتزال تعيش فى منزل أبيها المعدم بإيجاره الذى لم يتجاوز خمسة جنيهات، لكنها ترضى بما تقدمه لها الكنيسة من مساعدات تكتفى بها وتنتظرها من الشهر للشهر! 

 

ولأن مدام بهيجة اسم على مسمى، فكانت تنشر البهجة والابتسامة وهى تقدم العطايا لهؤلاء الغلابة احتراما لمشاعرهن، وتشجيعا لهن على تقبل العطايا بمرح وعدم انكسار، خاصة وأن معظمهن فوق الستين، أرامل أو جدات تعول أحفادها، ومنهن من شبعت عملا وتعبا، وآن لها أن تستريح، إلا سعاد! فبعد الضحك  والكلام الجميل..تبدأ فى تبكيتها لإهمال نفسهاـ واستسلامها للقهر.. ثم تبدأ فقرة تعديد الاميتازات التى منحها لها لله، فهى صغيرة وجميلة ومهندمة، وتعرف القراءة والكتابة على الأقل، ولكنها كسلانة! ولا فائدة، ما جعل مدام بهيجة تقتنع أن سعاد حالة ميئوس منها، ولكن كل شيء مستطاع عند الله!

 

ثم حدث ما لم تتوقعه سعاد، وأصدرت الكنيسة أمرا بتوقف زيارات الرحمة – إلى حين.. حتى إشعار آخر-  بسبب جائحة كورونا، خوفا على أعضاء لجنة البر والرحمة! ونظرا لهزالة التبرعات والعطايا التى يقدمها شعب الكنيسة فى ظل كورونا، حيث لم تعد كافية بالمقارنة مع عدد الأسر التى تعولها الكنيسة، ولا يمكن اتمييز بين سيدة وأخرى!

 

 وفى تلك الأثناء، تعرضت سعاد لهزة صعبة، وواجهت نفسها بأنها حقا وحيدة، وفقيرة، و..و..! وبعد ساعات من العتاب لله والبكاء على حالها، بدأ صوت مدام بهيجة يرن فى عقلها وهى تنصحها بأن تتحرك شوية وتسعى، فالكتاب يقول «تعلم من النملة أيها الكسلان»! وسريعا ما اتصلت بمدام بهيجة وأخبرتها أنها قررت البدء ببيع الخضار فى الشارع، فنصحتها بهيجة بأن تبدأ من بيتها، ولا تخرج للشارع فى ظل هذه الظروف! ووعدتها بتقديم بعض عناوين بعض السيدات لتوصيل خضارها إليهن، بشرط النظافة التامة وعدم الجشع، والالتزام بالتعقيم والتباعد الاجتماعى وارتداء الجوانتى! 

 

قدمت لها مدام بهيجة مبلغا من المال، وعلمتها بعض مهارات تقطيع الخضار وتغليفه، وكيفية مراعاة إجراءات النظافة! وهكذا انطلقت سعاد.. التى منذ شهرين، وزبائنها تشهد أنها صارت أكثر إشراقا وجمالا! أما هى، فقد تكاد تكون الوحيدة التى تشكر الله على  جائحة كورونا، فلولاها  لما كانت تعلمت شيئا، ولظلت تندب حظها!